الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

وقوله سبحانه : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب } الآية : قال أَكْثَرُ العلماءِ : إنَّ هذه الآية وآيةَ السَّيْفِ ، وهي قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] مُحْكَمَتَانِ ، فقوله هنا : { فَضَرْبَ الرقاب } بمثابة قوله هنالك : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ، وصرَّح هنا بذكر المَنِّ والفداء ، ولم يُصَرِّحْ به هنالك ، فهذه مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ ، وهذا هو القولُ القويُّ ، وقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } مصدر بمعنى الفِعْل ، أي : فاضربوا رقابهم وعَيَّنَ مِنْ أنواع القَتْلِ أَشْهَرَهُ ، والمراد : اقتلوهم بأَيِّ وجه أَمكَنَ ؛ وفي صحيح مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلهُ في النَّارِ أَبَداً " وفي «صحيح البخاري » عنه صلى الله عليه وسلم قال : " مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَتَمَسَّهُ النَّارُ " انتهى .

والأثخان في القوم أنْ يكثر فيهم القتلى والجرحى ، ومعنى : { فَشُدُّواْ الوثاق } أي : بمن لم يُقْتَلْ ، ولم يترتَّب فيه إلاَّ الأسْرُ ، ( مَنًّا ) و ( فِدَاءً ) : مصدران منصوبانِ بفعلَيْن مُضْمَرَيْنِ .

وقوله : { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } معناه : حتى تذهبَ الحربُ وتزولَ أثقالُهَا ، والأوزار : الأثقال ؛ ومنه قول عَمْرِو بنِ مَعْدِ يكرِبَ :

وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا *** رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورَا

واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحربُ أوزارها ، فقال قتادة : حتى يُسَلِّمَ الجميعُ ، وقال حُذَّاقُ أهل النظر : حتى تغلبوهم وتَقْتُلُوهُمْ ، وقال مجاهد : حتى ينزلَ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ ، قال ( ع ) : وظاهر اللفظ أَنَّهُ استعارةٌ يُرَادُ بها التزامُ الأمْرِ أبداً ؛ وذلك أَنَّ الحربَ بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا وكذا إلى يَوْمِ القيامةِ ، وإنَّما تريد أَنَّك تفعله دائماً .

{ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي : بعذابٍ مِنْ عنده ، ولكن أراد سبحانه اختبار المؤمنين ، وأنْ يَبْلُوَ بعضَ الناس ببعضٍ ، وقرأ الجمهور : { قَاتَلُواْ } وقرأ عاصم بخلاف عنه : { قاتلوا } بفتح القاف والتاء ، وقرأ أبو عمرو وحَفْصٌ : { قاتلوا } بضم القاف وكسر التاء ، قال قتادة : نزلَتْ هذه الآيةُ فيمَنْ قُتِلَ يوم أُحُدٍ من المؤمنين .