فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب }

وما دام الكفار جند الباطل ، وأحرص ما يكونون على إطفاء نور الله ، وإضلال من آمن به ؛ فإذا واجهناهم محاربين ، فعهد ربنا إلينا أن نَعْمد إلى قتلهم وقطع رقابهم .

والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا *** فالحرب أجدى على الدنيا من السلم

والله العليم العظيم يأمرنا في شخص نبيه الكريم بأمره الحكيم : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون }{[4800]} .

قال الزمخشري : { لقيتم } من اللقاء وهو الحرب ، و{ ضرب } نصب على المصدر لفعل محذوف [ والأصل ] : اضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل ، وقدم المصدر وأنيب منابه مضافا إلى المفعول .

وقال الحمصي : . . و{ ضرب الرقاب } مجاز مرسل عن القتل ، عبر عنه إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن ، وتصويرا له بأشنع صورة ، لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه . . وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنّهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب .

وعلماء أحكام القرآن كالماوردي ، وابن العربي ، والقرطبي على أن هذا التشريع في كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة . . لعموم الآية فيه{[4801]} .

{ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } .

{ أثخنتموهم } قهرتموهم وغلبتموهم ، أو أكثرتم فيهم الجراح حتى أوهنتموهم وأضعفتموهم ، أو تمكنتم وتسلطتم عليهم .

و{ الوثاق } ما يحكم به القيد ويربط ، أو الحبل ونحوه يشد به الأسير والدابة .

{ منا } إحسانا وإنعاما ، واستنقاذا من قتل وما أشبهه .

{ فداء } شراء لأنفسهم واستنقاذا ، وفكاك الأسير إذا أعطى مالا مقابل خلاصه ، أو أعطى رجلا فداءه فأنقذه .

{ أوزارها } أسلحتها وأُثقالها وعدّتها ، أو آثامها وشرها حتى لا يبق إلا مسلم أو مسالم ؛ و{ . . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . . }{[4802]} .

بدأت الآية الكريمة- كما أسلفنا القول- ببيان أمر الله تعالى بضرب الرقاب حين لقاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم جعل أمد ذلك- في ثنايا الآية الكريمة- أن يضع الأعداء المحاربون سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة ، فإذا قهرناهم وغلبناهم ومكّن الله لنا وسلّطنا عليهم أسرنا من بقي من جندهم ؛ ولقائد المسلمين بعد ذلك أن يطلق أسرى الكفار إحسانا وإنعاما عليهم- دون مقابل- أو أن يُسرّحهم مقابل فدية من مال ، أو رجال- كأن نفتدي بهم بعض أسارى المسلمين- .

مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن : { فشدوا الوثاق } أي إذا أسرتموهم . . وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يُفلتوا . . و{ منّا } و{ فداء } نصب بإضمار فعل . . أي فإما أن تمنّوا عليهم منا ، وإما أن تفادوهم فداء . . قدم رجل إلى الحجاج من كِندة وهو يقتل بعض من أسر في حرب مع مناوئين له فقال : يا حجاج ! لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا . قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء . . } في حق الذين كفروا ، فو الله ما مننت ولا فَديْْت وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم *** إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

فقال الحجاج : أفّ لهذه الجيف ! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام ؟ ! خلوا سبيل من بقي ؛ فخلى يومئذ عن بقية الأسرى ، وهم زهاء ألفين ، بقول ذلك الرجل .

ونقل عن قتادة ومجاهد : إذا أُسِر المشرك لم يجز أن يُمَنّ عليه ، ولا أن يُفادى به فيرد إلى المشركين ؛ ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة ، لأنها لا تقتل ؛ والناسخ لهذه الآية الكريمة التي في سورة براءة :

{ . . فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . . }{[4803]} .

إذا كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف ، فوجب أن يُقتل كلّ مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ، ومن يؤخذ منه الجزية ، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة ، خيفة أن يعود حربا للمسلمين . . أو أن الآية محكمة . والإمام مخير في كل حال .

وأورد صاحب روح المعاني ما حاصله : وفي حكم الأسارى خلاف ، فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلى الله عليه وسلم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث لأن في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية ؛ وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فإن فعل بلا ملجئ كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزّره . . . وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام ، وإن شاء تركهم ذمة أحرارا للمسلمين . . بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم ؛ ولا يفادى بالأسارى في إحدى الروايتين عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حربا علينا ، ودفع شر حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط ، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين ، والرواية الأخرى عنه أنه يفادى وهو قول محمد ، وأبي يوسف ، والإمام الشافعي ، ومالك ، وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم ؛ ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم ، وهذه رواية السير الكبير ؛ قيل : وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها ؛ وعند محمد تجوز بكل حال . . ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة ، وما ذكر من الضرر الذي يعود علينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم ، لأنه ضرر شخص واحد مثله ظاهرا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح . ثم إنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أخرج مسلم وأبو داود . . عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين . ويحتج لمحمد بما أخرجه مسلم عن إياس ابن مسلمة عن أبيه مسلمة قال : خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمّره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال : ( يا مسلمة هب لي المرأة ) يعني التي نفله أبو بكر إياها- فقلت : يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا ، ثم لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الغد في السوق فقال : ( يا مسلمة هب لي المرأة لله أبوك ) فقلت : هي لك يا رسول الله فو الله ما كشفت لها ثوبا ، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة ؛ ولا يفادى بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد ، إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر ؛ وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بيّن في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علينا .

وفي السير الكبير أنه لا بأس إذا كان بالمسلمين حاجة ؛ قيل ، استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال ؛ وأما المن على الأسارى- وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى الله عليه وسلم منّ على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع-على ما ذكره ابن إسحق بسنده ، وأبو داود من طريقه إلى عائشة- لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بناءه عليها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رقّ لها رقة شديدة ، وقال لأصحابه : ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها ) ففعلوا ذلك ، مغتبطين به . ورواه الحاكم وصححه ، وزاد : ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يُخلّى زينب إليه ففعل ) . ومنّ صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه ، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة . ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام : ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر- لتركتهم له ) ، فإنه أخبر- وهو الصادق المصدوق- بأنه يطلقهم لو سأله المطعم ، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة ، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه جوازه شرعا .

{ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم( 4 ) } .

الذي بُيِّنَ لكم هو حكم الكفار ؛ ولو أراد الله القوي المتين لهزم الكفار ونصركم عليهم بدون قتال ، لكنه- تبارك اسمه- أراد أن يعاملكم معاملة المختبر فيظهر منكم أهل الجهاد والصبر ؛ والذين استشهدوا وماتوا من أجل أن تعلو كلمة الله فلن يضيع ربنا أعمالهم .

عن المقدم بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، [ ويحلى حلة الإيمان ويزوج من الحور العين ] ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتي وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه ) وقد أخرجه الترمذي ؛ وصححه ؛ وابن ماجه .

روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ : اعل هبل ؛ ونادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ ! فنادى المشركون : يوم بيوم ، بدر ، وإن الحرب سجال ، لنا العزّى ولا عزّى لكم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة : أما قتلانا فأحياء عند ربهم يرزقون ، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون ) .


[4800]:سورة الأنفال الآية 57.
[4801]:الجامع لأحكام القرآن ج16، ص225.
[4802]:سورة البقرة من الآية 193.
[4803]:من الآية 5.