بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

ثم حرض المؤمنين على القتال فقال : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب } يعني : اضربوا الرقاب ، صار نصباً بالأمر ، ومعناه اضربوا الأعناق ضرباً . وروى وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ : «إِنّي لَمْ أُبْعَثُ لأُعَذِّبَ بِعَذَابِ الله ، وَإِنَّمَا بُعثْتُ بِضَرْبِ الرِّقَابِ ، وَشَدِّ الوَثَاقِ » { حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق } يعني : حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم ، فشدوا الوثاق يعني : فاستوثقوا أيديهم من خلفهم . ويقال الإثخان : أن يعطوا أيديهم ، ويستسلموا وقال الزجاج حتى أَثْخَنتُمُوهُمْ يعني : أكثرتم فيهم القتل والأسر بعد المبالغة في القتل . وقال مقاتل : حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوُهم بالسيف ، فظفرتم عليهم { فَشُدُّواْ الوثاق } يعني : الأسر .

{ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ } يعني : عتقاً بعد الأسر ، بغير فداء { وَإِمَّا فِدَاء } يعني : يفادي نفسه بماله . وروي عن إبراهيم النخعي ، أنه قال : الإمام بالخيار في الأسرى ، إن شاء فادى ، وإن شاء قتل وإن شاء استرق . وروي عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، أنه قال : لا أفادي ، وإن طلبوا بمدين من ذهب ، وذكر عن أبي بكر ، أنه كتب إليه في أسير ، التمسوا منه الفداء . فقال : اقتلوه ، لأَنْ أقتل رجلاً من المشركين أحب إليَّ من كذا وكذا .

قال أبو الليث : وقد كره بعض الناس قتل الأسير ، واحتج بظاهر هذه الآية { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } وقال أَصْحَابُنَا : لا بأس بقتله ، بالخبر الذي روي عن أبي بكر رضي الله عنهم . وروي عن ابن جريج ، وغيره من أهل التفسير ، أن هذه الآية منسوخة بقوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] ، وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ابن خطل يوم فتح مكة ، بعدما وقع في منعة المسلمين ، فهو كالأسير ، وأما الفداء : فإن فادوا بأسير من المسلمين ، فلا بأس به .

كما قال إبراهيم النخعي : إن شاء فادى بالأسير ، وإن أراد أن يفتدى بمال ، لا يجوز إلا عند الضرورة ، لأن في رد الأسير إلى دار الحرب ، قوة لهم في الحرب . فكره ذلك ، كما يكره أن يحمل إليهم السلاح . للبيع . ثم قال : { حتى تَضَعَ الحرب أوزارها } روي عن ابن عباس ، أنه قال : حتى تترك الكفار إشراكها ، ويوحدوا الرب تبارك وتعالى ، حتى لا يبقى إلا مسلم يعني : في ذمة المسلمين ، الذين يعطون الجزية ، وعن سعيد بن جبير قال : { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } قال خروج عيسى عليه السلام ، يكسر الصليب ، فيلقى الذئب الغنم ، فلا يأخذها ، ولا تكون عداوة بين اثنين ، وهكذا قال مجاهد ، وقال مقاتل { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } يعني : في مكان يقاتل سَمَّاهُم حرباً .

وقال القتبي : حتى تضع الحرب ، يعني : حتى يضع أهل الحرب السلاح .

ثم قال عز وجل : { ذلك } يعني : افعلوا ذلك ، ثم استأنف فقال { وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } بغير قتال ، يعني : يهلكهم { ولكن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } يعني : لم يهلكهم ، لكي يختبرهم بالقتال ، حتى يتبين فضلهم ، ويستوجبوا الثواب . ثم قال : { والذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله } يعني : جاهدوا عدوهم في طاعة الله تعالى . { فَلَن يُضِلَّ أعمالهم } يعني : لن يبطل ثواب أعمالهم . قرأ أبو عمرو ( قُتِلُوا ) بضم القاف بغير ألف ، وهكذا روي عن عاصم في إحدى الروايتين ، يعني : الذين قتلوا يوم أحد ، ويوم بدر وفي سائر الحروب . وقرأ الباقون { والذين قَاتِلُواْ في سَبِيلِ الله } بالنصب ، يعني : جاهدوا الكفار وحاربوهم .