معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة .

{ الر تلك آيات الكتاب المبين } ، أي : البين حلاله وحرامه ، وحدوده وأحكامه . قال قتادة : مبين- والله- بركته وهداه ورشده ، فهذا من بان أي : ظهر . وقال الزجاج : مبين الحق من الباطل والحلال من الحرام ، فهذا من أبان بمعنى أظهر .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام وهي مكية

{ 1 - 3 ْ } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ْ }

يخبر تعالى أن آيات القرآن هي { آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ْ } أي : البين الواضحة ألفاظه ومعانيه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

تعريف بسورة يوسف –عليه السلام-

1- سورة يوسف –عليه السلام- هي السورة الثانية عشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقها في الترتيب سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس وهود . .

أما ترتيبها في النزول ، فكانت السورة الثالثة والخمسين ، وكان نزولها بعد سورة هود –عليه السلام- .

وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة آية .

وجه تسميتها بهذا الاسم ظاهر ، لأنها مشتملة على قصته –عليه السلام- مع إخوته ، ومع امرأة العزيز ، ومع ملك مصر في ذلك الوقت . .

ولم يذكر اسم يوسف –عليه السلام- في غير هذه السورة سوى مرتين : إحداهما في سورة الأنعام في قوله –تعالى- [ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ، ونوحا هدينا من قبل ، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون . . . ] الآية 84 .

والثانية في سورة غافر في قوله –تعالى- [ ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات . . . ] الآية 34 .

والقول الصحيح أن سورة يوسف جميعها مكية ، ولا التفات إلى قول من قال بأن فيها آيات مدنية ، لأن هذا القول لا دليل عليه .

قال الآلوسي : سورة يوسف مكية كلها على المعتمد ، وروى عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : هي مكية إلا ثلاث آيات من أولها . واستثنى بعضهم رابعة وهي قوله –تعالى- : [ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ] .

2- وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه ، وما اعتمدناه –كغيرنا- من أنها كلها مكية – هو الثابت عن الحبر أي عن ابن عباس " ( {[1]} ) .

3- وقد ورد في سبب نزولها روايات متعددة ، منها ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه على أصحابه زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا فنزلت سورة يوسف . . . " ( {[2]} ) .

4- طبيعة الفترة التي نزلت فيها هذه السورة : قلنا إن سورة يوسف كان نزولها بعد سورة هود ، وسبق أن بينا عند تفسيرنا لسورة هود ، أن هذه السورة الكريمة كان نزولها –على الراجح- في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج . .

ويبدو أن سورة يوسف –أيضا- كان نزولها في هذه الفترة ، التي تعتبر من أشق الفترات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذ تعرض خلالها للكثير من أذى المشركين ، بعد أن فقد صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة عمه أبا طالب ، وزوجه السيدة خديجة – رضي الله عنها .

ونزول سورة يوسف في هذه الفترة ، كان من أعظم المسليات التي واسى الله –تعالى- بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقد أخبره عما دار بين يوسف وإخوته ، وعما تعرض له هذا النبي الكريم من مصائب وأذى . .

ولاشك أن في قصة يوسف وما يشبهها ، تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه .

5- والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها قد اشتملت على أوضح الدلائل ، وأنصع البراهين ، التي تشهد بأن هذا القرآن من عند الله . . .

فقد قصت علينا قصة يوسف –عليه السلام- مع إخوته ومع غيرهم بأسلوب مشوق حكيم ، يهدي النفوس ، ويشرح الصدور ، ويكشف عن الخفايا التي لا يعلمها أحد إلا الله –تعالى- ، ويصور أحوال النفس الإنسانية تصويرا بديعا معجزا . .

كما يراها قد ساقت ما ساقت من حكم وأحكام ، وعبر وعظات ، بأسلوب يمتاز بحسن التقسيم ، وجمال العرض ، حتى إننا لنستطيع أن نقسم أهم الموضوعات التي تحدثت عنها إلى عشرة أقسام .

( أ‌ ) أما القسم الأول( {[3]} ) منها ، فنراها تتحدث فيه عن جانب من فضائل القرآن الكريم ، وعن رؤيا يوسف –عليه السلام- وعن نصيحة أبيه له بعد أن قصها عليه . .

قال –تعالى- [ ألر . تلك آيات الكتاب المبين* إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون* نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين* إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين* قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين ] .

( ب‌ ) وفي القسم الثاني( {[4]} ) منها نراها تحدثنا عن مكر إخوة يوسف به ، وحسدهم له ، وتآمرهم على الانتقام منه وإجماعهم على أن يلقوا به في الجب ، وتنفيذهم لذلك بعد خداعهم لأبيهم ، وزعمهم له بأنهم سيحافظون على أخيهم يوسف . . .

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي كل ذلك بأسلوبه البديع المعجز فيقول : [ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين* إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة ، إن أبانا لفي ضلال مبين* اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين* قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب . يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ] .

إلى أن يقول –سبحانه- : [ وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ] .

( ج ) ثم نراها في القسم الثالث( {[5]} ) منها تحدثننا عن انتشال السيارة ليوسف من الجب ، وعن بيعهم له بثمن بخس دراهم معدودة ، وعن وصية من اشتراه لامرأته بإكرام مثواه ، وعن محنته مع تلك المرأة التي راودته عن نفسه [ وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ] وعن خروجه من هذه المحنة بريئا ، نقي العرض ، طاهر الذيل . . . بعد أن شهد ببراءته شاهد من أهلها .

قال –تعالى- : [ وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه ، قال يا بشرى هذا غلام ، وأسروه بضاعة ، والله عليم بما يعملون* وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين* وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . . . ] .

إلى أن يقول –سبحانه- : [ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون . . . ] .

ثم يختم –سبحانه- هذا القسم من السورة بحكاية ما قاله الزوج لامرأته وليوسف ، بعد أن تبين له صدق يوسف وكذب امرأته فيقول : [ فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم* يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ] .

( د ) ثم تحدثنا السورة بعد ذلك في القسم الرابع( {[6]} ) منها عن شيوع خير امرأة العزيز مع فتاها ، وعما فعلته تلك المرأة مع من أشاع هذا الخبر ، وعن لجوء يوسف –عليه السلام- إلى ربه يستجير به من كيد هؤلاء النسوة . .

قال –تعالى- حاكيا هذا المشهد بأسلوب معجز : [ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ، قد شغفها حبا ، إنا لنراها في ضلال مبين* فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن . فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن ، وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم* قالت فذلكن الذي لمتني فيه ، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين* قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين* فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم* ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ] .

( ه ) ثم تحدثنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم( {[7]} ) الخامس منها ، عن يوسف السجين المظلوم ، وكيف أنه لم يمنعه السجن من دعوة رفاقه فيه إلى وحدانية الله ، وإلى إخلاص العبادة له –سبحانه- .

[ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار* ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ] .

( و ) ثم تحدثنا السورة الكريمة في القسم( {[8]} ) السادس منها عن الرؤيا المفزعة التي رآها ملك مصر في ذلك الوقت ، وكيف أن حاشيته عجزت عن تفسيرها ، ولكن يوسف الصديق فسرها تفسيرا صحيحا أعجب الملك ، وحمخله على دعوته للالتقاء به ، إلا أن يوسف –عليه السلام- أبى الالتقاء به إلا بعد أن يحقق الملك في قضيته بنفسه ، ويعلن براءته على رءوس الأشهاد . .

وبعد أن استجاب الملك لطلب يوسف ، وثبتت براءته –عليه السلام- حضر معززا مكرما وقال للملك بعزة وإباء : [ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ] .

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي هذا المشهد بأسلوبها الزاخر بالمحاورات والمفاجآت ، فتقول : [ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، يأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون* قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين* وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون* يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون* قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون . . . ] .

وينتهي هذا المشهد ببيان سنة من سنن الله –تعالى- التي لا تتخلف ، والتي تتمثل في حسن عاقبة المؤمنين حيث يقول –سبحانه- : [ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين* ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ] .

( ز ) ثم تنتقل السورة الكريمة في القسم السابع( {[9]} ) منها إلى الحديث عن اللقاء الأول الذي تم بين يوسف وإخوته ، بعد أن حضروا من بلادهم بفلسطين إلى مصر يلتمسون الزاد والطعام . . . وكيف أنه عرفهم دون أن يعرفوه . . وكيف أنه –عليه السلام- طلب منهم بعد أن أكرمهم أن يحضروا إليه من بلادهم ومعهم أخوهم من أبيهم –وهو شقيقه " بنيامين " .

وكيف أن أباهم وافق على إرسال " بنايمين " معهم بعد أن أخذ عليهم العهود والمواثيق لكي يحافظوا عليه . .

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي كل ذلك فتقول : [ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون* ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ، ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين* فإن لم تأتوني به فلا كيف لكم عندي ولا تقربون* قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون* وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون* فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون* قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين . . . ] .

( ح ) ثم حدثتنا السورة الكريمة في القسم الثامن( {[10]} ) منها عن اللقاء الثاني الذي تم بين يوسف وإخوته ، بعد أن حضروا إلي في هذه المرة ومعهم " بنيامين " شقيق يوسف ، وكيف قام يوسف بالتعرف عليه ، ثم كيف احتجزه عنده بحيلة دبرها بإلهام من الله –تعالى- وكيف رد على إخوته الذين طلبوا منه أن يأخذ أحدهم مكان " بنيامين " . . .

وماذا قال " يعقوب " –عليه السلام- بعد أن عاد إليه أبناؤه ، وليس معهم " بنيامين " .

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي كل هذه المشاهد والأحداث فتقول :

[ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون* فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ، ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون* قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون* قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمخل بعير وأنا به زعيم* قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين* قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين* قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين* فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ، كذلك كدنا ليوسف ، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله ، نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم . . . ] .

وينتهي هذا القسم بقول يعقوب –عليه السلام- لأبنائه بعد أن عادوا إليه وليس معهم أخوهم بنيامين : [ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم* وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم* قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين . قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون . يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ] .

( ط ) ثم حدثتنا السورة الكريمة بعد ذلك في القسم التاسع( {[11]} ) منها عن اللقاء الثالث والأخير بين يوسف وإخوته ، فحكت لنا أن يوسف –عليه السلام- كشف لإخوته عن نفسه في هذا اللقاء . وأمرهم بأن يذهبوا بقميصه ليلقوا به على وجه أبيه . . . كما أمرهم أن يعودوا إليه ومعه جميع أهلهم .

كما حكت لنا لقاء يوسف بأبويه ، وإكرامه لهما ، وشكره لله –تعالى- على ما وهبه من نعم . .

قال –تعالى- حاكيا ما دار بين يوسف وإخوته ، وبين يوسف وأبيه في هذا اللقاء : [ فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين* قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون* قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد منَّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ] .

[ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا . وأتوني بأهلكم أجمعين . . . ] .

[ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ] .

ثم ختم –سبحانه- قصة يوسف بهذا الدعاء الذي حكاه –سبحانه- عنه في قوله : [ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ، فاطر السموات والأرض ، أنت وليي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلما وألحقني بالصالحين ] .

( ي ) أما القسم العاشر( {[12]} ) والأخير من السورة الكريمة ، فقد كان تعقيبا على ما جاء في تلك القصة من حكم وأحكام ، ومن عبر وعظات ، ومن آداب وهدايات . .

وقد بين –سبحانه- في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند الله ، وما يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه . .

كما بين –سبحانه- في هذا القسم ما يدل على أن القرآن من عند الله ، وما يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه . .

كما بين –سبحانه- وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف المشركين من دعوته وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل وأن العاقبة ستكون له ولأتباعه المؤمنين .

قال تعالى : [ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون* وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين* وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين* وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون* وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . . . ] .

ثم يختتم –سبحانه- هذه السورة الكريمة بقوله : [ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ] .

6- هذا عرض مجمل لأهم الموضوعات التي اشتملت عليها سورة يوسف –عليه السلام- ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أهمها ما يأتي :

( أ‌ ) إبراز الحقائق والهدايات ، بأسلوب المحاورات والمجادلات والمناقشات . . . ومن مظاهر ذلك :

المحاورات التي دارت حول إخوة يوسف في شأن الانتقام منه ، والتي منها قوله –تعالى- : [ لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين* إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين* اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ، وتكونوا من بعده قوما صالحين* قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ] .

والمحاورات التي دارت بينهم وبين أبيهم في شأن اصطحابهم ليوسف ، والتي منها قوله –تعالى- : [ قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون* أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون* قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون* قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ] .

والمحاورات التي دارت بين يوسف وإخوته ، بعد أن عرفهم وهم له منكرون ، وبعد أن ترددوا عليه ثلاث مرات للحصول على حاجتهم من الزاد . . والتي منها قوله –تعالى- : [ فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة ، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين . قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون* قالوا أئنك لأنت يوسف ، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا ، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين* قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين* قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ] .

وهكذا نجد السورة الكريمة زاخرة بأسلوب المحاورات والمناقشات والمجادلات . تارة بين يوسف وإخوته ، وتارة بين إخوته فيما بينهم ، وتارة بينهم وبين أبيهم ، وتارة بين يوسف وامرأة العزيز ، وتارة بينه وبين ملك مصر في ذلك الوقت .

وهذه المحاورات التي حفلت بها السورة الكريمة ، قد أكسبتها لونا من العرض المشوق ، الذي يجعل القارئ لها يتعجل حفظ كل موضوع من موضوعاتها ، ليصل إلى الموضوع الذي يليه .

وهذا الأسلوب في عرض الحقائق من أسمى الأساليب التي تعين القارئ على حفظ القرآن الكريم ، وعلى تدبر معانيه ، وعلى الانتفاع بهداياته . . .

( ب‌ ) إبرازها لجوهر الأحداث ولبابها . . أما تفاصيل هذه الأحداث . فتركت معرفتها لفهم القارئ وفطنته ، وسلامة تفكيره ، وحسن تدبره لكلام الله –تعالى- . .

وهذا اللون من العرض للأحداث ، يسمى في عرف البلغاء ، بأسلوب الإيجاز بالحذف والقارئ لهذه السورة الكريمة بتدبر وتأمل ، يراها على رأس السور القرآنية التي كثر فيها هذا الأسلوب البليغ .

فمثلا قوله –تعالى- : [ وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل . . . ] معطوف على كلام محذوف يفهم من السياق .

والتقدير : وبعد أن ألقى إخوة يوسف به في الجب وانصرفوا لشئونهم " جاءوا على قميصه بدم كذب " لكي يخدعوا أباهم ، فلما أخبروه بأن الذئب قد أكله قال : [ بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل . . . ] .

وكذلك قوله –تعالى- : [ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه . . . ] مترتب على كلام محذوف يفهم من سياق الآيات .

والتقدير : وبعد أن سمع ما قالته النسوة بشأنه عندما دخل عليهن بأمر من امرأة العزيز ، وسمع تهديد هذه المرأة له بقولها : [ قالت فذلكن الذي لمتني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ] .

بعد أن سمع يوسف كل ذلك ، وتيقن من مكرهن به ، لجأ إلى ربه مستجيرا به من كيدهن فقال : [ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه . . . ] .

وأيضا قوله –تعالى- : [ وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئتكم بتأويله فأرسلون* يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان . . . ] . يعتبر من بديع أسلوب الإيجاز بالحذف ، إذ تقدير الكلام :

وبعد أن عجز الملأ عن تفسير رؤيا الملك ، وقالوا له : إن رؤياك أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ، قال الذي نجا منهما ، أي : من صاحبي يوسف في السجن وهو الساقي [ وادكر بعد أمة ] أي وتذكر بعد نسيان طويل [ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ] إلى من عنده تفسير هذه الرؤيا تفسيرا صحيحا –وهو يوسف- فاستجابوا له وأرسلوه إلى يوسف ، فذهب إليه في السجن ، فلما دخل عليه قال له : يا يوسف يأيها الصديق ، أفتنا في سبع بقرات سمان . . . إلخ .

وهذا الأسلوب الذي زخرت به السورة الكريمة ، وهو أسلوب الإيجاز بالحذف ، من شأنه أنه ينشط العقول ، ويبعثها على التأمل والتدبر فيما تقرؤه ، ويعينها على الاتعاظ والاعتبار . .

وهو أسلوب أيضا تقتضيه هذه السورة الكريمة ، لأنها تتحدث عن قصة نبي من أنبياء الله –تعالى- . والحديث عن ذلك يستلزم إبراز جوهر الأحداث ولبابها ، لا إبراز تفاصيلها وما لا فائدة من ذكره .

فاشتمال السورة الكريمة على هذا الأسلوب البليغ ، هو من باب رعاية الكلام لمقتضى الحال ، وهو أصل البلاغة وركنها الركين .

( ج ) السورة الكريمة اهتمت اهتماما واضحا بشرح أحوال النفس البشرية وتحليل ما يصدر عنها في حال رضاها وغضبها ، وفي حال صفائها وحقدها . .

وقد حدثتنا عن الشخصيات التي وردت فيها حديثا صادقا أمينا ، كشفت لنا فيه عن جوانب متعددة من أخلاقهم ، وسلوكهم ، وميولهم ، وأفكارهم . . وأعطت كل واحد منهم حقه في الحديث عنه .

( 1 ) فيوسف –عليه السلام- وهو الشخصية الرئيسية في القصة –حدثتنا عنه حديثا مستفيضا نستطيع من خلاله ، أن نرى له –عليه السلام- مناقب ومزايا متنوعة من أهمها ما يأتي :

امتلاكه لنفسه ولشهوته مهما كانت المغريات ، بسب خوفه لمقام ربه ، ونهيه لنفسه عن الهوى . .

ولا أدل على ذلك من قوله –تعالى- : [ وراودتته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ، قال معاذ الله ، إنه ربي وأحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون . . ] .

قال الشيخ القاسمي : قال الإمام ابن القيم ما ملخصه : " لقد كانت دواعي متعددة تدعو يوسف إلى الاستجابة لطلب امرأة العزيز منها : ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة . .

ومنها : أنه كان شابا غير متزوج . . ومنها : أنها كانت ذات منصب وجمال . . وأنها كانت غير آبية ولا ممتنعة . . بل هي التي طلبت وأرادت وبذلت الجهد . .

ومنها : أنه كان في دارها وتحت سلطانها . . فلا يخشى أن تنم عليه .

ومنها : أنها استعانت عليه بآئمة المكر والاحتيال فأرته إياهن ، وشكت حالها إليهن . .

ومنها : أنها توعدته بالسجن والصغار إن لم يفعل ما تأمره به . .

ومع كل هذه الدواعي ، فقد آثر يوسف مرضاة الله ومراقبته ، وحمله خوفه من خالقه على أن يختار السجن على ارتكاب ما يغضبه . . " ( {[13]} ) .

2- صبره الجميل على المحن والبلايا ، ولجوؤه إلى ربه ليستجير به من كيد امرأة العزيز وصواحبها : [ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين . . ] .

3- نشره للدين الحق ، ودعوته لعبادة الله وحده ، حتى وهو بين جدران السجن ، فهو القائل لمن معه في السجن : [ يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير ، أم الله الواحد القهار* ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . . . ] .

4- حسن تدبيره للأمور ، وتوصله إلى ما يريده بأحكم الأساليب ، وحرصه الشديد على إنقاذ الأمة مما يضرها ويعرضها للهلاك ، [ قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون . . . ] .

5- عزة نفسه ، وسمو خلقه ، فقد أبى أن يذهب لمقابلة الملك إلا بعد إعلان براءته [ وقال الملك ائتوني به ، فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم . . ] .

6- تحدثه بنعمة الله ، ومعرفته لنفسه قدرها ، وطلبه المنصب الذي يناسبه ، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه [ قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ] .

7- تحدثه بنعمة الله ، ومعرفته لنفسه قدرها ، وطلبه المنصب الذي يناسبه ، ويثق بقدرته على القيام بحقوقه [ قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ] .

7- ذكاؤه وفطنته ، فقد تعرف على إخوته مع طول فراقه لهم : [ وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون . . . ] .

8- عفوه وصفحه عمن أساء إليه [ قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين . . ] .

9- وفاؤه لأسرته ولعشيرته [ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ] .

10- شكر الله –تعالى- على نعمه ومننه [ رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين ] .

هذا جانب من حديث السورة الكريمة عن يوسف –عليه السلام- ، وهو حديث يدل على أنه كان في الذروة العليا من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم . .

( د ) وتحدثت السورة الكريمة عن يعقول –عليه السلام- فذكرت من بين ما ذكرت عنه ، صفات الصبر الجميل ، والأمل في رحمة الله مهما اشتدت الخطوب ، والحرص على سلامة أبنائه من كل ما يؤذيهم حتى ولو أساءوا إليه ، والنظر إلى الأمور بعين تختلف عن عيون أبنائه ، والحكم عليها بحكم يختلف عن أحكامهم . .

يدل على ذلك قوله –تعالى- [ وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل ] .

وقوله –تعالى- : [ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا . . . ] .

وقوله -تعالى- : [ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة . . . ] .

وقوله –تعالى- : [ ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون . قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم . فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ] .

( ه ) وتحدثت عن إخوة يوسف حديثا مستفيضا ، تبدو فيه غيرتهم من يوسف ، وحسدهم له ، وتآمرهم على حياته ، وحقدهم عليه حتى وهو بعيد عنهم . . ثم ندمهم في النهاية على ما فرط منهم في حقه بعد أن مكن الله له في الأرض . .

نرى ذلك في مثل قوله –تعالى- : [ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم . . ]

وفي قوله : [ قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ] .

وفي قوله –سبحانه- : [ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل . . . ] .

وفي قوله –سبحانه- : [ قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ] .

( و ) وتحدثت عن امرأة العزيز حديثا يكشف عن حال المرأة عندما تحب . . وكيف أنها في سبيل الحصول على رغبتها تحطم كل الموانع النفسية والاجتماعية . . وتستخدم كل الوسائل التي تظن أنها ستوصلها إلى مرادها . حتى ولو كانت هذه الوسائل تخالف ما عرف عن المرأة من أنها حريصة على أن تكون مطلوبة من الرجل لا طالبة له . .

( ز ) وتحدثت عن العزيز حديثا قصيرا يناسب حجمه وسلوكه وتبلد شعوره ، فهو مع إيقانه بخطأ امرأته لم يزد على أن قال ليوسف ولها [ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ] .

( ح ) وتحدثت عن ملك مصر في ذلك الوقت . . . وعن البيئة التي وصل الحال بها أن تزج بيوسف البريء في السجن ، إرضاء لشهوات النفوس الجامحة . .

قال –تعالى- : [ ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ] .

وهكذا نجد السورة الكريمة تحدثنا عن نماذج من البشر ، فتصف كل نموذج بما يناسبه من صفات ، بصدق وأمانة ، وتحكم عليه بالحكم الذي يناسبه .

قال صاحب الظلال ما ملخصه : والسورة كلها لحمة واحدة عليها الطابع المكي واضحا في موضوعها وفي جوها وفي ظلالها وإيحاءاتها ، بل إن عليها طابع هذه الفترة الحرجة الموحشة بصفة خاصة . .

ففي الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعاني من الوحشة والغربة والانقطاع في جاهلية قريش –منذ عام الحزن- كان الله –تعالى- يقص عليه قصة أخ له كريم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات . .

محنة كيد الإخوة ، ومحنة الجب ، ومحنة الرق ، ومحنة كيد امرأة العزيز ، ومحنة السجن ، ثم محنة الرخاء والجاه والسلطان . .

فلا عجب أن تكون هذه السورة بما احتوته من قصة ذلك النبي الكريم ، ومن التعقيبات عليها بعد ذلك . . تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه عما أصابهم من أعدائهم ، وتسرية لقلوبهم وتطمينا لنفوسهم .

ولكأن الله –تعالى- يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : كما أخرج يوسف من حضن أبيه ليواجه هذه الابتلاءات كلها ، ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين . .

كذلك أنت يا محمد ستخرج من بلدك مكة مهاجرا . . . ثم تعود إليها في الوقت الذي يشاؤه الله ظافرا منتصرا( {[14]} ) .

وبعد : فهذا تعريف لسورة يوسف ، رأينا أن نسوقه قبل البدء في تفسيرها ، لعله يعين على فهم ما اشتملت عليه من حكم وأحكام . ومن عبر وعظات . .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

د . محمد سيد طنطاوي .

افتتحت سورة يوسف - عليه السلام - ببعض الحروف المقطعة . وقد سبق أن تكلمنا عن آراء العلماء في هذه الحروف في سورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ، وهود .

وقلنا ما ملخصه : لعل أقرب الأقوال إلى الصواب ، أن هذه الحروف المقطعة ، قد وردت في افتتاح بعض السور على سبيل الايقاظ والتنبيه إلى إعجاز القرآن الكريم .

فكأن الله - تعالى - يقول لأولئك المعارضين في أن القرآن من عند الله - تعالى - : هاكم ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الجهائية التي تنظمون منها حروفكم . . فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكى يعاونكم في ذلك .

ومما يشهد لصحة هذا الرأى : أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة تراها تتحدث - صراحة أو ضمنا - عن القرآن الكريم وعن كونه من عند الله - تعالى - وعن كونه معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ففى مطلع سورة البقرة : { الاما . ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ . . . } وفى مطلع سورة آل عمران : { الاما . الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم . نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل . . } وفى أول سورة يونس : { الار تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم . أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ . . . } وفى أول سورة هود : { الار كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . . . } وهكذا نجد أن معظم الآيات التي تلى الحروف المقطعة ، منها ما يتحدث عن أن هذا الكتاب من عند الله - سبحانه - ومنها ما يتحدث عن وحدانية الله - تعالى - ، ومنها ما يتحدث عن صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوته . .

وهذا كله لتنبيه الغافلين إلى أن هذا القرآن من عند الله ، وأنه المعجزة الخالدة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .

ثم قال - تعالى - : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين }

و " تلك " اسم إشارة ، المشار إليه الآيات ، والمراد بها آيات القرآن الكريم ويندرجح فيها آيات السورة التي معنا .

والكتاب : مصدر كتب كالكتب . وأصل الكتب ضم أديم إلى آخر بالخياطة . واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، والمراد به القرآن الكريم .

والمبين : أى الواضح الظاهر من أبان بمعنى بان أى ظهر .

والمعنى : تلك الآيات التي نتلوها عليك - أيها الرسول الكريم - في هذه السورة اوفى غيرها ، هي آيات الكتاب الظاهر أمره ، الواضح إعجازه ، بحيث لا تشتبه على العقلاء حقائقه ، ولا تلتبس عليهم هداياته .

وصحت الإِشارة إلى آيات الكتاب الكريم ، مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها ، لأن الإِشارة إلى بعضها كالإِشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإِنزال ، ولأن الله - تعالى - قد وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنزول القرآن عليه ، كما في قوله { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ووعد الله - تعالى - لا يتخلف .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
[3]:- سورة المائدة: الآيتان 15، 16.
[4]:- سورة الجن: الآيتان 1، 2.
[5]:- سورة البقرة: الآيتان 23، 24.
[6]:- الأترجة: ثمرة حلوة الطعم، طيبة الرائحة، جميلة اللون، تشبه التفاحة.
[7]:- تفسير القرطبي: ج1 ص4 وما بعدها.
[8]:- سورة الحجر. الآية 9.
[9]:- تفسير القرطبي ج1 ص26.
[10]:- تفسير ابن كثير ج1 ص4 وما بعدها –بتصرف وتلخيص-.
[11]:- عرض الشيء: أظهره وأبرزه. المعجم ج2 ص593.
[12]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[13]:- سورة الإسراء. الآية 9.
[14]:- سورة المائدة: الآيتان 15، 16.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة يوسف

[ وهي مكية ]{[1]} روى الثعلبي وغيره ، من طريق سَلام بن سليم - ويقال : سليم - المدائني ، وهو متروك ، عن هارون بن كثير - وقد نصّ على جهالته أبو حاتم - عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علموا أرقاءكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها ، أو علمها أهله ، أو ما{[2]} ملكت يمينه ، هَوَّن الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه من القوة ألا يحسد مسلما " {[3]} .

وهذا من هذا الوجه لا يصح ، لضعف إسناده بالكلية . وقد ساقه له{[4]} الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم ، عن هارون بن كثير ، به - ومن طريق شَبَابة ، عن مخلد بن عبد الواحد البصري{[5]} عن علي بن زيد بن جدعان - وعن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حُبَيش ، عن أُبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر نحوه{[6]} وهو منكر من سائر طرقه .

وروى البيهقي في " الدلائل " أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم . وهو من رواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة " البقرة " .

وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن ، { الْمُبِينِ } أي : الواضح الجلي ، الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها{[15016]} .

{ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ؛ فلهذا أنزلَ أشرف الكتب بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة{[15017]} أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان ، فكمل من كل الوجوه ؛ ولهذا قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن .

وقد وَرَدَ في سبب نزول هذه الآيات ما رواه ابن جرير :

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ{[15018]} . حدثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو - هو ابن قيس الملائي - عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؟ فنزلت : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } {[15019]} .

ورواه من وجه آخر ، عن عمرو بن قيس مرسلا .

وقال أيضا : حدثنا محمد بن سعيد{[15020]} العطار{[15021]} ، حدثنا عمرو بن محمد ، أنبأنا خَلاد الصفار ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مُرَّة{[15022]} ، عن مصعب بن سعد عن سعد قال : أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، قال : فتلا عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصتَ علينا . فأنزل الله عز وجل : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }{[15023]} . ثم تلا عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدثتنا . فأنزل الله عز وجل : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية [ الزمر : 23 ] ، وذكر الحديث .

ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن رَاهَويه ، عن عمرو بن محمد القرَشي العَنْقزي ، به{[15024]} .

وروى ابن جرير بسنده{[15025]} ، عن المسعودي ، عن عَوْن بن عبد الله قال : مَلّ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلّةَ ، فقالوا : يا رسول الله ، حَدثنا . [ فأنزل الله : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ثم مَلّوا ملة أخرى فقالوا : يا رسول الله ، حدثنا ]{[15026]} فوق الحديث ودون القرآن - يعنون القصص - فأنزل الله : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فأرادوا الحديث ، فدلَّهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص{[15027]} .

ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة ، المشتملة على مدح القرآن ، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما قال الإمام أحمد :

حدثنا سُرَيْج بن النعمان ، أخبرنا هُشَيْم ، أنبأنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : " أمُتَهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذّبونه ، أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ، لما{[15028]} وسعه إلا أن يتبعني " {[15029]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ، ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه{[15030]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا . قال : فسُرِّي عن النبي{[15031]} صلى الله عليه وسلم وقال : " والذي نفس محمد بيده ، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حَظِّي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين " {[15032]} .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا علي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن خليفة بن قيس ، عن خالد بن عُرْفَطة قال : كنت جالسا عند عمر ، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس ، فقال له عمر : أنت فلان بن فلان العبدي ؟ قال : نعم . قال : وأنت النازل بالسوس ، قال : نعم . فضربه بقناة معه ، قال : فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر : اجلس . فجلس ، فقرأ عليه : { بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ] } {[15033]} إلى قوله : { لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فقرأها{[15034]} ثلاثا ، وضربه ثلاثا ، فقال له الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال ! قال : مرني بأمرك أتبعه . قال : انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض ، ثم لا تقْرأه{[15035]} ولا تُقرئه أحدا من الناس ، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنّك عقوبة ، ثم قال له : اجلس ، فجلس بين يديه ، فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ، ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هذا في يدك يا عمر ؟ " . قال : قلت : يا رسول الله ، كتاب نسخته لنزداد{[15036]} به علما إلى علمنا . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم ؟ السلاح السلاح . فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا أيها الناس ، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختُصِر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تَتهوَّكوا ، ولا يغرنكم المتهوِّكون " . قال عمر : فقمت فقلت : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبك رسولا . ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم{[15037]} .

وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا ، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، به . وهذا حديث غريب من هذا الوجه . وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شَيبَة{[15038]} الواسطي ، وقد ضعفوه وشيخه . قال البخاري : لا يصح حديثه .

قلت : وقد روي له شاهد من وجه آخر ، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي : أخبرني الحسن بن سفيان ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثني عمرو بن الحارث ، حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري ، عن الزبيدي ، حدثنا سليم بن عامر : أن جُبَير بن نُفَير حَدّثهم : أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر ، رضي الله عنه ، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص ، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة{[15039]} فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين ويقولون : إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة . وإن نهانا عنها رفضناها ، فلما قدما عليه قالا إنا بأرض أهل الكتابين ، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا ، أفنأخذ منه أو نترك ؟ فقال : لعلكما كتبتما منه شيئا . قالا{[15040]} لا . قال : سأحدثكما ، انطلقت في حياة رسول الله{[15041]} صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر ، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني ، فقلت : هل أنت مكتبي ما تقول ؟ قال : نعم . فأتيت بأديم ، فأخذ يملي علي ، حتى كتبت في الأكرُع . فلما رجعت قلت : يا نبي الله ، وأخبرته ، قال : " ائتني به " . فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون أتيت{[15042]} رسول الله ببعض ما يحب ، فلما أتيت به قال : " اجلس اقرأ عليّ " . فقرأت ساعة ، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو يتلوّن ، فتحيرت من الفَرق ، فما استطعت أجيز{[15043]} منه حرفا ، فلما رأى الذي بي دَفَعه{[15044]} ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه ، وهو يقول : " لا تتبعوا هؤلاء ، فإنهم قد هَوكوا وتَهَوَّكوا " ، حتى محا آخره حرفًا حرفا . قال عمر ، رضي الله عنه : فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئًا جعلتكما نكالا لهذه الأمة ! قالا والله ما نكتب منه شيئًا أبدا . فخرجا بصلاصفتهما{[15045]} فحفرا لها{[15046]} فلم يألُوا أن يعمِّقَا ، ودفناها فكان آخر العهد منها{[15047]} .

وكذا روى الثوري ، عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت الأنصاري ، عن عمر بن الخطاب ، بنحوه{[15048]} وروى أبو داود في المراسيل ، من حديث أبي قِلابة ، عن عمر نحوه{[15049]} . والله أعلم .


[1]:زيادة من أ.
[2]:ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
[3]:في د: "وأديت".
[4]:في د: "إنهم قالوا".
[5]:في د: "تكفروهما".
[6]:تفسير الطبري (11/228).
[15016]:- في ت : "وتفسيرها وتبينها".
[15017]:- في ت : "كسفارة".
[15018]:- في ت : "الأوذي".
[15019]:- تفسير الطبري (15/552).
[15020]:- في أ : "سعد".
[15021]:- في ت ، أ : "القطان".
[15022]:- في ت ، أ : "قرة".
[15023]:- في ت : "(لعلكم تعقلون) الآية".
[15024]:- تفسير الطبري (15/553) والمستدرك (2/345) وقال : "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي ، وحسنه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية برقم (3652).
[15025]:- في ت : "بسند".
[15026]:- زيادة من ت ، أ ، والطبري.
[15027]:- تفسير الطبري (15/552).
[15028]:- في ت : "ما".
[15029]:- المسند (3/378).
[15030]:- في ت : "ما توجه".
[15031]:- في أ : "رسول الله".
[15032]:- المسند (3/365).
[15033]:- زيادة من ت.
[15034]:- في ت ، أ : "فقرأها عليه".
[15035]:- في ت : "لا يقرأه".
[15036]:- في ت : "ليزداد".
[15037]:- لم أعثر عليه في المطبوع من مسند أبي يعلى ، وأورده الهيثمي في المجمع (1/182) وقال : "رواه أبو يعلى ، وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي ، ضعفه أحمد وجماعة". ورواه المقدسي في المختارة برقم (115) من طريق أبي يعلى وقال : "عبد الرحمن بن إسحاق أخرج له مسلم وابن حبان". يقصد عبد الرحمن بن إسحاق المدني وهو أثبت من الواسطي وفترتهما متقاربة ، لكن المزني ذكر علي بن مسهر من الرواة عن الواسطي الضعيف ، وقد رجح المؤلف هنا أنه الواسطي. وكذا في مسند عمر بن الخطاب (2/591) وقال : "وزعم الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المختارة" أنه الذي روى له مسلم كما (أظن صوابه كذا) قال : وأما شيخه خليفة بن قيس فقال فيه أبو حاتم الرازي : شيخ ليس بالمعروف. وقال البخاري : لم يصح حديثه".
[15038]:- في ت : "ابن شيبة".
[15039]:- في هـ : "ملاصق" بدون نقط ، والمثبت من ت ، أ.
[15040]:- في ت ، أ : "فقالا".
[15041]:- في ت : "النبي".
[15042]:- في ت : "جئت".
[15043]:- في ت : "أحبر".
[15044]:- في ت : "دفعته".
[15045]:- في هـ ، ت : "بصفيهما" والمثبت من أ.
[15046]:- في ت : "فحفراها".
[15047]:- ورواه أبو نعيم في الحلية (5/136) عن الطبراني ، عن عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي ، عن أبيه ، عن عمرو بن الحارث به.
[15048]:- سبق تخريجه في المسند.
[15049]:- المراسيل برقم (455).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

القول في تفسير السورة التي يذكر فيها يوسف :

بسم الله الرحمَن الرحيم

{ الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } .

قال أبو جعفر محمد بن جرير : قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، والقول الذي نختاره في تأويل ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .

وأما قوله : { تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : تلك آيات الكتاب المبين : بين حلاله وحرامه ، ورشده وهداه . ذكر من قال ذلك :

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة الفلسطيني ، قال : أخبرني عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، في قول الله تعالى : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين حلاله وحرامه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، أي : والله لمبين تركيبه هداه ورشده .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ المُبِينِ } ، قال : بين الله رشده وهداه .

وقال آخرون في ذلك بما :

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا الوليد بن سلمة ، قال : حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ ، أنه قال في قول الله عزّ وجلّ : { الكِتابِ المُبِينِ } ، قال بين الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ؛ وهي : ستة أحرف .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معناه : هذه آيات الكتاب المبين ، لمن تلاه وتدبر ما فيه من حلاله وحرامه ونهيه وسائر ما حواه من صنوف معانيه ، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه مبين ، ولم يخصّ إبانته عن بعض ما فيه دون جميعه ، فذلك على جميعه ، إذ كان جميعه مبينا عما فيه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{الٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِ ٱلۡمُبِينِ} (1)

مقدمة السورة:

الاسم الوحيد لهذه السورة اسم سورة يوسف ، فقد ذكر ابن حجر في كتاب الإصابة في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أن أبا رافع بن مالك أول من قدم المدينة بسورة يوسف ، يعني بعد أن بايع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة .

ووجه تسميتها ظاهر لأنها قصت قصة يوسف عليه السلام كلها ، ولم تذكر قصته في غيرها . ولم يذكر اسمه في غيرها إلا في سورة الأنعام وغافر .

وفي هذا الاسم تميز لها من بين السور المفتتحة بحروف ألر ، كما ذكرناه في سورة يونس .

وهي مكية على القول الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره . وقد قيل : إن الآيات الثلاث من أولها مدنية . قال في الإتقان : وهو واه لا يلتفت إليه .

نزلت بعد سورة هود ، وقبل سورة الحجر .

وهي السورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول السور على قول الجمهور .

ولم تذكر قصة نبي في القرآن بمثل ما ذكرت قصة يوسف عليه السلام هذه السورة من الإطناب .

وعدد آيها مائة وإحدى عشرة آية باتفاق أصحاب العدد في الأمصار .

من مقاصد هذه السورة

روى الواحدي والطبري يزيد أحدهما على الآخر عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : أنزل القرآن فتلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه زمانا ، فقالوا أي المسلمون بمكة : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله { ألر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } الآيات الثلاث .

فأهم أغراضها : بيان قصة يوسف عليه السلام مع إخوته ، وما لقيه في حياته ، وما في ذلك من العبر من نواح مختلفة .

وفيها إثبات أن بعض المرائي قد يكون إنباء بأمر مغيب ، وذلك من أصول النبوءات وهو من أصول الحكمة المشرقية كما سيأتي عند قوله تعالى { إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا } الآيات .

وأن تعبير الرؤيا علم يهبه الله لمن يشاء من صالحي عباده .

وتحاسد القرابة بينهم .

ولطف الله بمن يصطفيه من عباده .

والعبرة بحسن العواقب ، والوفاء ، والأمانة ، والصدق ، والتوبة .

وسكنى إسرائيل وبنيه بأرض مصر .

وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما لقيه يعقوب ويوسف عليهما السلام من آلهم من الأذى . وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من آله أشد ما لقيه من بعداء كفار قومه ، مثل عمه أبي لهب ، والنضر بن الحارث ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وإن كان هذا قد أسلم بعد وحسن إسلامه ، فإن وقع أذى الأقارب في النفوس أشد من وقع أذى البعداء ، كما قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضـاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

قال تعالى { لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين } .

وفيها العبرة بصبر الأنبياء مثل يعقوب ويوسف عليهم السلام على البلوى . وكيف تكون لهم العاقبة .

وفيها العبرة بهجرة قوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى البلد الذي حل به كما فعل يعقوب عليه السلام وآله ، وذلك إيماء إلى أن قريشا ينتقلون إلى المدينة مهاجرين تبعا لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم .

وفيها من عبر تاريخ الأمم والحضارة القديمة وقوانينها ونظام حكوماتها وعقوباتها وتجارتها . واسترقاق الصبي اللقيط . واسترقاق السارق ، وأحوال المساجين . ومراقبة المكاييل .

وإن في هذه السورة أسلوبا خاصا من أساليب إعجاز القرآن وهو الإعجاز في أسلوب القصص الذي كان خاصة أهل مكة يعجبون مما يتلقونه منه من بين أقاصيص العجم والروم ، فقد كان النضر بن الحارث وغيره يفتنون قريشا بأن ما يقوله القرآن في شأن الأمم هو أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم .

وكان النضر يتردد على الحيرة فتعلم أحاديث رستم و اسفنديار من أبطال فارس ، فكان يحدث قريشا بذلك ويقول لهم : أنا والله أحسن حديثا من محمد فهلم أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم بأخبار الفرس ، فكان ما بعضها من التطويل على عادة أهل الأخبار من الفرس يموه به عليهم بأنه أشبع للسامع ، فجاءت هذه السورة على أسلوب استيعاب القصة تحديا لهم بالمعارضة .

على أنها مع ذلك قد طوت كثيرا من القصة من كل ما ليس له كبير أثر في العبرة . ولذلك ترى في خلال السورة { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } مرتين { كذلك كدنا ليوسف } فتلك عبر من أجزاء القصة .

وما تخلل ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين كقوله { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } ، وقوله { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } .

{ الر } .

تقدم الكلام على نظاير { الر } ونحوها في أوّل سورة البقرة .

{ تلك ءايات الكتاب المبين }

الكلام على { تلك آيات الكتاب } مضى في سورة يونس . ووُصف الكتاب هنا ب { المبين } ووصف به في طالعة سورة يونس ب { الحكيم } لأنّ ذكر وصف إبانته هنا أنسب ، إذ كانت القصّة التي تضمّنتها هذه السّورة مفصّلة مبيّنة لأهمّ مَا جرى في مدة يوسف عليه السّلام بمصر . فقصّة يوسف عليه السّلام لم تكن معروفة للعرب قبل نزول القرآن إجمالاً ولا تفصيلاً ، بخلاف قصص الأنبياء : هود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب عليهم السّلام أجمعين ، إذ كانت معروفة لديهم إجمالاً ، فلذلك كان القرآن مبيّناً إيّاها ومفصّلاً .

ونزولها قبل اختلاط النبي صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة معجزة عظيمة من إعلام الله تعالى إيّاه بعلوم الأوّلين ، وبذلك ساوى الصحابةُ علماءَ بني إسرائيل في علم تاريخ الأديان والأنبياء وذلك من أهم ما يعلمه المشرعون .

فالمبين : اسم فاعل من أبان المتعدي . والمراد : الإبانة التامّة باللفظ والمعنى .