قوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } قال ابن عباس رضي الله عنهما : الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها . قال عطاء : الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام . واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها ، فذهب قوم إلى تحريمها ، سواء ترك التسمية عامداً أو ناسياً ، وهو قول ابن سيرين ، والشعبي ، واحتجوا بظاهر هذه الآية . وذهب قوم إلى تحليلها ، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين . وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامداً لا يحل ، وإن تركها ناسياً يحل ، حكى الخرقي من أصحاب أحمد : أن هذا مذهبه ، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي ، من أباحها قال : المراد من الآية الميتات ، و ما ذبح على غير اسم الله ، بدليل أنه قال :
قوله تعالى : { وإنه لفسق } ، والفسق في ذكر اسم غير الله كما قال في آخر السورة { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم } إلى قوله { أو فسقاً أهل لغير الله به } . واحتج من أباحها بما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يوسف بن موسى ، ثنا أبو خالد الأحمر قال : سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : إن قوما قالوا يا رسول الله ، إن هنا أقواماً حديثا عهدهم بشرك ، يأتون بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا ؟ قال : ( اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ) . ولو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح . قوله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } . أراد أن الشياطين ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوكم ، وذلك أن المشركين قالوا : يا محمد ، أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها ؟ فقال : الله قتلها ، قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتله الكلب والصقر والفهد حلال ، وما قتله الله حرام ؟ فأنزل الله هذه الآية .
قوله تعالى : { وإن أطعتموهم } ، في أكل الميتة .
قوله تعالى : { إنكم لمشركون } ، قال الزجاج : وفيه دليل على أن من أحل شيئاً مما حرم الله ، أو حرم ما أحل الله فهو مشرك .
{ 121 } { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
ويدخل تحت هذا المنهي عنه ، ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح للأصنام ، وآلهتهم ، فإن هذا مما أهل لغير الله به ، المحرم بالنص عليه خصوصا .
ويدخل في ذلك ، متروك التسمية ، مما ذبح لله ، كالضحايا ، والهدايا ، أو للحم والأكل ، إذا كان الذابح متعمدا ترك التسمية ، عند كثير من العلماء .
ويخرج من هذا العموم ، الناسي بالنصوص الأخر ، الدالة على رفع الحرج عنه ، ويدخل في هذه الآية ، ما مات بغير ذكاة من الميتات ، فإنها مما لم يذكر اسم الله عليه .
ونص الله عليها بخصوصها ، في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } ولعلها سبب نزول الآية ، لقوله { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } بغير علم .
فإن المشركين -حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتةَ ، وتحليله للمذكاة ، وكانوا يستحلون أكل الميتة- قالوا -معاندة لله ورسوله ، ومجادلة بغير حجة ولا برهان- أتأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتل الله ؟ يعنون بذلك : الميتة .
وهذا رأي فاسد ، لا يستند على حجة ولا دليل بل يستند إلى آرائهم الفاسدة التي لو كان الحق تبعا لها لفسدت السماوات والأرض ، ومن فيهن .
فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه ، الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة . ولا يستغرب هذا منهم ، فإن هذه الآراء وأشباهها ، صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين ، الذين يريدون أن يضلوا الخلق عن دينهم ، ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير .
{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في شركهم وتحليلهم الحرام ، وتحريمهم الحلال { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله ، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين ، فلذلك كان طريقكم ، طريقهم .
ودلت هذه الآية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من الإلهامات والكشوف ، التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم ، لا تدل –بمجردها على أنها حق ، ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله .
فإن شهدا لها بالقبول قبلت ، وإن ناقضتهما ردت ، وإن لم يعلم شيء من ذلك ، توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب ، لأن الوحي والإلهام ، يكون الرحمن ويكون من الشيطان ، فلا بد من التمييز بينهما والفرقان ، وبعدم التفريق بين الأمرين ، حصل من الغلط والضلال ، ما لا يحصيه إلا الله .
وبعد أن أمر الله المؤمنين بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ، نهاهم صراحة عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لشدة العناية بهذا الأمر فقال - تعالى - :
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } أى : لا تأكلوا أيها المسلمون من أى حيوان لم يذكر عليه اسم الله عند ذبحه ، بأن ذكر عليه اسم غيره ، أو ذكر اسم من اسمه - تعالى - ، أو غير ذلك مما سبق بيانه من المحرمات .
وقوله { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } جملة حالية والضمير يعود على الأكل من الذى لم يذكر اسم الله عليه ، أى : وإن الأكل من ذلك الحيوان المذبوح الذى لم يذكر اسم الله عليه لخروج عن طاعة الله - تعالى - وابتعاد عن الفعل الحسن إلى الفعل القبيح ، وفى ذلك ما فيه من تنفيرهم من أكل ما لم يذكر اسم الله عليه .
ثم كشف للمسلمين عن المصدر الذى يمد المشركين بمادة الجدل حول هذه المسألة فقال : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } .
أى : وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم الذين اتبعوهم من المشركين ليجادلوكم فى تحليل الميتة وفى غير ذلك من الشبهات الباطلة { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } فى استحلال ما حرمه الله عليكم { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
قال ابن كثير : أى : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك ، كقوله - تعالى - { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } الاية ، وقد ورى الترمذى فى تفسيرها عن عدى بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم فقال : " بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " .
هذا ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل غذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الفقهاء فى هذه المسألة على ثلاثة أقوال .
فمنهم من قال لا تحل الذبيحة التى يترك اسم الله عليها سواء كان الترك عمدا أو سهوا ، وإلى هذا الرأى ذهب ابن عمر ونافع وعامر والشعبى ومحمد بن سيرين ، وداود الظاهرى وفى رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل .
واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية التى وصفت ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه بأنه فسق ، كما احتجوا بقوله - تعالى - { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } وبالأحاديث التى وردت فى الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديث عدى بن حاتم وفيه " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل " .
وحديث رافع بن خديج وفيه " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " .
أما القول الثانى فيرى أصحابه أن التسمية ليست شرطا بل هى مستحبة ، وتركها عن عمد أو نسيان لا يضر ، وقد حكى هذا المذهب عن ابن عباس وأبى هريرة وعطاء وهو مذهب الشافعى وأصحابه وفى رواية عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل .
وحجتهم أن هذه الآية { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ .
. . } واردة فيما ذبح لغير الله بأن يذكر على الذبيحة اسم الصنم كما كان يفعل المشركون عند ذبائحهم .
واحتجوا أيضاً بما رواه الدارقطنى عن ابن عباس أنه قال : " إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " .
أما القول الثالث فيرى أصحابه أن ترك التسمية نسيانا لا يضر ، أما عمدا فلا تحل الذبيحة ، وإلى هذا المذهب ذهب على وابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن البصرى وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل وعليه أبو حنيفة وأصحابه .
واحتجوا لمذهبهم بأحاديث منها ما رواه عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
ولعل هذا المذهب أقرب المذاهب إلى الصواب ، لأن المتعمد هو الذى يؤاخذ على عمله أما الناسى فليس مؤاخذا .
وقد تولت بعض كتب التفسير بسط الأقوال فى هذه المسألة فليرجع إليها من شاء .
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم ؛ أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام ؛ أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها ، يزعمون أن الله ذبحها ! فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم ، ولا يأكلون مما ذبح الله ؟ ! وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات ! وهذا ما كانت الشياطين - من الإنس والجن - توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات :
( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم . . وإن أطعتموهم إنكم لمشركون . . ) . .
وأمام هذا التقرير الأخير نقف ، لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين . .
إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة الله ، ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية . . أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام لله ، إلى الشرك بالله .
" وقوله تعالى : ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) . . أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه ، إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره . . فهذا هو الشرك . . كقوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) . . الآية . وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم . فقال : " بلى ! إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال . فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " .
كذلك روى ابن كثير عن السدي في قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )
الآية قوله : [ استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ) أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله فهو الحلال ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ ] . .
فهذا قول السدي وذاك قول ابن كثير . . وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح - مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه ، ومن حسم التفسير النبوي للقرآن وصرامته ووضوحه كذلك - أن من اطاع بشراً في شريعة من عند نفسه ، ولو في جزئية صغيرة ، فإنما هو مشرك . وإن كان في الأصل مسلماً ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام الى الشرك أيضاً . . مهما بقي بعد ذلك يقول : أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه . بينما هو يتلقى من غير الله ، ويطيع غير الله .
وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم - في ضوء هذه التقريرات الحاسمة - فإننا نرى الجاهلية والشرك - ولا شيء غير الجاهلية والشرك - إلا من عصم الله ، فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ؛ ولم يقبل منها شرعاً ولا حكماً . . . إلا في حدود الإكراه . .
فأما الحكم الفقهي المستفاد من قوله تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) فيما يتعلق بحل الذبائح وحرمتها عند التسمية وعدم التسمية فقد لخصها ابن كثير في التفسير في هذه الفقرات قال :
" استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلماً " . .
" وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة اقوال :
" فمنهم من قال : لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة . وسواء متروك التسمية عمداً أو سهواً . وهو مروي عن ابن عمر ، ونافع مولاه ، وعامر الشعبي ، ومحمد بن سيرين . وهو رواية عن الإمام مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل ، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين . وهو اختيار أبي ثور ، وداود الظاهري . واختار ذلك ابو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه الأربعين ، واحتجوا لمذهبهم بهذه الآية ، وبقوله في آية الصيد : ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) . . ثم قد أكد ذلك بقوله : ( وإنه لفسق ) والضمير قيل : عائد على الأكل ، وقيل : عائد على الذبح لغير الله . وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك . وهما في الصحيحين . وحديث رافع بن خديج : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه . وهو في الصحيحين أيضاً . . .
" والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركها عمداً أو نسياناً لا يضر . وهذا مذهب الإمام الشافعي ، رحمه الله ، وجميع أصحابه . ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل . وهو رواية عن الإمام مالك ، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه . وحكي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء بن أبي رباح . والله أعلم . وحمل الشافعي الآية الكريمة : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى : ( أو فسقا أهل لغير الله به ) . وقال ابن جريج عن عطاء : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . . قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس . . وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي . . .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) قال : هي الميتة . وقد استدل لهذا المذهب بما رواهأبو داود في المراسيل من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسي مولى سويد بن ميمون أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات . قال : قال رسول الله [ ص ] : " ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله أو لم يذكر . إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " . . وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : " إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل . فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " .
" المذهب الثالث : إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر ، وإن تركها عمدا لم تحل . . هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه . وإسحاق بن راهويه . وهو محكي عن علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاووس ، والحسن البصري ، وأبي مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وربيعة بن ابي عبد الرحمن . . . "
" قال ابن جرير : وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء ، وهي محكمة فيما عينت به . وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم . وروي عن الحسن البصري وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا : قال الله : ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ) وقال : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) فنسخ ، واستثنى من ذلك فقال : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) وقال ابن أبي حاتم : قرأ علي العباس بن الوليد بن يزيد ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال : أنزل الله في القرآن : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال : ( اليوم أحل لكم الطيبات ، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب . ثم قال ابن جرير : والصواب : أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم مالم يذكر اسم الله عليه . . وهذا الذي قاله صحيح . ومن أطلق من السلف النسخ هنا ، فإنما أراد التخصيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم " . . . انتهى .
جملة : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } معطوفة على جملة : { فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] .
و ( ما ) في قوله : { مما لم يذكر اسم الله عليه } موصولة ، وما صْدق الموصول هنا : ذَكِيَ ، بقرينة السّابق الّذي ما صْدقه ذلك بقرينة المقام . ولمّا كانت الآية السّابقة قد أفادت إباحة أكل ما ذكر اسمُ الله عليه ، وأفهمت النّهيَ عمَّا لم يذكر اسم الله عليه ، وهو الميتة ، وتَمّ الحكم في شأن أكل الميتة والتفرقةُ بينها وبين ما ذُكّي وذُكر اسم الله عليه ، ففي هذه الآية أفيد النّهي والتّحذير من أكل ما ذُكر اسم غيرِ الله عليه . فمعنى : { لم يذكر اسم الله عليه } : أنَّه تُرِك ذكر اسم الله عليه قصداً وتجنّبا لذكره عليه ، ولا يكون ذلك إلاّ لقصد أن لا يكون الذّبح لله ، وهو يساوي كونه لغير الله ، إذ لا واسطة عندهم في الذكاة بين أن يذكروا اسم الله أو يذكروا اسم غير الله ، كما تقدّم بيانه عند قوله : { فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] . وممّا يرشّح أنّ هذا هو المقصود قولُه هنا : { وإنه لفسق } وقوله في الآية الآتية : { أو فِسْقا أهِلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] ، فعلم أنّ الموصوف بالفسق هنا : هو الّذي وصف به هنالك ، وقيد هنالك بأنَّه أُهلّ لغير الله به ، وبقرينة تعقيبه بقوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } لأنّ الشّرك إنَّما يكون بذكر أسماء الأصنام على المذكَّى ، ولا يكون بترك التّسمية .
وربّما كان المشركون في تَحيّلهم على المسلمين في أمر الذكاة يقتنعون بأن يسألوهم ترك التّسمية ، بحيث لا يُسمّون الله ولا يسمّون للأصنام ، فيكون المقصود من الآية : تحذير المسلمين من هذا التّرك المقصود به التمويه ، وأن يسمّى على الذّبائح غيرُ أسماء آلهتهم .
فإن اعتددنا بالمقصد والسّياق ، كان اسم الموصول مراداً به شيء معيّن ، لم يذكر اسم الله عليه ، فكان حكمها قاصراً على ذلك المعيّن ، ولا تتعلّق بها مسألةُ وجوب التّسمية في الذكاة ، ولا كونها شرطاً أو غير شرط بله حكم نسيانها . وإن جعلنا هذا المقصد بمنزلة سبب للنّزول ، واعتددنا بالموصول صادقاً على كلّ ما لم يذكر اسم الله عليه ، كانت الآية من العامّ الوارد على سبب خاصّ ، فلا يخصّ بصورة السّبب ، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التّسمية على الذّبيحة .
وهي مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال : أحدها : أنّ المسلم إن نسي التّسمية على الذبح تؤكل ذبيحته ، وإن تعمَّد ترك التّسمية استخفافاً أو تجنّبا لها لم تؤكل ( وهذا مثل ما يفعله بعض الزّنوج من المسلمين في تونس وبعض بلاد الإسلام الّذين يزعمون أنّ الجنّ تمتلكهم ، فيتفادَون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجنّ ولا يسمّون اسم الله عليها ، لأنَّهم يزعمون أنّ الجنّ تنفر من اسم الله تعالى خِيفة منه ، ( وهذا متفشّ بينهم في تونس ومصر ) فهذه ذبيحة لا تؤكل .
ومستند هؤلاء ظاهر الآية مع تخصيصها أو تقييدها بغير النّسيان ، إعمالاً لقاعدة رفع حكم النّسيان عن النّاس . وإنْ تعمّد ترك التّسمية لا لقصد استخفاف أو تجنّب ولكنّه تثاقل عنها ، فقال مالك ، في المشهور ، وأبو حنيفة ، وجماعة ، وهو رواية عن أحمد : لا تؤكل . ولا شكّ أنّ الجهل كالنّسيان ، ولعلّهم استدلّوا بالأخذ بالأحوط في احتمال الآية اقتصارا على ظاهر اللّفظ دون معونة السِياق .
الثّاني : قال الشّافعي ، وجماعة ، ومالك ، في رواية عنه : تؤكل ، وعندي أنّ دليل هذا القول أنّ التّسمية تكملة للقربة ، والذكاة بعضها قربة وبعضها ليست بقربة ، ولا يبلغ حكم التّسمية أن يكون مفسداً للإباحة . وفي « الكشاف » أنَّهم تأوّلوا ما لم يذكر اسم الله عليه بأنَّه الميتة خاصّة ، وبما ذُكر غيرُ اسم الله عليه . وفي « أحكام القرآن » لابن العربي ، عن إمام الحرمين : ذِكر الله إنَّما شرع في القُرَب ، والذبحُ ليس بقربة . وظاهر أنّ العامد آثم وأنّ المستخفّ أشدّ إثماً . وأمّا تعمّد ترك التّسمية لأجل إرضاءِ غير الله فحكمه حكم من سمَّى لِغير الله تعالى . وقيل : إنْ ترَك التّسميةَ عمداً يُكره أكلها ، قاله أبو الحسن بن القصّار ، وأبو بكر الأبهري من المالكيّة . ولا يعدّ هذا خلافاً ، ولكنّه بيان لقول مالك في إحدى الرّوايتين . وقال أشهب ، والطبرِي : تؤكل ذبيحة تارك التّسمية عمداً ، إذا لم يتركها مستخِفاً . وقال عبد الله بن عمر ، وابن سيرين ، ونافِع ، وأحمد بن حنبل ، وداودُ : لا تؤكل إذا لم يسمّ عليها عَمْداً أو نسياناً ، أخذاً بظاهر الآية ، دون تأمّل في المقصد والسّياق .
وأرجح الأقوال : هو قول الشّافعي . والرّوايةُ الأخرى عن مالك ، إنْ تعمّد ترك التّسميه تؤكل ، وأنّ الآية لم يُقْصد منها إلاّ تحريم ما أهل به لغير الله بالقرائن الكثيرة التي ذكرناها آنفاً ، وقد يكون تارك التّسمية عمداً آثماً ، إلاّ أنّ إثمه لا يُبطل ذكاته ، كالصّلاة في الأرض المغصوبة عند غير أحمد .
وجملة : { وإنه لفسق } معطوفة على جملة { ولا تأكلوا } عطف الخبر على الإنشاء ، على رأي المحقّقين في جوازه ، وهو الحقّ ، لا سيما إذا كان العطف بالواو ، وقد أجاز عطف الخبر على الإنشاء بالواو بعض من منعه بغير الواو ، وهو قول أبي عليّ الفارسي ، واحتجّ بهذه الآية كما في « مغنى اللّبيب » . وقد جعلها الرّازي وجماعة : حالاً { مما لم يذكر اسم الله عليه } بناء على منع عطف الخبر على الإنشاء .
والضّمير في قوله : { وإنه لفسق } يعود على { مما لم يذكر اسم الله عليه } والإخبار عنه بالمصدر وهو { فسق } مبالغة في وصف الفعل ، وهو ذكرُ اسم غير الله ، بالفسق حتّى تجاوز الفسق صفة الفعل أن صار صفة المفعول فهو من المصدر المراد به اسم المفعول : كالخَلق بمعنى المخلوق ، وهذا نظير جعله فسقاً في قوله بعدُ : { أو فسقاً أهِلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . والتّأكيد بإنّ : لزيادة التّقرير ، وجعل في « الكشاف » الضّمير عائداً إلى الأكل المأخوذ من { ولا تأكلوا } ، أي وإنّ أكْلَه لفسق .
وقوله : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم } عطف على : { وإنه لفسق } ، أي : واحذروا جَدَل أولياء الشّياطين في ذلك ، والمراد بأولياء الشّياطين : المشركون ، وهم المشار إليهم بقوله ، فيما مرّ : { يُوحي بعضهم إلى بعض } [ الأنعام : 112 ] وقد تقدّم بيانه .
والمجادلة المنازعة بالقول للإقناع بالرأي ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) ، والمراد هنا المجادلة في إبطال أحكام الإسلام وتحبيب الكفر وشعائره ، مثل قولهم : كيف نأكل ما نقتل بأيدينا ولا نأكل ما قتله الله .
وقوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } حُذف متعلّق { أطعتموهم } لدلالة المقام عليه ، أي : إن أطعتموهم فيما يجادلونكم فيه ، وهو الطّعن في الإسلام ، والشكّ في صحّة أحكامه . وجملة : { إنكم لمشركون } جواب الشّرط . وتأكيد الخبر بإنّ لتحقيق التحاقهم بالمشركين إذا أطاعوا الشّياطين ، وإن لم يَدْعوا لله شركاء ، لأنّ تخطئة أحكام الإسلام تساوي الشرك ، فلذلك احتيج إلى التّأكيد ، أو أراد : إنَّكم لصائرون إلى الشّرك ، فإنّ الشّياطين تستدرجكم بالمجادلة حتّى يبلغوا بكم إلى الشرك ، فيكون اسم الفاعل مراداً به الاستقبال . وليس المعنى : إن أطعتموهم في الإشراك بالله فأشركتم بالله إنَّكم لمشركون ، لأنَّه لو كان كذلك لم يكن لتأكيد الخبر سبب ، بل ولا للإخبار بأنّهم مشركون فائدة .
وجملة : { إنكم لمشركون } جواب الشرط ، ولم يَقترن بالفاء لأنّ الشّرط إذا كان مضافاً يحسن في جوابه التّجريد عن الفاء ، قاله أبو البقاء العُكبري ، وتبعه البيضاوي ، لأنّ تأثير الشّرط الماضي في جزائه ضعيف ، فكما جاز رفع الجزاء وهو مضارع ، إذا كان شرطه ماضياً ، كذلك جاز كونه جملة اسميّة غير مقترنة بالفاء . على أنّ كثيراً من محقّقي النّحويين يجيز حذف فاء الجواب في غير الضّرورة ، فقد أجازه المبرّد وابن مالك في شرحه على « مشكل الجامع الصّحيح » . وجعل منه قوله صلى الله عليه وسلم " إنك إنْ تَدَعْ ورثتَك أغنياء خيرُ من أن تدعهم عالة " على رواية إنْ بكسر الهمزة دون رواية فتح الهمزة .