[ 121 ] { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ( 121 ) } .
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه }{[3653]} أي : عند ذبحه . أي : بأن ذكر عليه اسم غيره ، يعني ذبح لغيره تعالى . { وإنه لفسق } والفسق ما أهل لغير الله به ، كما في الآية الآتية آخر السورة . قال المهايمي : { وإنه لفسق } خروج عن الحسن إلى القبح ، بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره . { وإن الشياطين ليوحون } أي يوسوسون { إلى أوليائهم } أي : من الكفار ، { ليجادلوكم } أي : في تحليل الميتة ، { وإن أطعتموهم } أي : في تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل ، { إنكم لمشركون } أي : لهم مع الله ، فيما يختص به من التحليل والتحريم .
الأول- روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! إنا نأكل ما نقتل ، ولا نأكل ما يقتل الله تعالى ، فأنزل الله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين } إلى قوله : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } " . أخرجه أصحاب ( السنن ) {[3654]} .
وفي رواية لأبي داود في قوله تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم / ليجادلوكم } قال : يقولون ما ذبح الله- فلا تأكلوا ، وما ذبحتم فكلوا ؟ فأنزل الله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه { وفي أخرى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ، فنسخ ، واستثنى من ذلك فقال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم }{[3655]} .
وعند النسائي{[3656]} قال : خاصمهم المشركون ، فقالوا : ما ذبح الله لا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه ؟ - كذا في ( تيسير الوصول ) .
الثاني- دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح فقيل : باسم الله ، بهذا اللفظ الكريم . وقيل : بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن ، وسائر أسمائه الحسنى ، لقوله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن }{[3657]} . ولقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها }{[3658]}
الثالث- ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها ، لقوله تعالى بعد : { أو فسقا أهل لغير الله به } ومراعاة النظائر في القرآن أولى ما يلتمس به المراد .
وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال : نزلت في ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان ، / وذبائح المجوس . وقد حاول بعضهم أن يقويه فجعل الواو في قوله : { وإنه لفسق } حالية ، لقبح عطف الخبر على الإنشاء . قال : والمعنى : لا تأكلوه حال كونه فسقا . والفسق مجمل يفسره قوله : { أهل لغير الله به } ، فيكون النهي مخصوصا بما أهل لغير الله به ، فيبقى ما عداه حلالا ، إما بالمفهوم ، أو بعموم دليل الحل ، أو بحكم الأصل . واعترض على هذا الحمل بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة ، مع أنه سبب النزول ، وبأن التأكيد ب ( أن ) و ( اللام ) ينفي كون الجملة حالية ، لأنه إنما يحسن فيما قصد الإعلام بتحققه ألبتة ، والرد على منكر تحقيقا أو تقديرا ( على ما بين في المعاني ) ، والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير ، كأنه قيل : لا تأكلوا منه إن كان فسقا ، فلا يحسن { وإنه لفسق } بل ( وهو فسق ) وأجيب عن الأول بأنه دخل بقوله : { وإنه لفسق } { ما أهل به لغير الله } وبقوله : { وإن الشياطين . . . } إلخ الميتة ، فيتحقق أن هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب ، أو مات حتف أنفه . وعن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق الذي ههنا الإهلال لغير الله ، كان التأكيد مناسبا ، كأنه قيل : لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق ، والمشركون ينكرونه- كذا في ( العناية ) - .
ومما يقويه ايضا قوله تعالى : { وإنه لفسق } على أن المراد به الخروج عن طاعة الله تعالى ، وهو وجه ثان فيه وقوله تعالى : { إنكم لمشركون } فإن من أكل الميتة ، أو ما ذبح على النصب فسق ، ومع الاستحلال يكفر ، بخلاف ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه ، فإن آكله لا يفسق ولا يكفر إجماعا- أشار له الرازي- وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها ، عمدا أو سهوا .
وقد روى أبو داود في ( مراسيله } عن الصلت السدوسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله أو لم يذكره ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " .
قال الحافظ ابن كثير : وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : " إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله ، فليأكل ، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله تعالى " .
/ واحتج البيهقي أيضا بحديث عائشة رضي الله عنها : " أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ، فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر " - رواه البخاري{[3659]} والنسائي- قال : فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها . وكذا قال الخطابي : فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة ، فلم يعلم هل وقعت الذكاة المعتبرة أم لا ؟ وهذا هو المتبادر من سياق الحديث ، حيث وقع الجواب فيه : ( سموا أنتم ) ، كأنه قيل لهم : لا تهتموا بذلك ، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا . وهذا من الأسلوب الحكيم . ومما يدل أيضا قوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم }{[3660]} فأباح الأكل من ذبائحهم ، مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا . هذا ، وقد تمسك بظاهر الآية قوم فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها ، وإن كان الذابح مسلما ، عمدا تركت التسمية أو نسيانا . واحتجوا أيضا بقوله تعالى في آية الصيد : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب }{[3661]} ، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، / كحديثي عدي{[3662]} بن حاتم وأبي ثعلبة{[3663]} : " إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فكل " ، وهما في ( الصحيحين ) .
/ وحديث رافع بن خديج{[3664]} : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه " - في ( الصحيحين ) أيضا .
وحديث ابن مسعود{[3665]} : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه " - رواه مسلم- .
/ وحديث جندب بن سفيان البجلي{[3666]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ذبح قبل أن يصلي ، فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا ، فليذبح باسم الله " - أخرجاه- .
قالوا : ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية ، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه ، عند من يقول بالمفهوم . والشرط أقوى من الوصف .
واحتجوا أيضا بحديث عائشة المتقدم ( سموا عليه أنتم وكلوا ) . قالوا : إن القوم فهموا أن التسمية لابد منها . وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك ، لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل ، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح ، إن لم تكن وجدت . أي : فتسميتكم الآن تستبيحون بها كل ما لم تعلموا أذكر اسم الله عليه / أم لا ، إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمى . قالوا : ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة ، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين ، لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية . انتهى .
وأجاب من حمل الآية على الوجه الأول ؛ بأن الأمر في حديث عدي وأبي ثعلبة محمول على التنزيه ، من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية ، فعلمهما النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصيد والذبح ، فرضه ومندوبه ، لئلا يوافقا شبهة في ذلك ، وليأخذا بأكمل الأمور . وأما الذين سألوا عن تلك الذبائح ، فإنهم سألوا عن أمر قد وقع لغيرهم ، فعرفهم بأصل الحل فيه .
وقال ابن التين : يحتمل أن يراد التسمية هنا عند الأكل ، وبذلك جزم النووي .
وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم ، فلا تكلف عليهم فيه ، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها .
وقال المهلب : هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضا . فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح ، دل على أنها سنة ، لأن السنة لا تنوب عن فرض . انتهى .
وذهب بعض من اشترط التسمية في الحل إلى جواز أكل ما تركت عليه سهوا لا عمدا . واحتج بما رواه البيهقي عن ابن عباس مرفوعا . " المسلم يكفيه اسمه ، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله ؟ . قال الحافظ ابن كثير : ورفعه خطأ . والصواب وقفه على ابن عباس ، من قوله : نص عليه البيهقي . واحتج أيضا بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس{[3667]} وأبي هريرة{[3668]} وأبي ذر{[3669]} وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو / عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
ورواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا بلفظ : " رفع عن أمتي الخطأ " . . . الحديث .
وروى ابن عدي عن أبي هريرة قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله على كل مسلم " .
وقد علمت الأظهر في تأويل الآية أولا –والله أعلم- .
الرابع- قال ابن جرير{[3670]} : اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء ، وهي محكمة فيما عنيت به . وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم .
وروي عن الحسن البصري وعكرمة أنه تعالى نسخ من هذه الآية واستثنى قوله : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } . وروى ابن أبي حاتم عن مكحول أيضا أنه تعالى نسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب .
قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب ، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله صحيح . ومن أطلق من السلف النسخ ههنا ، فإنما أراد التخصيص . انتهى .
وقد قدمنا في المقدمة أنه علم من استقراء كلام الصحابة والتابعين أنهم كانوا يستعملون النسخ بإزاء المعنى اللغوي ، الذي هو إزالة شيء بشيء ، لا بإزاء مصطلح الأصوليين . فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى . إما بانتهاء مدة العمل ، أو بصرف الكلام عن المعنى المتبادر إلى غيره ، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا ، أو تخصيص عام ، وغير ذلك مما أسلفنا ، فتذكر !
/ الخامس- قال الزجاج : في قوله تعالى : { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى ، أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى ، فهو مشرك . وإنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى . وهذا هو الشرك . انتهى .
وقال ابن كثير : { إنكم لمشركون } أي : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره ، فهذا هو الشرك . كقوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . . . } {[3671]} الآية . وقد روى الترمذي{[3672]} في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال : " يا رسول الله ! ما عبدوهم . قال : إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم . فذاك عبادتهم إياهم " . انتهى .
السادس- قال الكعبي : الآية حجة على أن ( الإيمان ) اسم لجميع الطاعات ، وإن كان معناه في اللغة التصديق ، كما جعل تعالى ( الشرك ) اسما لكل ما كان مخالفا لله تعالى ، وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله شريكا ، بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين ، في إباحة الميتة شركا .
/ وتعقبه الرازي ، بأنه لمَ لمْ يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن لله شريكا في الحكم والتكليف ؟ وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط . انتهى .