قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } قرأ يعقوب : ( لا تقدموا ) بفتح التاء والدال من التقدم أي : لا تتقدموا ، وقرأ الآخرون بضم التاء وكسر الدال ، من التقديم ، وهو لازم بمعنى التقدم مثل بين وتبين ، قيل : هو متعد على ظاهره ، والمفعول محذوف ، أي : لا تقدموا القول والفعل بين يدي الله ورسوله . قال أبو عبيدة : تقول العرب : لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب ، أي : لا تعجل بالأمر والنهي دونه ، والمعنى : بين اليدين الأمام . والقدام ، أي : لا تقدموا بين يدي أمرهما ونهيهما . واختلفوا في معناه : روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى ، وهو قول الحسن ، أي لا تذبحوا قبل أن يذبح محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن ناساً ذبحوا قبل صلاة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن رحب ، حدثنا شعبة ، عن زيد ، عن الشعبي ، عن البراء قال خطبنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، قال : " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء " .
وروى مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك ، أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة ، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم ، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد بن زرارة ، قال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، قال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } حتى انقضت . ورواه نافع عن ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } إلى قوله : { أجر عظيم } ، وزاد : قال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر عن أبيه ، يعني أبا بكر . وقال قتادة : نزلت الآية في ناس كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، أو صنع في كذا وكذا ، فكره الله ذلك . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه . وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله . { واتقوا الله } ، في تضييع حقه ومخالفة أمره ، { إن الله سميع } لأقوالكم ، { عليم } بأفعالكم .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا متضمن للأدب ، مع الله تعالى ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتعظيم له ، واحترامه ، وإكرامه ، فأمر [ الله ] عباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان ، بالله وبرسوله ، من امتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وأن يكونوا ماشين ، خلف أوامر الله ، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في جميع أمورهم ، و [ أن ] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا يقولوا ، حتى يقول ، ولا يأمروا ، حتى يأمر ، فإن هذا ، حقيقة الأدب الواجب ، مع الله ورسوله ، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه ، وبفواته ، تفوته السعادة الأبدية ، والنعيم السرمدي ، وفي هذا ، النهي [ الشديد ] عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، على قوله ، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب اتباعها ، وتقديمها على غيرها ، كائنا ما كان{[792]}
ثم أمر الله بتقواه عمومًا ، وهي كما قال طلق بن حبيب : أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، تخشى عقاب الله .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } أي : لجميع الأصوات في جميع الأوقات ، في خفي المواضع والجهات ، { عَلِيمٌ } بالظواهر والبواطن ، والسوابق واللواحق ، والواجبات والمستحيلات والممكنات{[793]} .
وفي ذكر الاسمين الكريمين -بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ، والأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة ، والآداب المستحسنة ، وترهيب عن عدم الامتثال{[794]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا : يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، وبنبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهَ وَرَسُولِهِ يقول : لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم ، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله ، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله ، محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه ، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت ألفاظهم بالبيان عن معناه ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا تُقَدّموا بينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ يقول : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ ورَسُولِهِ . . . الاَية قال : نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا أيّها الّذينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ ذُكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا لوضع كذا وكذا ، قال : فكره الله عزّ وجلّ ذلك ، وقدم فيه .
وقال : الحسن : أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر ، فأمرهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : إن أُناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا ، لو أنزل في كذا ، وقال الحسن : هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا الذبح .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ يعني بذلك في القتال ، وكان من أمورهم لا يصلح أن يُقْضَى إلا بأمره ما كان من شرائع دينهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله جلّ ثناؤه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ قال : لا تقضوا أمرا دون رسول الله ، وبضم التاء من قوله : لا تُقَدّمُوا قرأ قرّاء الأمصار ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، وقد حكي عن العرب قدّمت في كذا ، وتقدّمت في كذا ، فعلى هذه اللغة لو كان قيل : «لا تَقَدّمُوا » بفتح التاء كان جائزا .
وقوله : وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول : وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم ، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله ، وفي غير ذلك من أموركم ، وراقبوه ، إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم ، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم ، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم .
بسم الله الرحمن الرحيم { يأيها الذين آمنوا لا تقدموا } أي لا تقدموا أمرا ، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن ، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأسا أو لا تتقدموا ومنه مقدمة الجيش لمتقدميهم ، ويؤيده قراءة يعقوب " لا تقدموا " . وقرئ " لا تقدموا " من القدوم . { بين يدي الله ورسوله } مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجينا لما نهوا عنه ، والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به . وقيل المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعظيم له وإشعار بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله . { واتقوا الله } في التقديم أو مخالفة الحكم . { إن الله سميع } لأقوالكم . { عليم } بأفعالكم .