إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعٗا فَقَالَ ٱلضُّعَفَـٰٓؤُاْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُوٓاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمۡ تَبَعٗا فَهَلۡ أَنتُم مُّغۡنُونَ عَنَّا مِنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖۚ قَالُواْ لَوۡ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ لَهَدَيۡنَٰكُمۡۖ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَجَزِعۡنَآ أَمۡ صَبَرۡنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖ} (21)

{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا } أي يبرُزون يوم القيامة ، وإيثارُ صيغة الماضي للدَّلالة على تحقق وقوعِه كما في قوله سبحانه : { وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف ، الآية 44 ] أو لأنه لا مُضِيَّ ولا استقبالَ بالنسبة إليه سبحانه ، والمرادُ بروزُهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته ، أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابِهم الفواحشَ سراً أنها تخفى على الله سبحانه ، فإذا كان يومُ القيامة انكشفوا لله عند أنفسِهم { فَقَالَ الضعفاء } الأتباعُ جمع ضعيف ، والمرادُ ضعفُ الرأي ، وإنما كتب بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة { لِلَّذِينَ استكبروا } لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغوَوْهم { إِنَّا كُنَّا } في الدنيا { لَكُمْ تَبَعًا } في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراضِ عن نصائحهم ، وهو جمعُ تابع كغيب في جمع غائب ، أو مصدر نُعت به مبالغةً ، أو على إضمار أي ذوي تبع { فَهَلْ أَنتُمْ مغْنُونَ } دافعون { عَنَّا } والفاء للدِلالة على سببية الاتباعِ للإغناء ، والمرادُ التوبيخُ والعتابُ والتقريعُ والتبكيت { مِنْ عَذَابِ الله مِن شيء } من الأولى للبيان واقعةٌ موقعَ الحال ، والثانية للتبعيض واقعةٌ موقعَ المفعول ، أي بعضُ الشيء الذي هو عذابُ الله تعالى ويجوز كونُهما للتبعيض أي بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً أي فهل أنتم مغنون عنا بعضَ العذاب بعضَ الإغناء ، ويعضُد الأولَ قوله تعالى : { فَهَلْ أَنتُم مغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً منَ النار } [ غافر ، الآية 47 ] .

{ قَالُواْ } أي المستكبرون جواباً عن معاتبة الأتباعِ واعتذاراً عما فعلوا بهم { لَوْ هَدَانَا الله } أي للإيمان ووفّقنا له { لَهَدَيْنَاكُمْ } ولكن ضَلَلْنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، أو لو هدانا الله طريقَ النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرّضناكم له ، ولكن سُدّ دوننا طريقُ الخلاص ولاتَ حينَ مناص { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا } مما لقِينا { أَمْ صَبَرْنَا } على ذلك أي مستوٍ علينا الجزَعُ والصبرُ في عدم الإنجاء ، والهمزةُ وأم لتأكيد التسويةِ كما في قوله تعالى : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } [ البقرة ، الآية 6 ] وإنما أسندوهما ونسبوا استواءَهما إلى ضمير المتكلم المنتظِمِ للمخاطبين أيضاً مبالغةً في النهي عن التوبيخ بإعلام أنهم شركاءُ لهم فيها ابتُلوا به وتسليةً لهم ، ويجوز أن يكون قوله : { سَوَاء عَلَيْنَا } الخ ، من كلام الفريقين على مِنوال قوله تعالى : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ } [ سورة يوسف 52 ] ويؤيده ما روي ( أنهم يقولون : تعالَوا نجزَعْ فيجزعون خمسَمائة عام فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالَوا نصبِرْ فيصبِرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك ) ، ولما كان عتابُ الأتباع من باب الجزَعِ ذيّلوا جوابَهم ببيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا : { مَا لَنَا مِن محِيصٍ } من منجى ومهربٍ من العذاب ، من حاص الحمارُ إذا عدل بالفرار ، وهو إما اسمُ مكان كالمبيت والمَصيف ، أو مصدرٌ كالمغيب والمشيب وهي جملةٌ مفسِّرة لإجمال ما فيه الاستواءُ فلا محل لها من الإعراب ، أو حالٌ مؤكدة ، أو بدلٌ منه .