قوله تعالى :{ فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ليست بسلفع من السماء خراجة ولاجة ، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها استحياء ، { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } قال أبو حازم سلمة بن دينار : لما سمع ذلك موسى أراد أن لا يذهب ، ولكن كان جائعاً فلم يجد بداً من الذهاب ، فمشت المرأة ومشى موسى خلفها ، فكانت الريح تضرب ثوبها فتصف ردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امشي خلفي ودليني على الطريق إن أخطأت ، ففعلت ذلك ، فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيأ ، فقال : اجلس يا شاب فتعش ، فقال موسى : أعوذ بالله ، فقال شعيب : ولم ذاك ألست بجائع ؟ قال : بلى ، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما ، وإنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا ، فقال له شعيب : لا والله يا شاب ، ولكنها عادتي وعادة آبائي ، نقري الضيف ، ونطعم الطعام ، فجلس موسى وأكل . { فلما جاءه وقص عليه القصص } يعني : أمره أجمع ، من قتله القبطي وقصد فرعون قتله ، { قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } يعني : فرعون وقومه ، وإنما قال هذا لأنه لم يكن لفرعون سلطان على أهل مدين .
فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى ، فجاءته { تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ } وهذا يدل على كرم عنصرها ، وخلقها الحسن ، فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة ، وخصوصا في النساء .
ويدل على أن موسى عليه السلام ، لم يكن فيما فعله من السقي بمنزلة الأجير والخادم الذي لا يستحى منه عادة ، وإنما هو عزيز النفس ، رأت من حسن خلقه ومكارم أخلاقه ، ما أوجب لها الحياء منه ، ف { قَالَتِ } له : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي : لا لِيمُنَّ عليك ، بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان ، وإنما قصده أن يكافئك على إحسانك ، فأجابها موسى .
{ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } من ابتداء السبب الموجب لهربه ، إلى أن وصل إليه { قَالَ } مسكنا روعه ، جابرا قلبه : { لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : ليذهب خوفك وروعك ، فإن اللّه نجاك منهم ، حيث وصلت إلى هذا المحل ، الذي ليس لهم عليه سلطان .
واستجاب الله - تعالى - لموسى دعاءه . وأرسل إليه الفرج سريعا ، يدل لذلك قوله - تعالى - بعد هذا الدعاء من موسى : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا . . } .
وفى الكلام حذف يفهم من السياق وقد أشار إليه ابن كثير بقوله : لما رجعت المرأتان سراعا بالغنم إلى أبيهما ، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا ، فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى - عليه السلام - . فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها ، كما قال - تعالى - : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء } اى : مشى الحرائر ، كما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال : كانت مستترة بكم درعها . أى قميصها .
ثم قال ابن كثير : وقد اختلف المفسرون فى هذا الرجل من هو ؟ على أقوال : أحدهما أنه شعيب النبى - عليه السلام - الذى أرسله الله إلى أهل مدين ، وهذا هو المشهور عند كثيرين وقد قاله الحسن البصرى وغير واحد ورواه ابن أبى حاتم .
وقد روى الطبرانى عن مسلمة بن سعد العنزى أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : مرحبا بقوم شعيب ، وأختان موسى .
وقال آخرون : بل كان ابن أخى شعيب . وقيل : رجل مؤمن من آل شعيب .
ثم قال - رحمه الله - ثم من المقوى لكونه ليس بشعيب ، أنه لو كان إياه لأوشك أن نيص على اسمه فى القرآن ها هنا . وما جاء فى بعض الأحاديث من التصريح بذكره فى قصة موسى لم يصح إسناده .
والمعنى : ولم يطل انتظار موسى للخير الذى التمسه من خالقه - عز وجل - فقد جاءته إحدى المرأتين اللتين سقى لهما ، حالة كونها { تَمْشِي عَلَى استحيآء } أى : على تحشم وعفاف شأن النساء الفضليات .
{ قَالَتْ } بعبارة بليغة موجزة : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ } للحضور إليه { لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أى : ليكافئك على سقيك لنا غنمنا .
واستجاب موسى لدعوة أبيها وذهب معها للقائه { فَلَمَّا جَآءَهُ } ، أى : فلما وصل موسى إلى بيت الشيخ الكبير ، { وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص } ، أى : وقص عليه ما جرى له قبل ذلك ، من قتله القبطى ، ومن هربوه إلى أرض مدين .
فالقصص هنا مصدر بمعنى اسم المفعول ، أى : المقصوص .
{ قَالَ } أى : الشيخ الكبير لموسى { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } أى : لا تخف يا موسى من فرعون وقومه ، فقد أنجاك الله - تعالى - منهم ومن كل ظالم .
وهذا القول من الشيخ الكبير لموسى ، صادف مكانه ، وطابق مقتضاه ، فقد كان موسى - عليه السلام - أحوج ما يكون فى ذلك الوقت إلى نعمة الأمان والاطمئنان ، بعد أن خرج من مصر خائفا يترقب .
{ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحيآء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } .
عرفت أن الفاء تؤذن بأن الله استجاب له فقيّض شعيباً أن يرسل وراء موسى ليضيفه ويزوجه بنته ، فذلك يضمن له أنساً في دار غربة ومأوى وعشيراً صالحاً . وتؤذن الفاء أيضاً بأن شعيباً لم يتريث في الإرسال وراءه فأرسل إحدى البنتين اللتين سقى لهما وهي ( صفورة ) فجاءته وهو لم يزل عن مكانه في الظل .
وذكر { تمشي } ليبني عليه قوله { على استحياء } وإلا فإن فعل ( جاءته ) مغن عن ذكر { تمشي } .
و { على } للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف . والمعنى : أنها مستحيية في مشيها ، أي تمشي غير متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة . وعن عمر بن الخطاب أنها كانت ساترة وجهها بثوبها ، أي لأن ستر الوجه غير واجب عليها ولكنه مبالغة في الحياء . والاستحياء مبالغة في الحياء مثل الاستجابة قال تعالى { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن إلى قوله ليعلم ما يخفين من زينتهن } [ النور : 31 ] .
وجملة { قالت } بدل من ( جاءته ) . وإنما بيّنت له الغرض من دعوته مبادرة بالإكرام .
والجزاء : المكافأة على عمل حسن أو سيّىء بشيء مثله في الحسن أو الإساءة ، قال تعالى { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن : 60 ] وقال تعالى { ذلك جزيناهم بما كفروا } [ سبأ : 17 ] .
وتأكيد الجملة في قوله { إن أبي يدعوك } حكاية لما في كلامها من تحقيق الخبر للاهتمام به وإدخال المسرة على المخبر به .
والأجر : التعويض على عمل نافع للمعوض ، ومنه سمي ثواب الطاعات أجراً ، قال تعالى { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } [ محمد : 36 ] . وانتصب { أجر ما سقيت لنا } على المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير ، وهو أن أراد ضيافته ، وليس هو من معنى إجارة الأجير لأنه لم يكن عن تقاول ولا شرط ولا عادة .
والجزاء : إكرام ، والإجارة : تعاقد . ويدل لذلك قوله عقبه { قالت إحداهما يا أبت استأجره } [ القصص : 26 ] فإنه دليل على أن أباها لم يسبق منه عزم على استئجار موسى . وكان فعل موسى معروفاً محضاً لا يطلب عليه جزاء لأنه لا يعرف المرأتين ولا بيتهما ، وكان فعل شعيب كرماً محضاً ومحبة لقري كل غريب ، وتضييف الغريب من سُنة إبراهيم فلا غرو أن يعمل بها رجلان من ذرية إبراهيم عليه السلام .
و { ما } في قوله { ما سقيت لنا } مصدرية ، أي سقيك ، ولام { لنا } لام العلة .
{ فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } .
كانت العوائد أن يفاتح الضيف بالسؤال عن حاله ومقدمه فلذلك قصّ موسى قصة خروجه ومجيئه على شعيب . وذلك يقتضي أن شعيباً سأله عن سبب قدومه ، و { القصص } : الخبر . و { قص عليه } أخبره .
والتعريف في { القصص } عوض عن المضاف إليه ، أي قصصه ، أو للعهد ، أي القصص المذكور آنفاً . وتقدم نظيره في أول سورة يوسف .
فطمأنه شعيب بأنه يزيل عن نفسه الخوف لأنه أصبح في مأمن من أن يناله حكم فرعون لأن بلاد مدْين تابعة لملك الكنعانيين وهم أهل بأس ونجدة . ومعنى نهيه عن الخوف نهيه عن ظن أن تناله يد فرعون .
وجملة { نجوت من القوم الظالمين } تعليل للنهي عن الخوف . ووصف قوم فرعون بالظالمين تصديقاً لما أخبره به موسى من رومهم قتله قصاصاً عن قتل خطأ . وما سبق ذلك من خبر عداوتهم على بني إسرائيل .