قوله تعالى : { وما تفرقوا } يعني أهل الأديان المختلفة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أهل الكتاب كما ذكر في سورة البينة . { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } الآية { إلا من بعد ما جاءهم العلم } بأن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك ، { بغياً بينهم } أي : للبغي ، قال عطاء : يعني بغياً بينهم على محمد صلى الله عليه وسلم ، { ولولا كلمة سبقت من ربك } في تأخير العذاب عنهم ، { إلى أجل مسمى } وهو يوم القيامة . { لقضي بينهم } بين من آمن وكفر ، يعني أنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا ، { وإن الذين أورثوا الكتاب } أي اليهود والنصارى ، { من بعدهم } أي من بعد أنبيائهم ، وقيل : من بعد الأمم الخالية . وقال قتادة : معناه من قبلهم أي : من قبل مشركي مكة . { لفي شك منه مريب } أي : من محمد صلى الله عليه وسلم .
{ 14-15 } { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم ، ونهاهم عن التفرق ، أخبرهم
أنكم لا تغتروا بما أنزل الله عليكم من الكتاب ، فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع ، ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم ، وذلك كله بغيا وعدوانا منهم ، فإنهم تباغضوا وتحاسدوا ، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة ، فوقع الاختلاف ، فاحذروا أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم .
{ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } أي : بتأخير العذاب القاضي { إلى أجل مسمى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ولكن حكمته وحلمه ، اقتضى تأخير ذلك عنهم . { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : الذين ورثوهم وصاروا خلفا لهم ممن ينتسب إلى العلم منهم { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي : لفي اشتباه كثير يوقع في الاختلاف ، حيث اختلف سلفهم بغيا وعنادا ، فإن خلفهم اختلفوا شكا وارتيابا ، والجميع مشتركون في الاختلاف المذموم .
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أدت إلى اختلاف المختلفين فى أمر الدين ، وإلى تفرقهم شيعا وأحزابا فقال : { وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ } .
والاشتناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال والضمير فى قوله { تفرقوا } يعود على كل الذين اختلفوا على أنبيائهم ، واعرضوا عن دعوتهم .
وقوله { بَغْياً } مفعول لأجله ، مبين السبب الحقيقى للتفرق والاختلاف .
أى : وما تفرق المتفرقون فى أمر الدين . وأعرضوا عما جاءتهم به رسلهم ، فى كل زمان ومكان ، إلا من بعد أن علموا الحق ، ووصل إليهم عن طريق أنبيائهم ، ولم يحملهم على هذا التفرق والاختلاف إلا البغى الذى استولى على نفوسهم ، والحسد لرسل الله - تعالى - على ما آتاهم الله من فضله .
فقوله - تعالى - : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } زيادة فى ذمهم ، فإن الاختلاف بعد العلم ، أدعى إلى الذم والتحقير ، لأنه يدل على أن هذا الاختلاف لم يكن عن جهل ، وإنما كان عن علم وإصرار على الباطل .
وقوله - تعالى - : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } زيادة أخرى تحمل كل عاقل على احتقارهم ونبذهم ، لأن هذه الجملة الكريمة تدل على أن اختلافهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما كان الدافع إليه ، البغى والحسد والعناد .
أى : أن اختلافهم على أنبيائهم كان الدافع إليه الظلم وتجاوز الحد ، والحرص على شهوات الدنيا ولذائذها ، والخوف على ضياع شئ منها من بين أيديهم .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله ورحمته بهذه الأمة فقال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } .
والمراد بهذه الكلمة : ما وعد الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أنه لن يهلك أمته بعذاب يستأصل شأفتهم ، كما أهلك قوم نوح وغيرهم ، ومن انه - تعالى - سيؤخر عذابهم إلى الوقت الذى يختاره ويشاؤه - سبحانه - .
أى : ولولا كلمة سبقت من ربك - أيها الرسول الكريم - بعدم إهلاكهم بعقوبة تستأصل شأفتهم ، وبتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى فى علمه - تعالى - لقضى بينهم بقطع دابرهم بسبب هذا الاختلاف الذى أدى بهم إلى الإِعراض عن دعوتك ، وإلى عكوفكم على كفرهم .
{ وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب } وهم أهل الكتاب المعاصرين لك من اليهود والنصارى { مِن بَعْدِهِمْ } أى : من بعد الذين سبقوهم فى الاختلاف على أنبيائهم .
{ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أى : لفى شك من هذا القرآن . ومن كل ما جئتهم به من عند ربك ، هذا الشك أوقعهم فى الريبة وقلق النفس واضطرابها وتذبذبها ، ولذلك لم يؤمنوا بما جئتهم به من عند ربك .
{ وما تفرقوا } يعني الأمم السالفة . وقيل أهل الكتاب لقوله :{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } { إلا من بعد ما جاءهم من العلم } العلم أن التفرق ضلال متوعد عليه ، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام ، أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها . { بغيا بينهم } عداوة أو طلبا للدنيا . { ولولا كلمة سبقت من ربك } بالإمهال . { إلى أجل مسمى } هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة . { لقضي بينهم } باستئصال المبطلين حين اقترفوا لعظم ما اقترفوا . { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب . وقرئ " ورثوا " و " ورثوا " . { لفي شك منه } من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان ، أو من القرآن . { مريب } مقلق أو مدخل في الريبة .
وقوله : { ولا تتفرقوا } عبارة يجمع خطابها كفار العرب واليهود والنصارى وكل مدعو إلى الإسلام ، فلذلك حسن أن يقال : ما تفرقوا ، يعني بذلك أوائل اليهود والنصارى . والعلم الذي جاءهم : هو ما كان حصل في نفوسهم من علم كتب الله تعالى فبغى بعضهم على بعض ، أداهم{[10120]} ذلك إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة والكلمة السابقة : قال المفسرون : هي حتمه تعالى القضاء بأن مجازاتهم إنما تقع في الآخرة ، فلولا ذلك لفصل بينهم في الدنيا وغلب المحق على المبطل .
وقوله تعالى : { وإن الذين أورثوا الكتاب } إشارة إلى معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، وقيل هي إشارة إلى العرب . و { الكتاب } : هو القرآن . والضمير في قوله : { لفي شك } يحتمل أن يعود على { الكتاب } ، أو على محمد ، أو على الأجل المسمى ، أي في شك من البعث على قول من رأى الإشارة إلى العرب ، ووصف الشك ب { مريب } مبالغة فيه .