السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

ولما بين تعالى أنّ الذين كفروا أضلّ أعمالهم ، وأن اعتبار الإنسان بالعمل ، ومن لا عمل له فهو همج إعدامه خير من وجوده سبب عنه . قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا } أيها المؤمنون في المحاربة ، وقوله تعالى : { فضرب الرقاب } أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول ، ضماً إلى التأكيد الاختصار والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء ، لأنّ المؤمن هنا ليس بدافع إنما هو رافع ، وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أولاً أن يقصد مقتله بل يتدرج ويضرب غير المقتل ، فإن اندفع فذاك ، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود رفعهم من وجه الأرض ؛ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم ، بخلاف دفع الصائل . فالرقبة أظهر المقاتل وقطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك والرقبة ظاهرة في الحرب ، ففي ضربها حز العنق ، وهو مستلزم للموت ، بخلاف سائر المواضع ، ولاسيما في الحرب وفي قوله تعالى : { لقيتم } ما ينبئ عن مخالفتهم الصائل ؛ لأن قوله تعالى { لقيتم } يدل على أنّ القصد من جانبهم ، بخلاف قولنا : لقيكم ولذلك قال تعالى في غير هذا الموضع { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } [ البقرة : 191 ] .

{ حتى إذا أثخنتموهم } أي : أكثرتم فيهم القتل ، وهذه غاية الأمر بضرب الرقاب ، لا لبيان غاية القتل . { فشدّوا } أي : فأمسكوا عن القتل وأسروهم { الوثاق } أي : ما يوثق به الأسرى وقوله تعالى : { فإما مناً بعد } أي : في جميع أزمان ما بعد الأسر { وإما فداء } فيه وجهان أشهرهما : أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره ، لأنّ المصدر متى سيق تفصيلاً لعاقبة جملة ، وجب نصبه بإضمار فعل لا يجوز إظهاره ، والتقدير : فإما أن تمنوا مناً أي : بإطلاقهم من غير شيء ، وإما أن تفدوا فداء أي : تفادوهم بمال أو أسرى مسلمين ومثل هذا قول القائل :

لأحمدنّ فإما درء واقعة *** تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل

والثاني : قاله أبو البقاء أنهما مفعولان بهما لعامل مقدّر تقديره : أولوهم مَنَّاً ، واقبلوا منهم فداء قال أبو حيان : وليس بإعراب نحوي وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } أي : أثقالها من السلاح وغيره بأن يسلم الكافر ، أو يدخل في العهد ، مجاز وقيل : هو من مجاز الحذف أي : أهل الحرب وهو غاية للقتل والأسر . والمعنى أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى تدخل الملل كلها في الإسلام ، ويكون الدين كله لله ، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال وذلك عند نزول عيسى عليه السلام وجاء في الحديث : «الجهاد حاضر منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال » وقال الفراء حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم .

تنبيه : اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله تعالى { فإمّا تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم } [ الأنفال : 57 ] وبقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وإليه ذهب قتادة والضحاك والسدّي وابن جريج وهو قول الأوزاعي ، وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز المّن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء وذهب آخرون إلى أنّ الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم ، أو يسترقهم أو يمنّ عليهم فيطلقهم بغير عوض . أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمر ، وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قال ابن عباس رضي الله عنهما لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى { فإما مناً بعد وإما فداء } وهذا هو الأصح والاختيار لأنه عمل به صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده ، روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال ، فربطوه في سارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا ذم وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت ، حتى كان الغد فقال له صلى الله عليه وسلم ما عندك يا ثمامة ؟ قال : عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى إذا كان بعد الغد ، قال : ما عندك يا ثمامة قال : عندي ما قلت لك ؟ . قال : أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ . والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك ، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ . وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يعتمر . فلمّا قدم مكة ، قال له قائل : صبوت قال : لا ، ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم .

وعن عمران بن حصين قال : أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف .

قوله تعالى : { ذلك } يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار افعلوا قال الرازي : ويحتمل أن يقال : ذلك واجب . أو مقدّم كما يقول القائل إن فعلت فذاك . أي : فذاك مقصود ومطلوب ، قال المفسرون : ومعناه ذلك الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار . { ولو يشاء الله } أي : الملك الأعظم الذي له جميع الكمال { لاتنصر منهم } أي : بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً ، فيهلكهم بأن لا يبقي منهم أحداً وكفاكم أمرهم بغير قتال .

{ ولكن } أمركم بذلك { ليبلو } أي يختبر { بعضكم ببعض } أي يفعل في ذلك فعل المختبر ، ليرتب عليه الجزاء فيصير من قتل من المؤمنين إلى الجنة ومن قتل من الكافرين إلى النار .

فإن قيل : فما فائدة الابتلاء مع حصول العلم عند المبتلي ، فإذا كان الله تعالى عالماً بجميع الأشياء فأي فائدة فيه ؟ أجيب : بأن هذا السؤال كقول القائل : لم عاقب الكافر وهو مستغن ؟ ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضرّ ؟ وجوابه : { لا يسأل عما يفعل } [ الأنبياء : 23 ] . ونزل يوم أحد لما فشا في المسلمين القتل والجراحات { والذين قتلوا في سبيل الله } أي : لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال { فلن يضلّ } أي : لا يضيع ولا يبطل { أعمالهم } وقرأ أبو عمرو وحفص : بضم القاف وكسر التاء مبنياً للمفعول على معنى أنه أصاب القتل بعضهم كقوله تعالى { قاتل معه ربيون } [ آل عمران : 146 ] والباقون بفتح القاف والتاء وألف بينهما أي جاهدوا .