الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية . وهي ثمان عشرة آية

قدّمه وأقدمه : منقولان بتثقيل الحشو والهمزة ، مِنْ قَدَمَهُ إذا تقدّمه ، في قوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } [ هود : 98 ] ونظيرهما معنى ونقلاً : سلفه وأسلفه . وفي قوله تعالى : { لاَ تُقَدّمُواْ } من غير ذلك مفعول : وجهان ، أحدهما : أن يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدّم . والثاني : أن لا يقصد قصد مفعول ولا حذفه ، ويتوجه بالنهي إلى نفس التقدمة ، كأنه قيل : لا تقدموا على التلبس بهذا الفعل ، ولا تجعلوه منكم بسبيل كقوله تعالى : { هُوَ الذي لاَ إله } [ غافر : 68 ] ويجوز أن يكون من قدّم بمعنى تقدّم ، كوجه وبين . ومنه مقدّمة الجيش خلاف ساقته ، وهي الجماعة المتقدّمة منه . وتعضده قراءة من قرأ : «لا تقدموا » بحذف إحدى تاءي تتقدموا ، إلا أن الأوّل أملأ بالحسن وأوجه ، وأشدّ ملاءمة لبلاغة القرآن ، والعلماء له أقبل .

وقرىء : «لا تقدموا » من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليهما . وحقيقة قولهم : جلست بين يدي فلان ، أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً ، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع ، وقد جرت هذه العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز ، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً . ولجريها هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان : وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة : والمعنى : أن لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل . وإما مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعليه يدور تفسير ابن عباس رضي الله عنه . وعن مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئاً حتى يقصه على لسان رسوله . ويجوز أن يجري مجرى قولك : سرني زيد وحسن حاله ، وأعجبت بعمرو وكرمه .

وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوّة الاختصاص ، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى : سلك له ذلك المسلك . وفي هذا تمهيد وتوطئة لما نقم منهم فيما يتولوه من رفع أصواتهم فوق صوته : لأنّ من أحظاه الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص القوي : كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت ، ويخافت لديه بالكلام . وقيل : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلاً وعليهم المنذر بن عمرو الساعدي ، فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل . إلا الثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة ، فاعتزيا لهم إلى بني عامر ، لأنهم أعز من بني سليم ، فقتلوهما وسلبوهما ، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « بئسما صنعتم كانا من سليم ، والسلب ما كسوتهما » فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت ، أي : لا تعملوا شيئاً من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن مسروق : دخلت على عائشة في اليوم الذي يشك فيه ، فقالت للجارية : اسقه عسلاً ، فقلت : إني صائم ، فقالت : قد نهى الله عن صوم هذا اليوم . وفيه نزلت . وعن الحسن : أنّ أناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر . وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، إلا أن تزول الشمس . وعند الشافعي : يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة . وعن الحسن أيضاً : لما استقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل ، فنهوا أن يبتدئوه بالمسألة حتى يكون هو المبتديء وعن قتادة : ذكر لنا أنّ ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيه كذا لكان كذا ، فكره الله ذلك منهم وأنزلها . وقيل : هي عامة في كل قول وفعل ؛ ويدخل فيه أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبقوه بالجواب ، وأن لا يمشي بين يديه إلا لحاجة ، وأن يستأني في الافتتاح بالطعام { واتقوا } فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه ، فإن التقيّ حذر لا يشافه أمراً إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه ، وهذا كما تقول لمن يقارف بعض الرذائل : لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق بك العار . فتنهاه أوّلاً عن عين ما قارفه ، ثم تعم وتشيع وتأمره بما لو امتثل فيه أمرك لم يرتكب تلك الفعلة وكل ما يضرب في طريقها ويتعلق بسببها { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لما تقولون { عَلِيمٌ } بما تعملون ، وحق مثله أن يتقى ويراقب .