قوله تعالى : { وبرزوا لله جميعا } أي : خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا { فقال الضعفاء } ، يعني : الأتباع ، { للذين استكبروا } ، أي : تكبروا على الناس وهم القادة والرؤساء : { إنا كنا لكم تبعاً } جمع تابع ، مثل : حرس وحارس ، { فهل أنتم مغنون } ، دافعون ، { عنا من عذاب الله من شيء } . { قالوا } ، يعني القادة المتبوعين : { لو هدانا الله لهديناكم } ، أي : لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى ، فلما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة ، { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } ، مهرب ولا منجاة . قال مقاتل : يقولون في النار : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام ، فلا ينفعهم الجزع ، ثم يقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فحينئذ يقولون : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } . قال محمد بن كعب القرظي : بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة . فقال الله تعالى : { وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب } [ غافر-49 ] ، فردت الخزنة عليهم : { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى } [ غافر-50 ] فردت الخزنة عليهم : { ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا { يا مالك ليقض علينا ربك } [ الزخرف-77 ] سألوا الموت ، فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ستون وثلاثمائة يوما ، واليوم كألف سنة مما تعدون ، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين { إنكم ماكثون } ، فلما أيسوا مما قبله ، بعضهم لبعض : إنه قد نزل بكم من البلاء ما ترون فهلموا فلنصبر ، فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم ، فأجمعوا على الصبر ، فطال صبرهم ثم جزعوا فنادوا : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } ، أي : من منجى . قال : فقام إبليس عند ذلك فخطبهم ، وذلك فقال : { إن الله وعدكم وعد الحق } ، الآية ، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودوا :{ لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } [ غافر-10 ] قال فنادوا الثانية : { فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون } ، فرد عليهم : { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } الآيات [ السجدة-12 ، 13 ] فنادوا الثالثة : { ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل } [ إبراهيم -44 ] ، فرد عليهم : { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال } الآيات [ إبراهيم-44 ] ، ثم نادوا الرابعة : { ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } فرد عليهم : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } ، الآية [ فاطر-37 ] قال : فمكث عليهم ما شاء الله ، ثم ناداهم : { ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } ، فلما سمعوا ذلك قالوا : الآن يرحمنا ، فقالوا عند ذلك : { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } ، قال عند ذلك : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون 105-108 ] فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء عنهم ، فأقبل بعضهم على بعض ينفخ بعضهم في وجوه بعض ، وأطبقت عليهم النار .
{ وَبَرَزُوا } أي : الخلائق { لِلَّهِ جَمِيعًا } حين ينفخ في الصور فيخرجون من الأجداث إلى ربهم فيقفون في أرض مستوية قاع صفصف ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ويبرزون له لا يخفى [ عليه ] منهم خافية ، فإذا برزوا صاروا يتحاجون ، وكل يدفع عن نفسه ، ويدافع ما يقدر عليه ، ولكن أني لهم ذلك ؟
فيقول { الضُّعَفَاءُ } أي : التابعون والمقلدون { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم : المتبوعون الذين هم قادة في الضلال : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } أي : في الدنيا ، أمرتمونا بالضلال ، وزينتموه لنا فأغويتمونا ، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : ولو مثقال ذرة ، { قَالُوا } أي : المتبوعون والرؤساء { أغويناكم كما غوينا } و { لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } فلا يغني أحد أحدا ، { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا } من العذاب { أَمْ صَبَرْنَا } عليه ، { مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } أي : من ملجأ نلجأ إليه ، ولا مهرب لنا من عذاب الله .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانباً من الحوار الذى يدور يوم القيامة بين الضعفاء والمستكبرين ، بين الأتباع والمتبوعين . . فقال - تعالى - : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ . . . }
وقوله { وبرزوا } من البروز بمعنى الظهور ، مأخوذ من البراز وهو الفضاء الواسع ، الذى يظهر فيه الناس بدون استتار . أى : وخرج الكافرون جميعاً من قبورهم يوم القيامة وظهوراً ظهوراً لا خفاء معه ، لكى يحاسبهم - سبحانه - على أعمالهم فى الدنيا .
وقال - سبحانه - { وبرزوا } بلفظ الفعل الماضى مع أن الحديث عن يوم القيامة ، للتنبيه على تحقق وقوع هذا الخروج ، وأنه كائن لا محالة .
وعبر - سبحانه - بهذا التعبير ، مع أنهم لا يخفون عليه سواء أبرزوا أم لم يبرزوا ، لأنهم كانوا فى الدنيا يستترون عن العيون عند اجتراحهم السيئات ويظنون أن ذلك يخفى على الله - عز وجل - .
ثم بين - سبحانه - ما سيقوله الضعفاء للمستكبرين فى هذا الموقف العصيب فقال :
{ فَقَالَ الضعفاء } وهم العوام والأتباع الذين فقدوا نعمة التفكير ، ونعمة حرية الإِرادة ، فهانوا وذلوا . .
قال هؤلاء الضعفاء { لِلَّذِينَ استكبروا } وهم السادة المتبوعون الذين كانوا يقودون أتباعهم إلى طريق الغى والضلال .
{ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ } - أيها السادة - { تبعا } جمع تابع كخادم وخدم .
أى : إنا كنا فى الدنيا تابعين لكم ، ومنقادين لأمركم ، فى تكذيب الرسل ، وفى كل ما تريدونه منا .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } للتقريع والتفجع .
ومغنون من الإِغناء بمعنى الدفاع والنصرة .
قال الشوكانى : " يقال : أغنى عنه إذا دفع عنه الأذى ، وأغناه إذا أوصل إليه النفع " .
أى : فهل أنتم - أيها المستكبرون - دافعون عنا شيئا من عذاب الله النازل لنا ، حتى ولو كان هذا الشئ المدفوع قليلا ؟ إن كان فى إمكانكم ذلك فاظهروه لنا ، فقد كنتم فى الدنيا سادتنا وكبراءنا ، وكنتم تزعمون أنكم أصحاب الحظوة يوم القيامة .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : أى فرق بين " من " فى { مِنْ عَذَابِ الله } وبينه فى { مِن شَيْءٍ } ؟
قلت : الأولى للتنبيه ، والثانية للتبعيض ، كأنه قيل : هل أنتم مغنون عنا بعض الشئ الذى هو عذاب الله ؟ ويجوز أن يكون للتبعيض معا بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شئ ، هو بعض عذاب الله ؟ أى : بعض بعض عذاب الله " .
ثم حكى - سبحانه - رد المستكبرين على المستضعفين فقال : { قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ . . . }
أى : قال المستكبرون - بضيق وتحسر - فى ردهم على المستضعفين : لو هدانا الله - تعالى - إلى الإِيمن الموصل إلى النجاة من هذا العذاب الأليم { لهديناكم } إليه ، ولكن ضللنا عنه وأضللناكم معنا ، واخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، ولو كنا نستطيع النفع لنفعنا أنفسنا .
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } .
والجزع : حزن يصرف الإِنسان عما هو بصدده لشدة اضطرابه وذهوله .
يقال : جزع فلان يجزع جزعا وجزوعا ، إذا ضعف عن حمل ما نزل به ولم يجد صبرا .
والمحيص : المهرب والمنجى من العذاب . يقال : حاص فلان عن الشئ يحيص حيصا ومحيصا ، إذا عدل عنه على وجه الهرب والفرار .
أى : مستو عندنا الجزع مما نحن فيه من عذاب ، أو الصبر على ذلك ، وليس لنا من مهرب أو منجى من هذا المصير الأليم .
فالآية الكريمة تحكى أقوال الضعفاء يوم القيامة ، وهى أقوال يبدو فيها طابع الذلة والمهانة كما هو شأنهم فى الدنيا ، كما تحكى رد المستكبرين عليهم ، وهو رد يبدو فيه التبرم والتفجع والتأنيب من طرف خفى لهؤلاء الضعفاء ، والتسليم بالواقع الأليم الذى لا محيص لهم عنه .
قال الإِمام ابن كثير : " قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا ، فإنما إدراك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله - تعالى - ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله ، فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : تعالوا ، فإنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر ، فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك . فعند ذلك قالوا : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } .
{ وبرزوا لله جميعا } أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر الله تعالى ومحاسبته ، أو { لله } على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش ويظنون أنها تخفى على الله تعالى ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم ، وإنما ذكر بلفظ الماضي لتحقيق وقوعه . { فقال الضعفاء } الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف الرأي ، وإنما كتبت بالواو على لفظ من بفخم الألف قبل الهمزة في فيمليها إلى الواو . { للذين استكبروا } لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم . { إنا كنا لكم تبعا } في تكذيب الرسل والإعراض عن نصائحهم ، وهو جمع تابع كغائب وغيب ، أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف . { فهل أنتم مغنون عنا } دافعون عنا . { من عذاب الله من شيء } من الأولى للبيان واقعة موقع الحال ، والثانية للتبغيض واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله ، ويجوز أن تكونا للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب الله ، والأعراب ما سبق ويحتمل أن تكون الأولى مفعولا والثانية مصدرا ، أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء . { قالوا } أي الذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع واعتذار عما فعلوا بهم . { لو هدانا الله } للإيمان ووفقنا له . { لهديناكم } ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، أو لو هدنا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم كما عرضناكم له ، لكن سد دوننا طريق الخلاص . { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } مستويان علينا الجزع والصبر . { ما لنا من محيص } منجى ومهرب من العذاب ، من الحيص وهو العدل على جهة الفرار ، وهو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت ومصدرا كالمغيب ، ويجوز أن يكون قوله { سواء علينا } من كلام الفريقين ويؤيده ما روي أنهم يقولون : تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون { سواء علينا } .