قوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } . يعني ذوات الأزواج ، لا يحل للغير نكاحهن قبل مفارقة الأزواج ، وهذه السابعة من النساء اللاتي حرمت بالسبب . قال أبو سعيد الخدري : نزلت في نساء كن هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ، ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهى الله المسلمين عن نكاحهن ، ثم استثنى فقال : { إلا ما ملكت أيمانكم } . يعني : السبايا اللواتي سبين ولهن أزواج في دار الحرب فيحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء ، لأن بالسبي يرتفع النكاح بينها وبين زوجها ، قال أبو سعيد الخدري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشاً إلى أوطاس ، فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين ، فكرهوا غشيانهن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال عطاء : أراد بقوله { إلا ما ملكت أيمانكم } أن تكون أمة في نكاح عبده فيجوز أن ينزعها منه . وقال ابن مسعود : أراد أن يبيع الجارية المزوجة فتع الفرقة بينها وبين زوجها ويكون بيعها طلاقا ، فيحل للمشتري وطؤها ، وقيل : أراد بالمحصنات الحرائر ، ومعناه : إن ما فوق الأربع حرام ، منهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه لا عدد عليكم في الجواري .
قوله تعالى :{ كتاب الله عليكم } ، نصب على المصدر ، أي : كتب الله عليكم ، وقيل : نصب على الإغراء ، أي : ألزموا كتاب الله عليكم ، أي : فرض الله تعالى .
قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } . قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص { أحل } بضم الألف وكسر الحاء ، لقوله { حرمت عليكم } ، وقرأ الآخرون بالنصب ، أي : أحل الله لكم ما وراء ذلكم ، أي : ما سوى ذلكم الذي ذكرت من المحرمات .
قوله تعالى : { أن تبتغوا } ، تطلبوا .
قوله تعالى : { بأموالكم } . أن تنكحوا بصداق أو تشتروا بثمن .
قوله تعالى : { محصنين } . أي : متزوجين أو متعففين .
قوله تعالى : { غير مسافحين } ، أي : غير زانين ، مأخوذ من سفح الماء وصبه وهو المني .
قوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن } . اختلفوا في معناه ، فقال الحسن ومجاهد : أراد ما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح .
قوله تعالى : { فآتوهن أجورهن } . أي : مهورهن . وقال آخرون : هو نكاح المتعة ، وهو أن تنكح امرأة إلى مدة فإذا انقضت تلك المدة بانت منه بلا طلاق ، ويستبرئ رحمها ، وليس بينهما ميراث ، وكان ذلك مباحاً في ابتداء الإسلام ثم نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج ، أنا محمد بن عبد الله بن نمير ، أنا أبي ، أنا عبد العزيز بن عمر ، حدثني الربيع بن سبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله تعالى قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ) .
وأخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية " .
وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم أن نكاح المتعة حرام ، والآية منسوخة . وكان ابن عباس رضي الله عنهما . يذهب إلى أن الآية محكمة ، ويرخص في نكاح المتعة . روي عن أبي نضرة قال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن المتعة ، فقال : أما تقرأ في سورة النساء : { فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى } . قلت : لا أقرؤها هكذا ، قال ابن عباس : هكذا أنزل الله ، ثلاث مرات . وقيل : إن ابن عباس رضي الله عنهما رجع عن ذلك ، وروى سالم عن عبد الله ابن عمر أن عمر بن الخطاب صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : " ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ؟ ، لا أجد رجلاً نكحها إلا رجمته بالحجارة " . وقال : هدم المتعة النكاح ، والطلاق ، والعدة ، والميراث . قال الربيع بن سليمان : سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول : لا أعلم في الإسلام شيئاً أحل ثم حرم ، ثم أحل ثم حرم ، غير المتعة قوله تعالى : { فآتوهن أجورهن } أي : مهورهن .
قوله تعالى : { فريضةً ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } . فمن حمل ما قبله على نكاح المتعة ، قال : أراد أنهما إذا عقدا عقداً إلى أجل بمال . فإذا تم الأجل ، فإن شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في المال ، وإن لم يتراضيا فارقها ، ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنكاح الصحيح . قال المراد بقوله { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به } . من الإبراء عن المهر والافتداء والاعتياض .
قوله تعالى : { إن الله كان عليماً حكيماً } .
فصل في قدر الصداق وفيما يستحب منه :
اعلم أنه لا تقدير لأكثر الصداق لقوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } . والمتسحب أن لا يغالى فيه . قال عمر بن الخطاب : ألا لا تغالوا في صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا ، وتقوى عند الله ، لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئاً من نسائه ، ولا أنكح شيئاً من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا جعفر بن محمد المفلس ، أنا هارون بن إسحاق ، أنا يحيى بن محمد الحارثي ، أنا عبد العزيز ابن محمد عن يزيد بن عبد الله بن الهادي عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة قال : سألت عائشة رضي الله عنها ، كم كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه ؟ قالت : كان صداقة لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا . قالت : أتدري ما النش ؟ قلت : لا . قالت : نصف أوقية ، فتلك خمسمائة درهم . هذا صداق النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه .
أما أقل الصداق فقد اختلفوا فيه ، فذهب جماعة إلى أنه لا تقدير لأقله ، بل ما جاز أن يكون مبيعاً أو ثمناً جاز أن يكون صداقاً ، وهو قول ربيعة ، وسفيان الثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . قال عمر بن الخطاب : ثلاث قبضات زبيب مهر . وقال سعيد بن المسيب : لو أصدقها سوطاً جاز ، وقال قوم : يتقدر بنصاب السرقة ، وهو قول مالك وأبي حنيفة ، غير أن نصاب السرقة عند مالك ثلاثة دراهم ، وعند أبي حنيفة عشرة دراهم ، والدليل على أنه لا يتقدر ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي قال : أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت طويلاً ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك فيها حاجة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عندك من شيء تصدقها ؟ قال : ما عندي إلا إزاري هذا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أعطيتها جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئاً . فقال : ما أجده ، فقال : فالتمس ولو خاتماً من حديد ، فالتمس فلم يجد شيئاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل معك من القرآن شيء ، قال : نعم ، سورة كذا وسورة كذا لسور سماها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد زوجتكها بما معك من القرآن . وفيه دليل على أن لا تقدير لأقل الصداق لأنه قال : التمس شيئاً ، وهذا يدل على جواز أي شيء كان من المال ، وقال : ولو خاتماً من حديد ، ولا قيمة لخاتم الحديد إلا القليل التافه . وفي الحديث دليل على أنه يجوز أن يجعل تعليم القرآن صداقاً ، وهو قول الشافعي رحمه الله . وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز ، وهو قول أصحاب الرأي .
وكل عمل جاز الاستئجار عليه من البناء ، والخياطة ، وغير ذلك من الأعمال جاز أن يجعل صداقاً ، ولم يجوز أبو حنيفة رضي الله عنه أن يجعل منفعة الحر صداقاً ، والحديث حجة لمن جوزه بعدما أخبر الله تعالى عن شعيب عليه السلام حيث زوج ابنته من موسى عليهما السلام على العمل فقال : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } [ القصص :27 ] .
{ وَ } من المحرمات في النكاح { الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } أي : ذوات الأزواج . فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها . { إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : بالسبي ، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ . وأما إذا بيعت الأمة المزوجة أو وهبت فإنه لا ينفسخ نكاحها لأن المالك الثاني نزل منزلة الأول ولقصة بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء والنور وفيه تفصيل الحلال من الحرام .
ودخل في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } كلُّ ما لم يذكر في هذه الآية ، فإنه حلال طيب . فالحرام محصور والحلال ليس له حد ولا حصر لطفًا من الله ورحمة وتيسيرًا للعباد .
وقوله : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } أي : تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم من اللاتي أباحهن الله لكم حالة كونكم { مُحْصِنِينَ } أي : مستعفين عن الزنا ، ومعفين نساءكم .
{ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } والسفح : سفح الماء في الحلال والحرام ، فإن الفاعل لذلك لا يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته للحلال فلا يبقى محصنا لزوجته . وفيها دلالة على أنه لا يزوج غير العفيف لقوله تعالى : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } . { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } أي : ممن تزوجتموها { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : الأجور في مقابلة الاستمتاع . ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته تقرر عليه صداقها { فَرِيضَةً } أي : إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه الله عليكم ، ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده . أو معنى قوله فريضة : أي : مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم ، فلا تنقصوا منها شيئًا .
{ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أي : بزيادة من الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس [ هذا قول كثير من المفسرين ، وقال كثير منهم : إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلالا في أول الإسلام ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يؤمر بتوقيتها وأجرها ، ثم إذا انقضى الأمد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فلا حرج عليهما ، والله أعلم ]{[205]} .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : كامل العلم واسعه ، كامل الحكمة : فمن علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام .
ثم بين - سبحانه - نوعا سابعا من المحرمات فقال : { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .
وقوله { والمحصنات } من الإِحصان وهو فى اللغة بمعنى المنع . يقال : هذه درع حصينة ، أى مانعة صاحبها من الجراحة . ويقال : هذا موضع حصين ، أى مانع من يريده بسوء . ويقال امرأة حصينة أى مانعة نفسها من كل فاحشة بسبب عفتها أو حريتها أو زواجها .
قال الراغب : ويقال حصان للمرأة العفيفة ولذات الحرمة . قال - تعالى - : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } وقال - تعالى - { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } أى تزوجن . وأحصن زوجن والحصان فى الجملة : المرأة المحسنة إما بعفتها أو بتزوجها أو يمانع من شرفها وحريتها . والمراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج من النساء .
وقوله { والمحصنات مِنَ النسآء } معطوف على قوله { وَأُمَّهَاتُكُمُ } فى قوله - تعالى - : فى آية المحرمات السابقة { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلخ .
والمعنى : وكما حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم إلخ ، فقد حرم عليكم - أيضا - نكاح ذوات الأزواج من النساء قبل مفارقة أزواجهن لهن ، لكى لا تختلط المياه فتضيع الأنساب .
وقوله { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } استثناء من تحريم نكاح ذوات الأزواج .
والمراد به : النساء المسبيات اللاتى أصابهن السبى ولهن أزواج فى دار الحرب ، فانه يحل لمالكهن وطؤهن بعد الاستبراء ، لارتفاع النكاح بينهن وبين أزواجهن بمجرد السبى . و بسبيهن وحدهن دون أزواجهن .
أى : وحرم الله - تعالى - عليكم نكاح ذوات الأزواج من النساء ، إلا ما ملكتموهن بسبى فسباؤكم لهن هادم لنكاحهن السابق فى دار الكفر ، ومبيح لكم نكاحهن بعد استبرائهن .
قال القرطبى ما ملخصه : فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج . أى هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبى من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذى تقع فى سهمه وإن كان لها زوج ، وهو قول الشافعى فى أن السباء يقطع العصمة . وقاله ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك ، وقال به أشهب يدل عليه ما رواه مسلم فى صحيح عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا يوم حنين إلى أوطاس فلقوا العدو فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا . فكان ناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وقد تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين . فأنزل الله - عز وجل - فى ذلك { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } أى فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن ، وهذا نص صحيح صريح فى أن الآية نزلت بسبب تحرج أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم عن وطء المسبيات ذوات الأزواج فأنزل الله فى جوابهم { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } . وبه قال مالك وابو حنيفة وأصحابه والشافعى وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وهو الصحيح - إن شاء الله تعالى - .
وقيل إن المراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج - كما تقدم - ، ولما ملكت أيمانكم : مطلق ملك اليمين . فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت متزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتلقت إليه .
وهذا القول ضعيف ، لأن عائشة - رضى الله عنها - اشترت بريرة وأعتقتها وكانت ذات زوج ، ثم خيرها النبى صلى الله عليه وسلم بين فسخ نكاحها من زوجها وبين بقائها على هذا النكاح ، فدل ذلك على أن بيع الأمة ليس هادما للعصمة ، لأنه لو كان هادما لها ما خير النبى صلى الله عليه وسلم بريرة .
أخرج البخارى عن عائشة - " رضى الله عنها - قالت : اشتريت بريرة . فاشترط أهلها ولاءها . فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : " أتقيها فإن الولاء لمن أعطى الورق " .
قالت : فأعتقتها . قال : فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيرها فى زوجها ، فقالت : لو أعطانى كذا وكذا مابت عنده . فاختارت نفسها " .
وقوله - تعالى - { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } ساقه - سبحانه - لتأكيده تحريم نكاح الأنواع التى سبق ذكرها .
وقوله { كِتَابَ } مصدر كتب ، وهو مصدر مؤكد بعامله أى : كتب الله عليكم تحريم هذه الأنواع التى سبق ذكرها وفرضه فرضا ، فليس لكم أن تفعلوا شيئا مما حرمه الله عليكم ، وإنما الواجب عليكم أن تقفوا عند حدوده وشرعه .
وقيل : إن قوله { كِتَابَ } منصوب على الإِغراء . أى : الزموا كتابا لله الذى هو حجة عليكم إلى يوم القيامة ولا تخالفوا شيئا من أوامره أو نواهيه .
وعليه فيكون المراد بالكتاب هنا القرآن الكريم الذى شرع الله فيه ما شرع من الأحكام .
وإلى هنا تكون هذه الآيات الثلاث قد بينت خمسة عشر نوعا من الأنكحة المحرمة .
أما الآية الأولى وهى قوله - تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } الخ فقد بينت نوعا واحدا .
وأما الآية الثانية وهى قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الخ فقد بينت ثلاثة عشر نوعا .
وأما الآية الثانية وهى قوله - تعالى - : { والمحصنات مِنَ النسآء } . الخ فقد بينت نوعا واحدا .
قال الفخر الرازى عند تفسيره لقوله - تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } . . . الآية : اعلم أنه - تعالى - نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النساء : سبعة منهن من جهة النسب وهن : الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخلات وبنات الأخ وبنات الأخت .
وسبعة أخرى لا من جهة النسب وهن : الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء والربائب بنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء ، وأزواج الأبناء والآباء إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ها هنا ، وأزواج الآباء مذكورة فى الآية المتقدمة ، - وهى قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } والجمع بين الاختين .
هذا ، وبعد أن بين - سبحانه - المحرمات من النساء ، عقب ذلك بإيراد جملة كريمة بين فيها ما يحل نكاحه من النساء فقال - تعالى - : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } .
و { مَّا } هنا المراد بها عموم النساء .
وكلمة { وَرَاءَ } هنا بمعنى غير أو دون كما فى قول بعضهم : ( وليس وراء الله للمرء مذهب ) .
واسم الإِشارة { أُحِلَّ لَكُمْ } يعود إلى ما تقدم من المحرمات .
والجملة الكريمة معطوفة على قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } الخ .
ومن قرأ { أُحِلَّ لَكُمْ } ببناء الفعل للفاعل جعلها معطوفة على كتب المقدر فى قوله { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ . . . } .
والمعنى : حرمت عليكم هؤلاء المذكورات ، وأحل لكم نكاح ما سواهن من النساء .
قال القرطبى : قوله - تعالى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } قرأ حمزة والكسائى وعاصم فى رواية حفص { وَأُحِلَّ لَكُمْ } ردا على { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ } وقرأ الباقون بالفتح ردا على قوله - تعالى - { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } .
وهذا يقتضى ألا يحرم من النساء إلا من ذكر ، وليس كذلك ؛ فإن الله - تعالى - قدر حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من لم يذكر فى الآية فيضم إليها . قال - تعالى - : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } روى مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها " وقد قيل : إن تحريم الجمع بين المرأة وعمتها - أو خالتها - فى معنى الجمع بين الأختين ؛ أو لأن الخالة فى معنى الوالدة والعمة فى معنى الوالد والصحيح الأول : لأن الكتاب والسنة كالشئ الواحد فكأنه قال : " أحللت لكم ما وراء من ذكرنا فى الكتاب وما وراء ما أكملت به البيان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " .
ثم رفع - سبحانه - من شأن المرأة وكرمها بأن جعل إيتاءها المهر شرطا لاستحلال نكاحها إعزازا لها فقال - تعالى - { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } .
وقوله : { تَبْتَغُواْ } من الابتغاء بمعنى الطلب الشديد .
وقوله : { مُّحْصِنِينَ } من الإِحصان وهو هنا بمعنى العفة وتحصين النفس ومنعها عن الوقوع فيما يغضب الله - تعالى - .
وقوله : { مُسَافِحِينَ } من السفاح بمعنى الزنا والمسافح : هو الزانى . ولفظ السفاح مأخوذ من السفح وهو صب الماء وسيلانه . به الزنا ؛ لأن الزانى لا غرض له إلا صب النطفة فقط دون نظر إلى الأهداف الشريفة التى شرعها الله وراء النكاح .
وقوله { أَن تَبْتَغُواْ } فى محل نصب بنزع الخافض على أنه مفعول له لما دل عليه الكلام و { مُّحْصِنِينَ } و { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } حالان من فاعل { تَبْتَغُواْ } .
والمعنى : بين لكم - سبحانه - ما حرم عليكم من النساء ، وأحل لكم ما وراء ذلكم ، من أجل أن تطلبوا الزواج من النساء اللائى أحلهن الله لكم أشد الطلب ، عن طريق ما تقدمونه لهن من أموالكم كمهور ، وبذلك تكونون قد أحصنتم أنفسكم ومنعتموها عن السفاح والفجور والزنا .
قال بعضهم : وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل منهم قال : انكحينى . فإذا أراد الزنا قال : بعض الشفعية : لا حجة فى ذلك ، لأن تخصيص المال كونه الأغلب المتعارف ، فيجوز النكاح على ما ليس بمال . ويؤيد ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا خطب الواهبة نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم ماذا معك من القرآن ؟ قال : معى سورة كذا وكذا وعددهن . قال : تقرؤهن على ظهر قلبك ؟ قال : نعم قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن " .
ووجه التأييد أنه لو كان فى الآية حجة لما خالفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا ، والتعليم ليس له ذكر فى الخبر ، فيجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم : زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه .
ثم قال - تعالى - : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } .
والاستمتاع : طلب المتعة والتلذذ بما فيه منفعة ولذة .
والمراد بقوله { أُجُورَهُنَّ } أى مهورهن لأنها فى مقابلة الاستمتاع فسميت أجراً .
و { مَا } فى قوله { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } واقعة على الاستمتاع والعائد فى الخبر محذوف أى فآتوهن أجورهن عليه .
والمعنى : فما انتفعتم وتلذذتم به من النساء عن طريق النكاح الصحيح فآتوهن أجورهن عليه .
ويصح أن يكون { مَا } واقعة على النساء باعتبار الجنس أو الوصف . وأعاد الضمير عليها مفرداً فى قوله { بِهِ } باعتبار لفظها ، وأعاده عليها جمعا فى قوله { مِنْهُنَّ } باعتبار معناها .
ومن فى قوله { مِنْهُنَّ } للتبعيض أو للبيان . والجار والمجرور فى موضع النصب على الحال من ضمير { بِهِ } :
والمعنى : فأى فرد أو الفرد الذى تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن على ذلك . والمراد من الأجور : المهور . وسمى المهر أجراً ؛ لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين .
وقوله { فَرِيضَةً } مصدر مؤكد لفعل محذوف أى : فرض الله عليكم ذلك فريضة . أو حال من الأجور بمعنى مفروضة . أى : فآتوهن أجورهن حالة كونها مفروضة عليكم .
ثم بين - سبحانه - أنه لا حرج فى أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن جزء منه ما دام ذلك حاصلا بالتراضى فقال - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
أى : لا إثم ولا حرج عليكم فيما تراضيتم به أنتم وهو من إسقاط شئ من المهر أو الإِبراء منه أو الزيادة عليه ما دام ذلك بالتراضى بينكم ومن بعد اتفاقكم على مقدار المهر الذى سميتموه وفرضتموه على أنفسكم .
وقد ذيل - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } لبيان أن ما شرعه هو بمقتضى علمه الذى أحاط بكل شئ ، وبمقتضى حكمته التى تضع كل شئ فى موضعه .
فأنت ترى ان الآية الكريمة مسوقة لبيان بعض الأنواع من النساء اللاتى حرم الله نكاحهن ، ولبيان ما أحله الله منهن بعبارة جامعة ، ثم لبيان أن الله - تعالى - قد فرض على الأزواج الذين يبتغون الزوجات عن طريق النكاح الصحيح الشريف أن يعطوهن مهورهن عوضا عن انتفاعهم بهن ، وأنه لا حرج فى أن يتنازل أحد الزوجين لصاحبه عن حقه أو عن شئ منه ما دام ذلك بسماحة نفس ، ومن بعد تسمية المهر المقدر .
هذا ، وقد حمل بعض الناس هذه الآية على أنها واردة فى نكاح المتعة وهو عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين لكى يستمتع بها .
قالوا : لأن معنى قوله - تعالى - : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : فمن جامعتموهن ممن نكحتموهن نكاح المتعة فآتوهن أجورهن .
ولا شك أن هذا القول بعيد عن الصواب ، لأنه من المعلوم أن النكاح الذى يحقق الإِحصان والذى لا يكون الزوج به مسافحا . هو النكاح الصحيح الدائم المستوفى شرائطه ، والذى وصفه الله بقوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } .
وإذاً فقد بطل حمل الآية على أنها فى نكاح المتعة ؛ لأنها تتحدث عن النكاح الصحيح الذى يتحقق معه الإِحصان ، وليس النكاح الذى لا يقصد به إلا سفح الماء وقضاء الشهوة .
قال ابن كثير : وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعا فى ابتداء الإِسلام ثم نسخ بعد ذلك . وقد روى عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القول بإباحتها للضرورة . ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت فى الصحيحين عن امير المؤمنين على بن أبى طالب قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وفى صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة الجهنى عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يأ أيها الناس إنى كنت أذنت لكم فى الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة . فمن كانت عنده منهن شئ فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " .
وقال الآلوسى : وقيل الآية فى المتعة ، وهى النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر .
والمراد ، { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ } من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب فى عقد المتعة ، بأن يزيد الرجل فى الأجر وتزيد المرأة فى المدة ، وإلى ذلك ذهبت الإِمامية - من طائفة الشيعة - .
ثم قال : ولا نزاع عندنا فى أنها أحلت ثم حرمت ، والصواب المختار أن التحريم والإِباحة كانا مرتين . فقد كانت حلالا قبل يوم خيبر ثم حرمت يوم خيبر ، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبداً إلى يوم القيامة . . .
وقال بعض العلماء : وهذا النصف وهو قوله - تعالى - { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } قد تعلق به بعض المفسدين الذين لم يفهموا معنى العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة ، فادعوا أنه يبيح المتعة . . والنص بعيد عن هذا المعنى الفاسد بعد من قالوه عن الهداية ؛ لأن الكلام كله فى عقد الزواج فسابقه ولاحقه فى عقد الزواج ، والمتعة حتى على كلامهم لا يسمى عقد نكاح أبدا .
وقد تعلقوا مع هذا بعبارات رووها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أباح المتعة فى غزوات ثم نسخها ، وبأن ابن عباس كان يبيحها فى الغزوات وهذا الاستلال باطل ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم نسخها ، فكان عليهم عند تعلقهم برواية مسلم أن يأخذوا بها جملة أو يتركوها ، وجملتها تؤدى إلى النسخ لا إلى البقاء .
وإذا قالوا إننا نتفق معكم على الإِباحة ونخالفكم فى النسخ فنأخذ المجمع عليه ونترك غيره قلنا لهم : إن النصوص التى أثبتت الإِباحة هى التى أثبتت النسخ ، وما اتفقنا معكم على الإِباحة ، لأننا نقرر نسخ الإِباحة .
على أننا نقول : إن ترك النبى صلى الله عليه وسلم المتعة لهم قبل الأمر الجازم بالمنع ، ليس من قبيل الإِباحة ، بل هو من قبيل الترك حتى تستأنس القلوب بالإِيمان وتترك عادات الجاهلية ، وقد كان شائعا بينهم اتخاذ الأخدان وهو ما نسميه اتخاذ الخلائل . وهذه هى متعتهم ، فنى القرآن الكريمة والنبى صلى الله عليه وسلم عنها . وإن الترك مدة لا يسمى إباحة وإنما يسمى متعتهم ، فنهى القرآن الكريم والنبى صلى الله عليه وسلم عنها . وإن الترك مدة لا يسمى إباحة وإنما يسمى عفوا حتى تخرج النفوس من جاهليتها ، والذين يستبيحونها باقون على الجاهلية الأولى .
وابن عباس - رضى الله عنه - قد رجع عن فتواه بعد أن قال له إمام الهدى على بن أبى طالب : إنك امرؤ تائه ، لقد نسخا النبى صلى الله عليه وسلم والله لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة واردة فى شأن النكاح الصحيح الذى يحقق الإِحصان ولا يكون الزوج به مسافحا . وأن القول بأنها تدل على نكاح المتعة قول بعيد عن الحق والصواب للأسباب التى سبق ذكرها .
قوله عز وجل : { والمحصنات } عطف على المحرمات قبل ، والتحصن : التمنع ، يقال حصن المكان : إذا امتنع ، ومنه الحصن ، وحصنت المرأة : امتنعت بوجه من وجوه الامتناع ، وأحصنت نفسها ، وأحصنها غيرها ، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء ، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل ، فتستعمله في الزواج ، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا ، والحرة بخلاف ذلك ، ألا ترى إلى قولة هند بنت عتبة للنبي عليه السلام ، حين بايعته ، وهل تزني الحرة ؟ قالحرية منعة وحفظ ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك »{[3924]} ومنه قول الهذلي :
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدَّارِ يَا أمَّ مَالِكٍ . . . ولكنْ أَحَاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ{[3925]}
قالَتْ هَلُمَّ إلى الحَديثِ فَقُلْتُ لا . . . يَأبى عَلَيْكِ اللَّهُ والإسْلامُ{[3926]}
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَفى الشَّيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيا{[3927]}
رَمَتْني وَسِتْرُ اللّهِ بيني وبينَها . . . فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام ، ويستعملون الإحصان في العفة ، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها ، فهي منعة وحفظ{[3928]} .
وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني ، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض ، بحسب موضع وموضع ، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله .
فقوله في هذه الآية { والمحصنات } ، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري : هن ذوات الأزواج ، أي هن محرمات ، إلا ما ملكت اليمين بالسبي ، من أرض الحرب ، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه ، وإن كان لها زوج{[3929]} .
وروى أبو سعيد الخدري : أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً إلى أوطاس{[3930]} فلقوا عدواً وأصابوا سبياً لهن أزواج من المشركين ، فتأثم{[3931]} المسلمون من غشيانهن ، فنزلت الآية مرخصة{[3932]} ، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضاً : معنى { المحصنات } ذوات الأزواج ، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج ، فإن بيعها طلاقها ، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها ، وأن تعتق طلاقها ، وأن تورث طلاقها ، وتطليق الزوج طلاقها ، وقال ابن مسعود : إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها ، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقاً ، ولا طلاق لها إلا الطلاق ، وقال قوم : { المحصنات } في هذه الآية العفائف ، أي كل النساء حرام ، وألبسهن اسم الإحصان ، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك ، { إلا ما ملكت إيمانكم } قالوا : معناه بنكاح أو شراء ، كل ذلك تحت ملك اليمين{[3933]} ، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء ، ورواه عبيده عن عمر رضي الله عنه ، وقال ابن عباس : { المحصنات } العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب .
قال القاضي أبو محمد : وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا ، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى : { والمحصنات } : هن الحرائر ، ويكون { إلا ما ملكت أيمانكم } معناه بنكاح ، هذا على اتصال الاستثناء ، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعاً ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان نساء يأتيننا مهاجرات ، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى : { والمحصنات } الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال ، وأسند الطبري أن رجلاً قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية { والمحصنات من النساء } فلم يقل فيها شيئاً ؟ فقال سعيد : كان ابن عباس لا يعلمها وأسند أيضاً عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل قوله : { والمحصنات }إلى قوله : { حكيماً } .
قال القاضي أبو محمد : ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول{[3934]} ؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية { والمحصنات من النساء } فقال : يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات ، ولم يحل شيئاً من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك ، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين ، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ ، فإنه قال : هن ذوات الأزواج ، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا ، ففسر الإحصان بالزواج ، ثم عاد عليه بالعفة{[3935]} .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة ، «والمحصّنات » بفتح الصاد في كل القرآن ، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده ، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصِنات » كذلك ، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد ، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية . وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنَّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها ، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصُنات » بضم الصاد ، وهذا على إتباع الضمة الضمة{[3936]} .
وقرأ جمهور الناس «كتاب الله » وذلك نصب على المصدر المؤكد ، وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميفع اليماني «كَتَبَ اللهُ عليكم » على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى ، وقال عبيدة السلماني وغيره : قوله { كتاب الله عليكم } إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله : { مثنى وثلاث ورباع }{[3937]} وفي هذا بعد ، والأظهر لأن قوله { كتاب الله عليكم } إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله ، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فقال السدي : المعنى وأحل لكم ما دون الخمس ، أن تبتغوا بأموالكم ، على وجه النكاح ، وقال نحوه عبيدة السلماني ، وقال عطاء وغيره : المعنى «وأحل لكم ما وراء » من حرم من سائر القرابة ، فهن حلال لكم تزويجهن ، وقال قتادة : المعنى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } من الإماء .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال : وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأَحل لكم » بفتح الألف والحاء ، وهذا مناسبة لقوله { كتاب الله } إذ المعنى كتب الله ذلك كتاباً ، وقرأ حمزة والكسائي «وأحِل » بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله : { حرمت عليكم } والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات ، فهن وراء أولئك بهذا الوجه{[3938]} ، و { أن تبتغوا بأموالكم } ، لفظ يجمع التزويج والشراء و { أن } في موضع نصب ، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع ، ويحتمل النصب بإسقاط الباء{[3939]} ، و { محصنين } ، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك { غير مسافحين } ، أي غير زناة ، والسفاح : الزنا ، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه{[3940]} ، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف{[3941]} في عرس : هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر . واختلف المفسرون في معنى قوله : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر ، وهو المهر كله ، ولفظة { فما } تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر . وروي عن ابن عباس أيضاً ومجاهد والسدي وغيرهم : أن الآية في نكاح المتعة ، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير ، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنَّ أجورهن » وقال ابن عباس لأبي نضرة : هكذا أنزلها الله عز وجل ، وروى الحكم بن عتيبة ، أن علياً رضي الله عنه قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ ، وقد كانت المتعة لا ميراث فيها ، وقيل قول الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }{[3942]} [ الطلاق : 1 ] وقالت عائشة : نسخها قوله : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم }{[3943]} ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق ، والعدة ، والميراث ، وكانت{[3944]} : أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى ، وعلى أن لا ميراث بينهما ، ويعطيها ما اتفقا عليه ، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وتستبرىء رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك ، فإن لم تحمل حلت لغيره .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب النحاس : في هذا خطأ فاحش في اللفظ ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة{[3945]} ، وحكى المهدوي عن ابن المسيب : أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود ، وفيما حكاه ضعف ، و { فريضة } نصب على المصدر في موضع الحال{[3946]} .
واختلف المفسرون في معنى قوله : { ولا جناح عليكم } الآية ، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن : إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة ، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض ، وقال القائلون بأنه الآية المتقدمة هي أمر المتعة : إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ ، وباقي الآية بين .