فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

{ والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد فريضة إن الله كان عليما حكيما ( 24 ) }

{ والمحصنات من النساء } عطف على المحرمات المذكورات أي وحرمت عليكم ذوات الأزواج ، وأصل التحصن التمنع ومنه قوله تعالى { ليحصنكم من بأسكم } أي ليمنعكم ، ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس لأنه يمنع صاحبه من الهلاك ، والحصان بفتح الحاء المرأة العفيفة لمنعها نفسها والمصدر الحصانة بفتح الحاء .

والمراد بالمحصنات هنا الأزواج . وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان أحدها التزوج كما في هذه الآية وكما في قوله { محصنين غير مسافحين } والثاني يراد به الحرية ، ومنه قوله تعالى { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات } وقوله { المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم } والثالث يراد به العفة ، ومنه قوله تعالى { محصنات غير مسافحات } والرابع الإسلام ومنه قوله تعالى { فإذا أحصن } أي أسلمن .

وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية فقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قلابة وكحول الزهري : والمراد بالمحصنات هنا المسبيات ذوات الأزواج خاصة أي هن محرمات بفتح الصاد وكسرها فالفتح على أن الأزواج أحصنوهن ، والكسر على أنهن أحصن فروجهن من غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن .

{ إلا ما ملكت أيمانكم } بالسبي من أرض الحرب فإن تلك حلال لكم وطؤهن وإن كان لها زوج في دار الحرب بعد الإستبراء وهو قول الشافعي ، أي أن السباء يقطع العصمة ، وبه قال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحق وأبو ثور .

والاستثناء متصل لأن المستثنى المزوجات ، لكن فيه شائبة انقطاع من حيث أن المستثنى منه نكاح المتزوجات ، والمستثنى وطء الزوجات ، وقد صرح السمين بأنه منقطع ، واختلفوا في استبرائها بماذا يكون كما هو مدون في كتب الفروع .

وقالت طائفة : المحصنات في هذه الآية العفائف ، وبه قال أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد ابن جبير وعطاء ، ورواه عبيدة عن عمر ، ومعنى الآية عندهم كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم أي تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء ، وحكى ابن جرير الطبري : أن رجلا قال لسعيد ما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا فقال كان ابن عباس لا يعلمها .

وروى ابن جرير أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل انتهى ، ومعنى الآية والله أعلم أوضح لا سترة به أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء أي المزوجات أعم من أن يكن مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت أيمانكم منهن إما بسبي فإنها تحل وإن كانت ذات زوج ، أو بشراء فإنها تحل ولو كانت مزوجة وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

{ كتاب الله عليكم } أي كتب ذلك كتابا وفرضه فرضا ، وقيل لزموا كتاب الله أوعليكم كتاب الله ، وروي عن عبيدة السلماني أن قوله هذا إشارة إلى قوله تعالى { مثنى وثلاث ورباع } وهو بعيد جدا ، بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله { حرمت عليكم } إلى آخر الآية .

وفي قوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات ، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ، ومن ذلك نكاح المعتدة ، ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لا يجوز له الأمة ، ومن ذلك القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة ، ومن ذلك من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة ، ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبدا .

وقيل لا حاجة للتنبيه على هذا لأن الكلام في التحريم على التأييد ، وما ذكره من الأقسام لا يحرم مؤبدا بل لعارض يزول ، نعم يظهر ما قالوه في الملاعنة لأن تحريمها مؤبد ، وقد أبعد من قال إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرم الجمع بين الأختين فيكون ما في معناه في حكمه ، وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ، وكذلك يحرم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرة فإنه يخصص هذا العموم .

لأجل { أن تبتغوا بأموالكم } النساء اللاتي أحلهن الله لكم ولا تبتغوا بها الحرام فتذهب ، وقيل هو بدل من { ما } في قوله { ما وراد ذلكم } والأول أولى . وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء { محصنين } الإحصان العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب أي حال كونكم متزوجين ومتسرين متعففين عن الزنا { غير مسافحين } أي غير زانين ، والسفاح الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه ، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح لا على وجه السفاح .

{ فما استمتعتم به منهن } قد اختلف أهل العلم في معنى الآية فقال الحسن ومجاهد وغيرهما : فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي ، وعلى هذا فالآية واردة في النكاح الصحيح وأن الزوج متى وطئها ولو مرة وجب عليه مهرها المسمى أو مهر المثل ، ولكن يرد على هذا أنها تتكرر مع قوله سابقا { وآتوا النساء صدقاتهن } وقال الجمهور : إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام حيث كان الرجل ينكح المرأة وقتا معلوما ليلة أو ليلتين أو أسبوعا بثوب أو غيره ويقضي منها وطره ثم يسرحها ، ويؤيد ذلك قراءة أبي بن كعب وابن عباس وسعيد ابن جبير { فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى } ثم نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما صح ذلك من حديث علي قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خبير{[443]} ، وهو في الصحيحين وغيرهما .

وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال : يوم فتح مكة : يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا{[444]} ، وفي لفظ لمسلم أن ذلك في حجة الوداع ، فهذا هو الناسخ ، وقال سعيد ابن جبير نسختها آية الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها .

وقالت عائشة والقاسم بن محمد في تحريمها ونسخها في القرآن ، وذلك قوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فإنهم غير ملومين } وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا ما ملكت أيمانهم ، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث ، وليست المستمتع بها كذلك والأحاديث في تحليل المتعة ثم تحريمها وهل كان نسخها مرة أو مرتين في كتب الحديث ، وقد روى عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ ، وروى عنه أنه رجع عن ذلك أن بلغه الناسخ ، وقد قال بجوازها جماعة من الروافض ، ولا اعتبار بأقوالهم ، وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة وتقوية ما قاله المجوزون لها ، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه ، وقد طول الشوكاني البحث ودفع الشبهة الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحه للمنتقى فليرجع إليه .

وقال ابن العربي : وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت في غزوة أوطاس ثم حرمت بعد ذلك ، واستقر الأمر على التحريم ، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة ، فإن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت حكاه القرطبي عنه .

{ فآتوهن أجورهن } أي مهورهن التي فرضتم لهن ، وإنما سمي المهر أجرا لأنه بدل المنفعة لا عن العين { فريضة } أي مفروضة مسماة ، وقد كمل بهذا الوصف ما قبله ودخل به على ما بعده فهي مصدر مؤكد أو حال من أجورهن .

{ ولا جناح عليكم } ولا عليهن { فيما تراضيتم به } أنتم وهم { من بعد الفريضة } أي من زيادة ونقصان في المهر ، فإن ذلك سائغ عند التراضي .

هذا عند من قال إن الآية في النكاح الشرعي ، وأما عند الجمهور القائلين بأنها المتعة فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه ، وقيل ما تراضيتم به من الإبراء من المهر والافتداء والاعتياض ، وقال الزجاج : معناه لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزوج مهرها وأن يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه .

{ إن الله كان عليما } بما يصلحكم في مناكحكم وغيرها من سائر أموالكم أو عليما بالأشياء قبل خلقها { حكيما } فيما دبر لكم من التدبير وفيما يأمركم وينهاكم عنه ولا يدخل حكمه خلل ولا زلل أو فيما فرض لكم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب .


[443]:مسلم 1407- البخاري1908.
[444]:مسلم 1406.