قوله تعالى : { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً } ، يعني : الملائكة والمؤمنين ، { وكرهاً } ، يعني : المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسيف . { وظلالهم } ، يعني : ظلال الساجدين طوعا وهو طائع ، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره . { بالغدو والآصال } ، يعني إذا سجد الغدو أو العشي يسجد معه ظله . والآصال : جمع الأصل ، و الأصل جمع الأصيل ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس . وقيل : ظلالهم أي : أشخاصهم بالغدو والآصال : بالبكر والعشايا . وقيل : سجود الظل تذليله لما أريد له .
{ 15 } { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ }
أي : جميع ما احتوت عليه السماوات والأرض كلها خاضعة لربها ، تسجد له { طَوْعًا وَكَرْهًا } فالطوع لمن يأتي بالسجود والخضوع اختيارا كالمؤمنين ، والكره لمن يستكبر عن عبادة ربه ، وحاله وفطرته تكذبه في ذلك ، { وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } أي : ويسجد له ظلال المخلوقات أول النهار وآخره وسجود كل شيء بحسب حاله كما قال تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم }
فإذا كانت المخلوقات كلها تسجد لربها طوعا وكرها كان هو الإله حقا المعبود المحمود حقا وإلاهية غيره باطلة ، ولهذا ذكر بطلانها وبرهن عليه بقوله : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَللّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ } .
يقول تعالى ذكره : فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون من دون الله الأوثان والأصنام لله شركاء من إفراد الطاعة والإخلاص بالعبادة له ، فللّه يسجد من في السموات من الملائكة الكرام ومن في الأرض من المؤمنين به طوعا ، فأما الكافرون به فإنهم يسجدون له كَرْها حين يكرهون على السجود . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها فأما المؤمن فيسجد طائعا ، وأما الكافر فيسجد كارها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، قال : كان ربيع بن خيثم إذا تلا هذه الآية : ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها قال : بلى يا رباه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها قال : من دخل طائعا هذا طوعا ، وكرها من لم ير يدخل إلاّ بالسيف .
وقوله : وَظِلالُهُمْ بالغُدُوّ والاَصَالِ يقول : ويسجد أيضا ظلال كلّ من سجد لله طوعا وكرها بالغدوات والعشايا ، وذلك أن ظل كلّ شخص فإنه يفىء بالعشيّ كما قال جلّ ثناؤه : أوَ لمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَقَيّأ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِينِ والشّمائِلِ سُجّدا لِلّهِ وَهُمْ داخِرُونَ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَظِلالُهُمْ بالغُدُوّ والاَصالِ يعني : حين يفىء ظلّ أحدهم عن يمينه أو شماله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، قال في تفسير مجاهد : ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها وَظِلالُهُمْ بالغُدُوّ والاَصَالِ قال : ظلّ المؤمن يسجد طوعا وهو طائع ، وظلّ الكافر يسجد طوعا وهو كاره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَظِلالُهُمْ بالغُدُوّ والاَصَالِ قال : ذكر أن ظلال الأشياء كلها تسجد له ، وقرأ : سُجّدا لِلّهِ وهم دَاخِرُونَ قال : تلك الظلال تسجد لله . والاَصال : جمع أُصُل ، والأصُلُ : جمع أصيل ، وا لأصيل : هو العشيّ ، وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس قال أبو ذؤَيب :
لَعَمْرِيَ لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أهْلَهُ *** وأقْعُدُ في أفْيائِهِ بالأصَائِلِ
وقول تعالى : { ولله يسجد } الآية ، يحتمل ظاهر هذه الألفاظ : أنه جرى في طريق التنبيه على قدرة الله ، وتسخر الأشياء له فقط ، ويحتمل أن يكون في ذلك طعن على كفار قريش وحاضري محمد عليه السلام ، أي إن كنتم لا توقنون ولا تسجدون ، فإن جميع { من في السماوات والأرض } لهم سجود لله تعالى : وإلى هذا الاحتمال نحا الطبري .
قال القاضي أبو محمد : و { من } تقع على الملائكة عموماً ، وسجودهم طوع بلا خلاف ، وأما أهل الأرض فالمؤمنون منهم داخلون في { من } وسجودهم طوع ، وأما سجود الكفرة فهو الكره ، وذلك على نحوين من هذا المعنى :
فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة فالمراد من الكفرة من يضمه السيف إلى الإسلام -كما قال قتادة - فيسجد كرهاً ، إما نفاقاً ، وإما أن يكون الكره أول حاله فتستمر عليه الصفة ، وإن صح إيمانه بعد .
وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل - على حسب ما هو في اللغة كقول الشاعر :
***ترى الأكم فيه سجداً للحوافر{[6946]} . . .
فيدخل الكفار أجمعون في { من } لأنه ليس من كافر إلا وتلحقه من التذلل والاستكانة بقدرة الله أنواع اكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته .
وقال النحاس والزجاج : إن الكره يكون في سجود عصاة المؤمنين وأهل الكسل منهم .
قال القاضي أبو محمد : وإن كان اللفظ يقتضي هذا فهو قلق من جهة المعنى المقصود بالآية .
وقوله : { وظلالهم بالغدو والآصال } ، إخبار عن أن الظلال لها سجود لله تعالى بالبكر والعشيات . قال الطبري : وهذا كقوله تعالى : { أولم يروا إلى ما خلق من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله }{[6947]} [ النحل : 48 ] قال : وذلك هو فيئه بالعشي وقال مجاهد : ظل الكافر يسجد طوعاً وهو كاره . وقال ابن عباس : يسجد ظل الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله ، وحكى الزجاج أن بعض الناس قال : «الظلال » هنا يراد به الأشخاص - وضعفه أبو إسحاق .
و { الآصال } جمع أصيل{[6948]} . وقرأ أبو مجلز : «والإيصال » قال أبو الفتح : هو مصدر أصلنا أي دخلنا في الأصيل ، كأصبحنا وأمسينا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.