محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

49 – سورة الحجرات

قال المهايميّ : سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله غاية التعظيم ، ولا يحترمه غاية الاحترام . وهو من أعظم مقاصد القرآن .

وهي مدنية ، وآيها ثمان عشرة .

وقد انفردت هذه السورة بآداب جليلة ، أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وسلم ، من التوقير والتبجيل .

بسم الله الرحمن الرحيم

1 { يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم 1 } .

{ يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } قال ابن جرير :{[6661]} أي يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله ، ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم ، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله ، فتقضوا بخلاف أمر الله ، وأمر رسوله . محكيّ عن العرب : فلان يقدم بين يدي إمامه ، بمعنى يعجل الأمر والنهي دونه . انتهى .

و { تُقَدِّمُواْ } إما متعد حذف مفعوله ، لأنه أريد به العموم ، أو أنه نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول ، كما تقول : فلان يعطي ويمنع . أو هو لازم ، فإن ( قدم ) يرد بمعنى ( تقدم ) كبيّن ، فإنه متعد ، ويكون لازما بمعنى تبيّن .

وفي هذه الجملة تجوّزان :

أحدهما – في ( بين اليدين ) ، فإن حقيقته ما بين العضوين ، فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال ، قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما . فهو من المجاز المرسل ، ثم استعيرت الجملة استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ، ومتابعة لمن يلزم متابعته ، تصويرا لهجنته وشناعته ، بصورة المحسوس ، كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره ، فنقلت العبارة الأولى ، بما فيها من المجاز ، إلى ما ذكر ، على ما عرف في أمثاله – هذا محصل ما في ( الكشاف ) و ( شروحه ) .

/ قال ابن كثير : معنى الآية : لا تسرعوا في الأشياء قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور ، حتى يدخل في عموم هذا الأدب حديث معاذ رضي الله عنه . قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : ( بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله تعالى . قال صلى الله عليه وسلم : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم : فإن لم تجد قال رضي الله عنه : أجتهد رأيي ! فضرب في صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله ) . وقد رواه أحمد{[6662]} وأبو داود{[6663]} والترمذي{[6664]} وابن ماجة{[6665]} . والغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما ، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله . انتهى .

وقد جوز أن يكون المراد ( بين يدي رسول الله ) وذكر ( الله ) لبيان قوة اختصاصه به تعالى ، ومنزلته منه ، تمهيدا وتوطئة لما بعده . وقد أيد هذا ، بأن مساق الكلام لإجلاله صلى الله عليه وسلم .

تنبيه :

قال ابن جرير : بضم التاء من قوله { لا تقدموا } قرأ قراءة الأمصار ، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها ، لإجماع الحجة من القراء عليها . وقد حكي عن العرب : قدّمت في كذا وتقدمت في كذا . فعلى هذه اللغة لو كان قيل { لا تقدموا } بفتح التاء ، كان جائزا . انتهى . وبه قرأ يعقوب فيما نقل عنه .

{ واتقوا الله } أي في التقديم أو مخالفة الحكم . والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم ، بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل : لا تفعل هذا ، وتحفظ مما يلصق العار بك . فتنهاه أولا عن عين ما قارفه ، ثم تعمّ وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه ، لم يرتكب تلك الفعلة ، وكل ما يضرب في طريقها ، ويتعلق بسببها – أشار له الزمخشريّ- .

{ إن الله سميع عليم } أي فحقيق أن يُتَّقَى ويُراقب .

تنبيه :

في ( الإكليل ) : قال إلكيا الهراسيّ : قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح . وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي ، دونه . ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء . وربما احتج به نفاة القياس ، وهو باطل منهم . ويحتج به في تقديم النص على القياس . انتهى .


[6661]:انظر الصفحة رقم 126 من الجزء السادس والعشرين.
[6662]:أخرجه في المسند بالصفحة رقم 230 من الجزء الخامس(طبعة الحلبي(.
[6663]:أخرجه في: 23 – كتاب الأقضية، 11 – باب اجتهاد الرأي في القضاء، حديث رقم 3592.
[6664]:أخرجه في: 13 – كتاب الأحكام،3- حدثنا هناد، حديث رقم 1327.
[6665]:لم يخرجه ابن ماجة.