السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَا تَفَرَّقُوٓاْ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى لَّقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ} (14)

ولما بين تعالى أمر كل الأنبياء عليهم السلام والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كأن لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين ؟ أجاب بقوله تعالى : { وما تفرقوا } أي : المشركون من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي : بالتوحيد أو بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أو بأن التفرق ضلال متوعد عليه { بغياً بينهم } أي : فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب ودعوا الناس إليه وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة ، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف ، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل إلا أنه تعالى أخر عنهم العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى ، أي : وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله تعالى : { ولولا كلمة } أي : لا تبديل لها { سبقت } أي : في الأزل { من ربك } أي : المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم بتأخيرهم { إلى أجل مسمى } ضربه لآجالهم ثم يجمعهم في الآخرة { لقضي } على أيسر وجه وأسهله { بينهم } حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق ، قال ابن عباس : والذين أريدوا بهذه الصفة هم اليهود والنصارى لقوله تعالى في آل عمران : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } ( آل عمران : 19 ) وقوله تعالى في سورة لم يكن : { وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } ( البينة : 4 ) وكذلك في قوله تعالى : { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } أي : المتفرقين هم اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هم هذه الأمة الذين أورثوا القرآن . ولما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات فورثوه كما قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } ( فاطر : 32 ) فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازعة في ادعائه حال الوارث والموروث منه { لفي شك منه } أي : من كتاب لا يعلمونه كما هو لا يؤمنون به حق الإيمان ، أو من القرآن فيقولون إنه سحر وشعر وكهانة ونحو ذلك ، وقيل : في شك من محمد صلى الله عليه وسلم وجرى على ذلك الجلال المحلي { مريب } أي : موقع في التهمة .