تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

الآية 4 وقوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } كقوله{[19401]} في آية أخرى : { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } [ الأنفال : 12 ] .

جائز أن يكون قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرّقاب } في القتال والحرب ، وكذلك قوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } في الحرب والقتال أيضا ؛ يضربون ، ويقتلون على ما يظفرون ، ويقدرون [ على ضربهم في ]{[19402]} المفاصل [ وغير المفاصل وفي كل موضع ، ويكون قوله : { فاضربوا فوق الأعناق } في المفاصل التي ليس فيها كسر عظم ولا شيء من ذلك ]{[19403]} ولكن إبانة من المفصل ، والله أعلم ، لما رُوي في الخبر : ( إذا قتلتم فأحسنوا القِتل ) [ بنحوه مسلم 1955 ] وحُسن القتل أن يُضرَب ، ويُبان من المفصل ، والله أعلم .

فعلى هذا جائز أن يخرّج تأويل قوله تعالى : { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } وتأويل قوله : { فضرب الرقاب } وجائز /512-ب/ أن يكون لا على التقديم والتأخير والإضمار ، ولكن كل آية على نظم ما ذكر ، والله أعلم .

ثم إن كان على ما ذكرنا من التقديم والتأخير والإضمار فيكون كأنه قال تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا } فاضربوا الرقاب { حتى إذا أثخنتُموهم } وأسرتُموهم { فاضربوا فوق الأعناق } لأن الإمام بالخيار عندنا : إذا أخذهم ، وظفر بهم ، إن شاء قتلهم ، وإن شاء منّ عليهم ، وتركهم بالجزية لقوله تعالى : { حتى يُعطوا الجزية عن يد } [ التوبة : 29 ] ويكون قوله : { فشدّوا الوثاق } أي هذا في المنّ ؛ يستوثقهم بالمواثيق ، وإن شاء فاداهم .

لكنهم اختلفوا في المفاداة ؛ قال بعضهم : يفدون بالأموال أُسراء المسلمين منهم ، وقال بعضهم : يفادون بالأُسَراء منهم ، ولكن لا أن يُفادوا بالأموال ، وهو قولنا ، وقال بعضهم : لا يفادون بأُسراء المسلمين ولا بالأموال ، وهو قول أبي حنيفة ، رحمه الله .

واختلفوا في قتل الأُسراء منهم ؛ قال بعضهم : لا يُقتلون ، ولكن يُمنّ عليهم ، أو يُفادون ، وقال بعضهم : الإمام بالخيار : إن شاء قتلهم ، وإن شاء منّ عليهم ، وإن شاء فاداهم بالأُسراء من المسلمين .

أما القتل فلما ذكرنا من الاستدلال بقوله : { فاضربوا فوق الأعناق } ولما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استشار أبا بكر وعمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم عند ذلك في أُسارى بدر ، فأشاروا إلى المنّ عليهم والترك ، وأشار عمر إلى القتل فيهم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : ( لو جاءت من السماء نار ما نجا منكم إلا عمر ) أو كلام نحوه .

[ دلّ ]{[19404]} أن الحُكم فيهم القتل ، أعني في هؤلاء الذين حكم فيهم عمر رضي الله عنه بالقتل . لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما نجا منكم إلا عمر ) فدلّ هذا الخبر أن [ للإمام أنْ ]{[19405]} يقتُل أسارى الشّرك ، وله أن يمنّ عليهم بالترك بالجزية في حق أهل الكتاب والعَجَم ؛ فإنه لما جاز لنا في الابتداء أن نأخذ منهم الجزية إذا أبوا الإسلام وتركُهم على ما هم عليه . فعلى ذلك بعد الظفر بهم والقدرة عليهم .

ثم قال بعضهم : الآية ، وهو قوله تعالى : { فإمّا مَنّا بعد وإمّا فداءً } يخالف من حيث الظاهر لقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم } [ التوبة : 5 ] ونحو ذلك ، ولكن أمكن التوفيق بين الآيتين : هذه في قوم والأخرى في قوم آخرين ، أو هذه في وقت ، والأخرى في وقت آخر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } قال بعضهم : حتى يخرج عيسى ابن مريم عليه السلام فعند ذلك تذهب الحروب والقتال ، أي اقتلوهم ، وافعلوا بهم ما ذكر إلى وقت خروج عيسى عليه السلام .

وقال بعضهم : { حتى تضع الحرب أوزارها } أي حتى يضعوا أسلحتهم ، ويتركوا القتال .

وقال بعضهم : حتى يذهب الكفر والشرك ، ولا يكون الدين إلا دين الإسلام ، وهو كقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ البقرة : 193 ] أي مشرك وكُفر ، والله أعلم .

قيل : الإثخان ، هو الغلبة والقهر بالقتل والجراح .

وقال أبو عوسجة : { أثخنتموهم } أي أكثرثُم فيهم القتل والجراحة ، يقال في الكلام : ضربته حتى أثخنتُه حتى لا يقدر أن يتحرك . والوثاق ما أوثقت به كل يديَ الرجل أو رجليه ؛ يقال : أوثقته ، واستوثقت منه .

وقوله تعالى : { أوزارها } أي أثقالها ، واحدها : وِزر ، وهو الثّقل .

وقال القتبيّ : { حتى تضع الحرب أوزارها } أي يضع أهل الحرب السلاح . وأصل الوزر ما حملته ، فسمّي السلاح وزرا لأنه يُحمل ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم } قوله : { ذلك } أي ذلك الذي أمرهم{[19406]} به من أول ما ذكر من قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرْب الرقاب } إلى قوله { حتى تضع الحرب أوزارها } والله أعلم .

وقوله تعالى : { لو شاء الله تعالى لانتصر منهم } لأوليائه من أعدائه بلا قتال ولا نصب الحروب في ما بينهم .

ثم انتصاره منهم يكون مرّة بأن يُهلكهم إهلاكا ، ويقهرهم قهرا ، ومرة ينصر منهم بأن يسلّط عليهم أضعف خلقه وأخسّهم ، فيقهرهم بأضعف خلقه .

وقوله تعالى : { ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض } أي يمتحن بعضكم بقتال بعض وبأنواع المحن ؛ أنشأ الله عز وجل هذا البشر في ظاهر الأحوال بعضهم مشابها لبعض غير مخالف بعضهم بعضا ؛ فإنما يظهر الاختلاف{[19407]} بالامتحان بأنواع المحن على اختلاف الأحوال .

فعند ذلك يظهر المُصدّق من المُكذّب والمُحقّ من المُبطل والموافق من المخالِف والمتحقّق من المضطرب والموقن من الشاكّ على ما ذكر تعالى : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [ الأعراف : 168 ] [ وذكر ]{[19408]} : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] وذكر{[19409]} : { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا } [ الملك : 2 ] وغير ذلك من الآيات التي ذكر الاختلاف والامتحان{[19410]} فيها باختلاف الأحوال التي عند ذلك ، يظهر ما ذكر من التصديق والتكذيب والتحقيق [ وغير ذلك ]{[19411]} .

ثم لو كان ، جل ، وعلا ، انتصر لأوليائه من أعدائه بما ذكرنا بأن ينصُرهم على أعدائهم نصرا بلا امتحان وكلفة منه لأوليائه لكان التوحيد وله والتصديق لرسله بحق الاضطرار لا بحق الاختيار ، لأنهم إذا رأوا أنهم يُستأصلون ، ويُهلكون إهلاكا بخلافهم إياهم لكانوا لا يخالفونهم ، بل يوافقونهم مخافة الهلاك والاستئصال ، فيرتفع الابتلاء والامتحان عنهم ، فلا يظهر المختار من غيره . ولذلك كان ما ذكرنا ، والله أعلم .


[19401]:في الأصل وم: وقال
[19402]:في الأصل وم: بهم من.
[19403]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[19404]:من م، ساقطة من الأصل.
[19405]:من م، ساقطة من الأصل.
[19406]:في الأصل وم: أمرتهم.
[19407]:في الأصل وم: اختلاف.
[19408]:ساقطة من الأصل وم.
[19409]:في الأصل وم: و.
[19410]:في الأصل وم: وامتحان.
[19411]:في الأصل وم: وغيره.