قال عمرو بن مرّة : قال رجل لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين يُسأل عن هذه الآية { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ } فلم يقل فيها شيئاً ، فقال سعيد : كان لا يعلمها .
وقال مجاهد : لو أعلم من يفسّر في هذه الآية لضربتُ إليه أكباد الإبل ، قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ } .
قال المفسرون : هذه السابعة من النساء اللواتي حُرّمن بالسبب .
قرأه العامة : ( والمحصَنات ) بفتح الصاد ، يعني في زوال الأزواج أحصنهنّ أزواجهن .
قال أبو سعيد الخدري : نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهنّ أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين ، فنهى المسلمين عن نكاحهنّ ثم استثنى فقال : { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } يعني السبايا اللاتي سبين ولهم أزواج في دار الحرب ، فحلال لمالكهن وطأهن بعد الإستبراء .
فقال أبو سعيد الخدري : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشاً إلى أوطاس ، فلقوا العدو فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين ، فكرهوا وطأهنّ وتأثموا من ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقرأ علقمة : ( والمحصِنات ) بكسر الصاد ، ودليله قول عمر بن الخطاب( رضي الله عنه ) وعبيدة وأبي العالية والسدي ، قالوا : والمحصنات في هذه الآية والعفائف ومعناها : والعفائف من النساء عليكم حرام إلاّ ما ملكت إيمانكم منهن بنكاح أو ملك يمين وثمن ، وقيل : معناه الحرائر .
قال الباقر ويمان : معناه والمحصنات من النساء عليكم حرام ما فوق الأربع ، إلاّ ما ملكت إيمانكم فإنه لا عدد عليكم فيهن .
وقال ابن جريج : سألنا عطاء عنها فقال : معنى قوله : { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } أن تكون لك أَمة عند عبد لك قد أحصنها بنكاح وتنزعها منه إن شئت . { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } نصب على المصدر ، أي كتب الله عليكم كتاباً ، وقيل : نصب على الإغراء ، أي الزموا واتقوا كتاب الله عليكم .
وقرأ ابن السميقع : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي أوجب ، وهذه أربعة عشر امرأة ، محرمات بالكتاب .
فأما الستّة : فقد حرّمت امرأتين ، وهو ما روى هشام عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها " .
{ وَأُحِلَّ لَكُمْ } قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : ( وأُحل لكم ) بضم الألف .
الباقون : بالنصب ، وهي قراءة علي وابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، فمن رفع فلقوله : { حُرِّمَتْ } ، ومن نصب ، فللقرب من ذكر الله في قوله : { كِتَابَ اللَّهِ } .
{ مَّا وَرَاءَ } ما سوى { ذَلِكُمْ } الذي ذكرت من المحرمات { أَن تَبْتَغُواْ } بدل من ( ما ) فمن رفع أحلّ ف ( إن ) عنده في محل الرفع ، ومن نصب ف ( إن ) عنده في محل النصب .
قال الكسائي والفراء : موضعه نصب في القراءتين بنزع الخافض ، يعني : لأن تبتغوا وتطلبوا .
{ بِأَمْوَالِكُمْ } أما بنكاح وصداق أو بملك وثمن { مُّحْصِنِينَ } مُتعففين { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } زانين ، وأصله من سفح المذي والمني { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } اختلف في معنى الآية : فقال مجاهد والحسن : يعني ممّا انتفعتم وتلذذتم للجماع من النساء بالنكاح الصحيح .
{ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن ، فإذا جامعها مرّة واحدة فقد وجب لها المهر كاملا .
وقال آخرون : هو نكاح المتعة ، ثم اختُلف في الآية أمحكمة هي أم منسوخة ؟
فقال ابن عباس : هي محكمة ورخّص في المتعة ، وهي أن ينكح الرجل المرأة بولي وشاهدين إلى أجل معلوم ، فإذا انقضى الأجل فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبري ما في رحمها وليس بينهما ميراث .
قال حبيب بن أبي ثابت : أعطاني ابن عباس مصحفاً فقال : هذا على قراءة أُبي ، فرأيت في المصحف ( فما استمتعم به منهن إلى أجل مسمى ) .
وروى داود عن أبي نضرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة فقال : أما تقرأ سورة النساء ؟ قلت : بلى ، قال : فما تقرأ : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ) ؟ قلت : لا أقرأها هكذا . قال ابن عباس : والله لهكذا أنزلها الله ، ثلاث مرّات .
وروى عيسى بن عمر عن طلحة بن مصرف أنه قرأ : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ) .
وروى عمرو بن مرّة عن سعيد بن جبير : أنه قرأها : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ) .
وروى شعبة عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } أمنسوخة هي ؟
قال : لا . قال الحكم : قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : لولا أن عمر نهى عن المتعة مازنا إلاّ شقي .
أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال : نزلت هذه الآية ( المتعة ) في كتاب الله ، لم تنزل آية بعدها تنسخها ، فأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينهنا عنه ، وقال رجل بعد برأيه ما شاء قال الثعلبي : قلت ولم يرخص في نكاح المتعة إلاّ عمران بن الحصين وعبد الله بن عباس وبعض أصحابه وطائفة من أهل البيت ، وفي قول ابن عباس .
أقول للرّكب إذ طال الثواء بنا *** يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الاطراف ناعمة *** تكون مثواك حتى مرجع الناس
وسائر العلماء والفقهاء والصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة ومتعة النساء حرام .
وروى الربيع بن بسرة الجهني عن أبيه قال : " كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرته فشكونا إليه العزبة ، فقال : " يا أيها الناس استمتعوا من هذه النساء " ثم صبحت غاديا على رسول الله فإذا هو يقول : " يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالإستمتاع من هذه النساء إلاّ أن الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة " " .
وقال خصيف : سألت الحسن عن نكاح المتعة ، فقال : إنما كان ثلاثة أيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهى الله عزّ وجلّ عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي : كان هذا في بدء الإسلام ، أحلّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام ثم حرّمها ، وذلك أنه كان إذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها أجرها الذي كان شرط لها ، ثم قال : زيديني في الأيام فأزيدك في الأجر ، فإن شاءت فعلت ذلك ، فإذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها الأجر وفارقها ، ثم نسخت بآية الطلاق والعدة والممات .
وروى الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما أن علياً قال لابن عباس : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الأهلية .
وروى الفضل بن دكين عن البراء بن عبد الله القاص عن أبي نضرة عن ابن عباس أن عمر ( رضي الله عنه ) نهى عن المتعة التي تذكر في سورة النساء فقال : إنما أحل الله ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والنساء يومئذ قليل ، ثم حرّم عليهم بعد أن نهى عنها .
وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال : ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها لا أجد رجلا ينكحها إلاّ رجمته بالحجارة .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث " .
وقال ابن أبي مليكة : سألت عائشة عن المتعة فقالت : بيني وبينهم كتاب الله
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 5-6 ] . وعن عائشة : والله ما نجد في كتاب الله إلاّ النكاح والاستسراء . وقال ابن عمر : المتعة سفاح .
عطاء : المتعة حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير .
قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن جبير يقول : سمعت أبا علي الحسين بن أحمد الخياط يقول : سمعت أبا نعيم بن عبد الملك بن محمد بن عدي يقول : سمعت [ . . . ] يقول : الشافعي يقول : لا أعلم في الإسلام شيئاً أحل ثم حرّم ثم أحل ثم حُرّم غير المتعة .
{ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي مهورهن ، سمّيَ المهر أجراً ، لأنه ثمن البضع وأجر الإستمتاع ألا تراهُ يتأكد بالخلوة والدخول .
واختلفوا في حدّه ، فأكثره لا غاية له ، وأما أقلّه فقال أبو حنيفة : لا مهر دون عشرة دراهم أو قيمتها من الذهب ، لأن الله عزّ وجلّ قال : { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ } ولا يطلق اسم المال على أقل من هذا القدر .
وعند الشافعي : لا حدّ له ، فأجاز الشيء الطفيف حتى القبضة من الطعام ، وكذلك كل عمل أوجب أجراً قليلا كان أو كثيراً ، والسورة من كتاب الله عزّ وجلّ أو آية لقوله : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } .
وعن سلمة بن وردان قال : سمعت أنس بن مالك يقول : " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه ، فقال : " يا فلان هل تزوجت ؟ " قال : لا ، وليس عندي ما أتزوج ، قال : " أليس معك { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] ؟ " قال : بلى ، قال : " ربع القرآن " قال : " أليس معك { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [ النصر : 1 ] ؟ " قال : بلى ، قال : " ربع القرآن " قال : " أليس معك { قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } [ الكافرون : 1 ] ؟ " قال : بلى ، قال : " ربع القرآن " ، قال : " أليس معك { إِذَا زُلْزِلَتِ } [ الزلزال : 1 ] ؟ " قال : بلى ، قال : " ربع القرآن " قال : " أليس معك آية الكرسي ؟ " قال : بلى ، قال : " ربع القرآن " ، قال : " تزوج تزوج تزوج " " .
وقد ذكرت حجج الفريقين فيما قيل .
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } يعني فيما تفتدي به المرأة نفسها ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .