{ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب }
وما دام الكفار جند الباطل ، وأحرص ما يكونون على إطفاء نور الله ، وإضلال من آمن به ؛ فإذا واجهناهم محاربين ، فعهد ربنا إلينا أن نَعْمد إلى قتلهم وقطع رقابهم .
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا *** فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
والله العليم العظيم يأمرنا في شخص نبيه الكريم بأمره الحكيم : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون }{[4800]} .
قال الزمخشري : { لقيتم } من اللقاء وهو الحرب ، و{ ضرب } نصب على المصدر لفعل محذوف [ والأصل ] : اضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل ، وقدم المصدر وأنيب منابه مضافا إلى المفعول .
وقال الحمصي : . . و{ ضرب الرقاب } مجاز مرسل عن القتل ، عبر عنه إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن ، وتصويرا له بأشنع صورة ، لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه . . وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنّهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب .
وعلماء أحكام القرآن كالماوردي ، وابن العربي ، والقرطبي على أن هذا التشريع في كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة . . لعموم الآية فيه{[4801]} .
{ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } .
{ أثخنتموهم } قهرتموهم وغلبتموهم ، أو أكثرتم فيهم الجراح حتى أوهنتموهم وأضعفتموهم ، أو تمكنتم وتسلطتم عليهم .
و{ الوثاق } ما يحكم به القيد ويربط ، أو الحبل ونحوه يشد به الأسير والدابة .
{ منا } إحسانا وإنعاما ، واستنقاذا من قتل وما أشبهه .
{ فداء } شراء لأنفسهم واستنقاذا ، وفكاك الأسير إذا أعطى مالا مقابل خلاصه ، أو أعطى رجلا فداءه فأنقذه .
{ أوزارها } أسلحتها وأُثقالها وعدّتها ، أو آثامها وشرها حتى لا يبق إلا مسلم أو مسالم ؛ و{ . . حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله . . }{[4802]} .
بدأت الآية الكريمة- كما أسلفنا القول- ببيان أمر الله تعالى بضرب الرقاب حين لقاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم جعل أمد ذلك- في ثنايا الآية الكريمة- أن يضع الأعداء المحاربون سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة ، فإذا قهرناهم وغلبناهم ومكّن الله لنا وسلّطنا عليهم أسرنا من بقي من جندهم ؛ ولقائد المسلمين بعد ذلك أن يطلق أسرى الكفار إحسانا وإنعاما عليهم- دون مقابل- أو أن يُسرّحهم مقابل فدية من مال ، أو رجال- كأن نفتدي بهم بعض أسارى المسلمين- .
مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن : { فشدوا الوثاق } أي إذا أسرتموهم . . وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يُفلتوا . . و{ منّا } و{ فداء } نصب بإضمار فعل . . أي فإما أن تمنّوا عليهم منا ، وإما أن تفادوهم فداء . . قدم رجل إلى الحجاج من كِندة وهو يقتل بعض من أسر في حرب مع مناوئين له فقال : يا حجاج ! لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا . قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء . . } في حق الذين كفروا ، فو الله ما مننت ولا فَديْْت وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم *** إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فقال الحجاج : أفّ لهذه الجيف ! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام ؟ ! خلوا سبيل من بقي ؛ فخلى يومئذ عن بقية الأسرى ، وهم زهاء ألفين ، بقول ذلك الرجل .
ونقل عن قتادة ومجاهد : إذا أُسِر المشرك لم يجز أن يُمَنّ عليه ، ولا أن يُفادى به فيرد إلى المشركين ؛ ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة ، لأنها لا تقتل ؛ والناسخ لهذه الآية الكريمة التي في سورة براءة :
{ . . فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . . }{[4803]} .
إذا كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف ، فوجب أن يُقتل كلّ مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ، ومن يؤخذ منه الجزية ، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة ، خيفة أن يعود حربا للمسلمين . . أو أن الآية محكمة . والإمام مخير في كل حال .
وأورد صاحب روح المعاني ما حاصله : وفي حكم الأسارى خلاف ، فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلى الله عليه وسلم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث لأن في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية ؛ وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فإن فعل بلا ملجئ كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزّره . . . وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام ، وإن شاء تركهم ذمة أحرارا للمسلمين . . بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم ؛ ولا يفادى بالأسارى في إحدى الروايتين عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حربا علينا ، ودفع شر حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط ، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين ، والرواية الأخرى عنه أنه يفادى وهو قول محمد ، وأبي يوسف ، والإمام الشافعي ، ومالك ، وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم ؛ ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم ، وهذه رواية السير الكبير ؛ قيل : وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها ؛ وعند محمد تجوز بكل حال . . ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة ، وما ذكر من الضرر الذي يعود علينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم ، لأنه ضرر شخص واحد مثله ظاهرا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح . ثم إنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخرج مسلم وأبو داود . . عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين . ويحتج لمحمد بما أخرجه مسلم عن إياس ابن مسلمة عن أبيه مسلمة قال : خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمّره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال : ( يا مسلمة هب لي المرأة ) يعني التي نفله أبو بكر إياها- فقلت : يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا ، ثم لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الغد في السوق فقال : ( يا مسلمة هب لي المرأة لله أبوك ) فقلت : هي لك يا رسول الله فو الله ما كشفت لها ثوبا ، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة ؛ ولا يفادى بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد ، إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر ؛ وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بيّن في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علينا .
وفي السير الكبير أنه لا بأس إذا كان بالمسلمين حاجة ؛ قيل ، استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال ؛ وأما المن على الأسارى- وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى الله عليه وسلم منّ على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع-على ما ذكره ابن إسحق بسنده ، وأبو داود من طريقه إلى عائشة- لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بناءه عليها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رقّ لها رقة شديدة ، وقال لأصحابه : ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها ) ففعلوا ذلك ، مغتبطين به . ورواه الحاكم وصححه ، وزاد : ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يُخلّى زينب إليه ففعل ) . ومنّ صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه ، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة . ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام : ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر- لتركتهم له ) ، فإنه أخبر- وهو الصادق المصدوق- بأنه يطلقهم لو سأله المطعم ، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة ، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه جوازه شرعا .
{ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم( 4 ) } .
الذي بُيِّنَ لكم هو حكم الكفار ؛ ولو أراد الله القوي المتين لهزم الكفار ونصركم عليهم بدون قتال ، لكنه- تبارك اسمه- أراد أن يعاملكم معاملة المختبر فيظهر منكم أهل الجهاد والصبر ؛ والذين استشهدوا وماتوا من أجل أن تعلو كلمة الله فلن يضيع ربنا أعمالهم .
عن المقدم بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، [ ويحلى حلة الإيمان ويزوج من الحور العين ] ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتي وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه ) وقد أخرجه الترمذي ؛ وصححه ؛ وابن ماجه .
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ : اعل هبل ؛ ونادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ ! فنادى المشركون : يوم بيوم ، بدر ، وإن الحرب سجال ، لنا العزّى ولا عزّى لكم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة : أما قتلانا فأحياء عند ربهم يرزقون ، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون ) .