لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (25)

قيل إنما استحيَتْ لأنها كانت تخاطِبُ مَنْ لم يكن لها مَحْرَماً .

وقيل لمّا دَعَتْه للضيافة تكلمتْ مستحييةً - فالكريم يستحي من الضيافة .

ويقال لم تَطِبُ نَفْسُ شعيب لمَّا أَحْسَنَ موسى إليه وأنه لم يكافئه - وإن كان موسى لم يُرِدْ مكافأةً منهم { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } : لم يَقُلْ : فلما جاءَه قَدَّم السُّفْرةَ بل قال : وقصَّ عليه القصص . . وهذا طَرَفٌ من قصته .

ويقال : وَرَدَ بظاهرِه ماءَ مدين ، ووَرَدَ بقلبه موارِدَ الأُنْس والرَّوْح . والموارد مختلفة ؛ فمواردُ القلبِ رياضُ البَّسطِ بكشوفات المحاضرة فيطربون بأنواع الملاطَفَة ، ومواردُ الأرواح مشاهدُ الأرواح فيُكَاشَفون بأنوار المشاهدة ، فيغيبون عن كل إحساسٍ بالنَّفْسِ ، ومواردُ الأسرارِ ساحاتُ التوحيدِ . . وعند ذلك الولاية لله ، فلا نَفْسَ ولا حِسَّ ، ولا قلبَ ولا أُنْسَ . . استهلاكٌ في الصمدية وفناءٌ بالكليةّ !

ويقال كانت الأجنبيةُ والبعد عن المحرميَّة يوجبان إمساكه عن مخاطبتهما ، والإعراضَ والسكونَ عن سؤالهما . . ولكن الذي بينهما من المشاكلة والموافقة بالسِّرِّ استنطقة حتى سألهما عن قصتهما ، كما قيل :

أَجَارَتَنا إِنَّا غريبان ها هنا *** وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ

ويقال : لمَّا سألهما وأخبرتا عن ضعفهما لزمه القيامُ بأمرهما ؛ ليُعْلَمَ أنَّ مَنْ تَفَقَّدَ أمرَ الضعفاء ووقف على موضع فاقتهم لزمه إشكاؤُهم .

ويقال مِنْ كمالِ البلاء على موسى أَنَّه وافى الناسَ وكان جائعاً ، وكان مقتضى الرِّفْقِ أَنْ يُطْعِموه ، ولكنه قَبَضَ القلوبَ عنه ، واستقبله مِنْ موجباتِ حُكْمِ الوقتِ أَنْ يعملَ أربعين رجلاً ؛ لأن الصخرة التي نَحَّاها عن رأس البئر - وَحْدَه - كان ينقلها أربعون رجلاً ، فلمَّا عَمِلَ عَمَلَ أربعين رجلاٌ ، تولَّى إلى الظِّلِّ ، وقال : إنْ رأيتَ أَنْ تُطْعِمَني بعد مُقَاساة اللتيا والتي . . فذلك فَضْلُكَ ! .

قال ذلك بلسان الانبساط ، ولا لسانَ أحلى من ذلك . وسُنَّةُ الشكوى أن تكون إليه لا مِنْكَ . . بل منه إليه .

ويقال : تولَّى إلى ظلِّ الأُنْس ورَوْح البسط واستقلال السِّرِّ بحقيقة الوجود .

ويقال قال : { رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } : فَزِدْني فقراً ؛ فإنَّ فقري إليك يوجِبُ استعانتي بك .