فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

{ فإذا لقيتم } الفاء لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام ؛ أي فإذا كان الأمر كما ذكر فإذا لقيتم في المحاربة { الذين كفروا } أي المشركين . ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب { فضرب الرقاب } قال الزجاج : أي فاضربوا الرقاب ضربا ، وقيل : هو منصوب على الإغراء ، قال أبو عبيدة : هو كقولهم يا نفس صبرا ، وقيل : التقدير أقصدوا ضرب الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها ، لا أن الواجب ضرب الرقبة خاصة لأن هذا لا يكاد يتأتى حالة الحرب ، وإنما يتأتي القتل في أي موضع كان من الأعضاء ، وقيل : لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل ، وهي حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه ، وأحسن أعضائه .

{ حتى إذا أثخنتموهم } غاية للأمر بضرب الرقاب ، لا لبيان غاية القتل وهو مأخوذ من الشيء الثخين أي الغليظ ، وفي المصباح أثخن في الأرض إثخانا سار إلى العدو وأوسعهم قتلا ، وأثخنته أوهنته بالجراحة ، وأضعفته وقد مضى تحقيق معناه في الأنفال ، والمعنى إذا أثقلتموهم وقهرتموهم بالقتل والجراح ومنعتموهم النهوض والحركة .

{ فشدوا الوثاق } بالفتح القيد والحبل ، ويجيء بالكسر اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط ، قال الجوهري وأوثقه في الوثاق بكسر الواو لغة فيه والجمع وثق مثل رباط وربط وعناق وعنق ، قرأ الجمهور فشدوا بضم الشين ؛ وقرئ يكسرها ، وإنما أمر سبحانه بشد الوثاق لئلا يفوتوا وينفلتوا أو المعنى إذا بالغتم في قتلهم وأكثرتم القتل فيهم أمسكوا عنهم وأسروهم واحفظوهم بالوثاق .

{ فإما منا بعد ، وإما فداء } قرأ الجمهور بالمد ، وقرئ بالقصر أي فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر وشد الوثاق منا أو تفدوا فداء ، والمن الإطلاق بغير عوض والفداء ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر ، ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم ، وإنما قدم المن على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق ولهذا كانت العرب تفتخر به كما قال شاعرهم :

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

قال ابن عباس في الآية : جعل الله النبي والمؤمنين بالخيار في الأساري إن شاؤوا قتولهم ، وإن شاؤوا استعبدوهم ، وإن شاؤوا فادوهم ، وعنه أيضا قال : هذا منسوخ نسختها : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } وعن الحسن قال : أتى الحجاج بأساري فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله فقال ابن عمر ليس بهذا أمرنا إنما قال الله : { حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء } .

وعن ليث قال : قلت لمجاهد بلغني أن ابن عباس قال لا يحل قتل الأساري لأن الله قال : { فإما منا بعد وإما فداء } ، فقال مجاهد : لا تعبأ بهذا شيئا أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلهم ينكر هذا ويقول هذه منسوخة ، إنما كانت في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين ، فأما اليوم فلا ، يقول الله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } أو يقول : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } فإن كان مشركوا العرب لم يقبل منهم إلا الإسلام فإن لم يسلموا فالقتل ، وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا فالمسلمون فيهم بالخيار ، إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استحيوهم ، وإن شاؤوا فادوهم إذا لم يتحولوا عن دينهم فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا .

" ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قتل الصغير والمرأة والشيخ الفاني " ، ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال :

{ حتى تضع الحرب أوزارها } أوزار الحرب آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع ، أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز والمعنى أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور الأربعة إلى غاية هي أن لا تكون حرب مع الكفار بأن لا تبقى لهم شوكة ، قال مجاهد : المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام ، وبه قال الحسن والكلبي ، قال الكسائي : حتى يسلم الخلق ، وقال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر ، أي : لا يبقى إلا مسلم أو مسالم ، وقيل : المعنى حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم ، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة .

وروي عن الحسن وعطاء أنهما قالا : في الآية تقديم وتأخير ، والمعنى فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزراها ، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ، وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فقيل : أنها منسوخة في أهل الأوثان ، وأنه لا يجوز أن يفادوا ، ولا يمن عليهم ، والناسخ لها قوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ، وقوله : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم } وقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وكثير من الكوفيين قالوا : والمائدة آخر ما نزل فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه ، كالنساء والصبيان ، ومن تأخذ منه الجزية ، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة .

وقيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ، روي ذلك عن عطاء وغيره ، وقال كثير من العلماء : إن الآية محكمة وإن الإمام مخير بين القتل والأسر ، وبعد الأسر مخير بين المن والفداء ، وبه قال مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيدة وغيرهم ، وهذا هو الراجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك ، وقال سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف ، لقوله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ، فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره .

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماما مهديا ، وحكما عدلا ، فيكسر ، الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، وتضع الحرب أوزارها " ، رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه .

وعن سلمة بن نفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من حديث قال : " ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج{[1486]} " ، رواه ابن مردويه وابن سعد وأحمد والنسائي والبغوي والطبراني .

والحاصل أن حتى غاية لأحد الأمور الأربعة أو للمجموع عند الشافعي وأما عند أبي حنيفة فإن حمل الحرب على حرب بدر فهي غاية للمن والفداء وإن حملت على الجنس فهي غاية للضرب والشد والمراد بالوضع ترك القتال ، ولو كان الشخص متقلدا بآلته .

{ ذلك } أي الأمر ذلك ، وقيل : ذلك حكم الكفار ، وقيل : افعلوا ذلك { ولو يشاء لانتصر منهم } يعني أن الله قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم ، وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب ، كالخسف أو الرجفة أو غير ذلك بغير قتل { ولكن } أمركم بحربهم { ليبلو بعضكم ببعض } أي ليختبر فيعلم المجاهدين في سبيله ، والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم ، ويعذب الكفار بأيديهم { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم } قرأ الجمهور : قاتلوا مبنيا للفاعل ، وقرئ قتلوا مخففا ومشددا مبنيا للمفعول ، وقرئ قتلوا على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف ، والمعنى على الأولى والرابعة أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع وعلى الثانية والثالثة أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيع الله سبحانه أجرهم قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في يوم أحد ، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل ،


[1486]:وذلك من علامات الساعة.