فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ} (14)

ثم لما ذكر سبحانه ما شرعه لهم من إقامة الدين وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع من التفرق والاختلاف فقال { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } أي ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة متوعد عليها ، أو العلم بمبعث الرسول أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما ، فلم يلتفتوا إليها ، وفعلوا ذلك التفرق ، قيل : المراد قريش وهم الذين تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم بغيا منهم عليه .

وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ } الآية ، وبقوله { فلمّا جاءهُمْ ما عرفُوا كفرُوا بِهِ } وقيل المراد أمم الأنبياء المتقدمين ، وأنهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى ، فآمن قوم وكفر قوم . وقيل : اليهود والنصارى خاصة كما في قوله { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } .

{ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي بغيا من بعضهم على بعض ، طلبا للرياسة فليس تفرقهم لقصور في البيان والحجج ، ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا والجاه والحمية { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ } وهي تأخير العقوبة { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وهو يوم القيامة كما في قوله { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } وقيل : إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر والذل والقهر { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لوقع القضاء بينهم بإنزال العقوبة بهم معجلة ، وقيل يقضي بين من آمن منهم ومن كفر بنزول العذاب بالكافرين ونجاة المؤمنين .

{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ } أي التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى الذي كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم { مِنْ بَعْدِهِمْ } أي من بعد من قبلهم من اليهود والنصارى المختلفين في الحق .

وقال مجاهد : معنى من بعدهم من قبل مشركي مكة ، وهم اليهود والنصارى وقيل ، المراد كفار المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ووصفهم بأنهم { لَفِي شَكٍّ مِنْهُ } أي من القرآن أو من محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى كلا الوجهين فالشك هنا ليس على معناه المشهور من اعتدال النقيضين وتساويهما في الذهن ، بل المراد به ما هو أعم أي مطلق التردد .

وقال القرطبي : لفي شك من الذي أوصى به الأنبياء { مُرِيبٍ } موقع في الريبة وهي قلق النفس واضطرابها ولذلك لم يؤمنوا .