السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (25)

فلما رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما ما أعجلكما قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحيماً فسقى لنا أغنامنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي { فجاءته إحداهما } ممتثلة أمر أبيها وقوله { تمشي } حال ، وقوله { على استحياء } حال أخرى ، أي : مستحيية إما من جاءته وإما من تمشي قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة ولكن جاءته مستترة وضعت كمّ درعها على وجهها استحياء ثم استأنف الإخبار بما تشوّف إليه السامع بقوله تعالى : { قالت } وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه { إن أبي } وصورت حاله بالمضارع بقولها { يدعوك ليجزيك } أي : يعطيك مكافأة لك لأن المكافأة من شيم الكرام { أجر ما سقيت لنا } أي : مواشينا ، قال ابن إسحاق : اسم الكبرى صفوراً والصغرى لبنى ، وقيل ليا ، وقال غيره : صفرا وصفيرا ، وقال الضحاك : صافورا ، وقال الأكثرون : التي جاءت لموسى الكبرى ، وقال الكلبيّ هي الصغرى ، قال الرازي وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل .

فإن قيل : في الآية إشكالات إحداها : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال صلى الله عليه وسلم : «اتقوا مواضع التهم » ، وثانيها : أنه سقى أغنامهما تقرّبا إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه وذلك غير جائز في الشريعة ، وثالثها : أنه عرف فقرهما وفقر أبيهما وأنه عليه السلام كان في نهاية القوّة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفاني الفقير والمرأة الفقيرة ، ورابعها : كيف يليق بالنبيّ شعيب عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون الرجل عفيفاً أو فاسقاً ؟ .

أجيب عن الأوّل : بأن الخبر يعمل فيه بقول المرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حرّاً كان أو عبداً ذكرا كان أو أنثى وهي ما كانت مخبرة إلا عن أبيها وأما المشي مع المرأة بعد الاحتياط والتورّع فلا بأس به ، وعن الثاني : بأن المرأة لما قالت ذلك لموسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرّك بذلك الشيخ الكبير ، لما روي أنه لما دخل على شعيب عليه السلام إذا هو بالعشاء مهيئاً فقال اجلس يا شاب فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذلك ألست بجائع قال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضاً من الدنيا ، وفي رواية لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ بالمعروف ثمناً ، فقال له شعيب لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادت آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل ، وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق يحمله ففعل ذلك اضطراراً وهو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات ، وعن الرابع : بأن شعيباً عليه السلام كان يعلم طهارة ابنته وبرائتها إما بوحي أو بغيره فكان يأمن عليها قال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه : فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فوصفت ردفها فكره موسى عليه السلام أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي أو قال موسى أني من عنصر إبراهيم فكوني خلفي حتى لا يرفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحلّ ، وفي رواية كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحصا لأن صوت المرأة عورة .

فإن قيل : لِمْ خشى موسى عليه السلام أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره مع الخضر عليه السلام ذلك حين قال لو شئت لتخذت عليه أجراً ؟ أجيب : بأن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز ، وأما الاستئجار ابتداء فغير مكروه { فلما جاءه } أي : موسى شعيباً { وقص } أي : موسى عليه السلام { عليه } أي : شعيب عليه السلام { القصص } أي : حدّثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله تعالى .

( تنبيه ) : القصص مصدر كالعلل سمى به المقصوص ، قال الضحاك : قال : له من أنت يا عبد الله ، قال : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه . ثم إن شعيباً عليه السلام أمنه بأن : { قال } له { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } أي : فإن فرعون لا سلطان له بأرضنا ، فإن قيل : إن المفسرين قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى ركب في ألف ألف وستمائة ألف والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام ؟ أجيب : بأن هذا ليس بمحال وإن كان نادراً ولما أمنه واطمأن .