ولما{[30964]} أمرهم بالأكل مما ينفعهم ويعينهم على شكره محذراً من أكل{[30965]} ما يعيش{[30966]} مرأى بصائرهم ، أتبعه نهيهم نهياً جازماً خاصاً عن الأكل مما يضرهم في أبدانهم وأخلاقهم ، وهو ما ضاد الأول في خلوه عن الاسم الشريف{[30967]} فقال { ولا تأكلوا مما لم يذكر } أي مما لا يقبل أن يذكر { اسم الله } أي الذي لا يؤخذ شيء{[30968]} إلا منه ، لأن له الكمال كله فله الإحاطة الكاملة ، وأشار بأداة الاستعلاء إلى الإخلاص ونفي الإشراك فقال : { عليه } أي لكون الله قد حرمه فصار نجس العين أو المعنى ، فصار مخبثاً{[30969]} للبدن والنفس مما ذكر عليه غير اسمه سبحانه بما دل عليه من{[30970]} تسميته فسقاً ، وتفسير الفسق في آية أخرى بما أهل به لغير الله و{[30971]} كذا ما كان في معناه مما مات أو كان حراماً بغير ذلك ، واسمه تعالى منزه عن أن يذكر على غير الحلال ، فإن ذكر عليه كان ملاعباً فلم يطهره{[30972]} ، وأما ما كان حلالاً ولم يذكر عليه اسم الله و{[30973]} لا غيره{[30974]} فهو حلال - كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : قالوا : يا رسول الله ! إن هنا أقواماً حديث عهد بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله أم لا ! قال : " اذكروا أنتم اسم الله وكلوا " قال البغوي : ولو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان{[30975]} الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح - انتهى .
ولما كان التقدير : فإنه خبيث في نفسه مخبث ، عطف عليه قوله : { وإنه } أي الأكل منه أو هو نفسه لكونه السبب { لفسق } فجعله نفس الفسق - وهو الخروج عما ينبغي إلى ما لا ينبغي - لأنه عريق جداً في كونه سببه لما تأصل عندهم من أمره{[30976]} وانتشر من شره ، وهذا دليل على ما أولت{[30977]} به لأن النسيان ليس{[30978]} بسبب الفسق ، والذي تركت التسمية عليه نسياناً ليس بفسق ، والناسي ليس بفاسق - كما قاله البخاري ، وإلى ذلك الإشارة{[30979]} بما رواه عن{[30980]} عائشة رضي الله عنها{[30981]} أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتونّا باللحم ، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ! فقال :
" سموا عليه أنتم وكلوه " ، قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر{[30982]} - انتهى . فهذا كله يدل على أن المراد إنما هو كونه مما يحل ذبيحته ، وليس المراد اشتراط التسمية بالفعل .
ولما كانت الشبه ربما زلزلت ثابت العقائد ، قال محذراً منها : { وإن الشياطين{[30983]} } أي أخابث{[30984]} المردة من الجن والإنس البعيدين من الخير المهيئين{[30985]} للنشر المحترقين باللعنة{[30986]} من مردة{[30987]} الجن والإنس{[30988]} { ليوحون } أي يوسوسون وسوسة بالغة سريعة { إلى أوليائهم } أي المقاربين لهم في الطباع المهيئين لقبول كلامهم { ليجادلوكم } أي ليفتلوكم عما أمركم{[30989]} به بأن يقولوا لكم : ما قتله{[30990]} الله أحق بالأكل مما{[30991]} قتلتموه أنتم وجوارحكم - ونحو ذلك ، وأهل الحرم لا ينبغي أن يقفوا في غيره ، والغريب لا ينبغي أن يساويهم في الطواف في ثيابه ، والنذر للأصنام كالنذر للكعبة ، ونحو هذا من خرافاتهم التي بنوا أمرهم فيها على الهوى الذي هم معترفون بأنه مضل مضر ، ومبالغون في الذم باتباعه والميل إليه ، ويكفي في هدم جميع شبههم إجمالاً أن صاحب الدين ومالك الملك منع منها .
ولما كان التقدير : فإن أطعتموهم تركتم الهدى وتبعتم الهوى ، وكان من المعلوم أن الهوى يعود إلى الشرك ، عطف على هذا قوله : { وإن أطعتموهم } أي المشركين تديناً بما يقولونه في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه والأكل مما لم يذكر اسم الله عليه ، أو في شيء مما جادلوكم فيه { إنكم لمشركون * } أي فأنتم وهم في الإشراك سواء كما إذا سميتم غير الله على{[30992]} ذبائحكم على وجه العبادة ، لأن من اتبع أمر غير الله فقد اشركه{[30993]} بالله كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه في قوله تعالى{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله{[30994]} }[ التوبة : 31 ] من أن عبادتهم لهم{[30995]} تحليلهم{[30996]} ما أحلوا وتحريمهم ما حرموا ، فنبه صلى الله عليه وسلم بذلك على أن الأسماء تتبع المعاني ؛ قال شيخ الإسلام محيي الدين النووي الشافعي في باب الضحايا من كتاب الروضة : حكي في الشامل{[30997]} وغيره عن نص الشافعي أنه لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله كالمسيح لم تحل ؛ وفي كتاب القاضي ابن كنج{[30998]} أن اليهودي لو ذبح لموسى والنصراني لعيسى عليهما السلام أو{[30999]} للصليب حرمت ذبيحته ، وأن المسلم لو ذبح للكعبة أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يقال : تحرم ، لأنه ذبح لغير الله تعالى ، قال : وخرّج أبو الحسن وجهاً آخر أنها{[31000]} تحل لأن المسلم يذبح لله ولا يعتقد في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعتقده النصراني في عيسى عليه السلام .
قال : وإذا ذبح للصنم لم تؤكل ذبيحته سواء كان الذابح مسلماً أو نصرانياً ، وفي تعليقه للشيخ إبراهيم المروزي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله ، واعلم أن الذبح للمعبود{[31001]} باسمه نازل منزلة السجود له . وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم ، العبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة ، فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحل{[31002]} ذبيحته ، وكان فعله كفراً كمن سجد لغيره سجدة عبادة ، وكذا لو ذبح له ولغيره على هذا الوجه ، فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه - بأن ضحى أو ذبح للكعبة تعظيماً لها لأنها بيت الله تعالى أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجوز أن يمنع حل الذبيحة ، وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل : أهديت للحرم أو للكعبة ، ومن هذا القبيل الذبح عند استقبال السلطان ، فإنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود ، ومثل هذا لا يوجب الكفر ، وكذا السجود لغير الله تذللاً وخضوعاً ، فعلى هذا إذا قال الذابح{[31003]} : بسم الله واسم محمد ، وأراد : أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد ، فينبغي أن لا يحرم ، وقول من قال : لا يجوز ذلك ، يمكن أن يحمل على أن اللفظ مكروه ، لأن المكروه يصح نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه ، وحكى الرافعي أنه وقعت في هذا منازعة بين أهل قزوين أفضت إلى فتنة في أنه تحل ذبيحته وهل يكفر بذلك ! قال : والصواب ما بينا ؛ قال الشيخ محيي الدين : ومما يؤيد ما قاله - أي الرافعي - ما ذكره الشيخ إبراهيم المروزي في تعليقه : قال : حكى صاحب التقريب عن الشافعي رحمه الله أن النصراني إذا سمى غير الله كالمسيح لم تحل ذبيحته ، قال صاحب التقريب : معناه أن يذبحها له . فأما إن ذكر المسيح على معنى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجائز ، قال : و{[31004]} قال الحليمي : تحل مطلقاً وإن سمى المسيح - والله أعلم ، ثم قال في المسائل المنثورة{[31005]} : الثالثة : قال ابن كج : من ذبح شاة وقال : أذبح لرضى فلان ، حلت الذبيحة ، لأنه لا ينصرف إليه بخلاف من تقرب{[31006]} بالذبح إلى الصنم ؛ وقال الروياني : إن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه فهو حلال ، وإن قصد الذبح لهم فحرام ؛ ومما يوضح لك سر هذا الانتظام ويزيده حسناً أن هذه الآيات كلها من قوله تعالى
إن الله فالق الحب والنوى }[ الأنعام : 100 ] إلى آخر السورة تفصيل لقوله{[31007]} تعالى في أول السورة { قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض }[ الأنعام : 14 ] ، فلما ذكر إبداعه السماوات والأرض بقوله{ إن الله فالق الحب والنوى }[ الأنعام : 95 ] ونحوه ، وأنكر اتخاذ من دونه بقوله { وجعلوا لله شركاء الجن }[ الأنعام : 100 ] وما نحا نحوه ، قال{ فكلوا }[ الأنعام : 118 ] إشارة إلى { وهو يطعم ولا يطعم }[ الأنعام : 14 ] وقوله { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] وقوله { فمن يرد الله أن يهديه }[ الأنعام : 125 ] ونحوهما إشارة إلى قوله{ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم }[ الأنعام : 14 ] ، وقوله{ ويوم نحشرهم جميعاً }[ الأنعام : 22 ] ونحوه مشير{[31008]} إلى{ إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }[ الأنعام : 15 ] .
ولما انقضى{[31009]} التفصيل عند قوله { فسوف يعلمون } شرع في تفصيلها ثانياً بقوله :{ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً }[ الأنعام : 136 ] إلى آخرها ، والسر في الإعادة أن الشيء إذا أثبت أو نفي ، وأقيمت الدلائل على إثبات ما ثبت منه{[31010]} ونفي ما نفي ، ثم أعيد ذلك في أسلوب آخر ، كان أثبت في النفس وألصق{[31011]} بالقلب ، لا سيما إن كان في الأسلوب الثاني - كما هي عادة القرآن - زيادة في البيان وتنبيه على ما لم يتقدم أولاً ، ولا سيما إن كانت العبارة فائقة والألفاظ عذبة رائقة وأنت خبير بأن هذا كله دأب القرآن في أساليب الافتنان ؛ قال الغزالي في أوائل كتاب الجواهر في الفصل الذي فيه اشتمال الفاتحة على ثمانية أقسام : وقوله ثانياً { الرحمن الرحيم } إشارة إلى الصفة مرة أخرى ، ولا تظن{[31012]} أنه مكرر ، فلا مكرر{[31013]} في القرآن ، إذ حد المكرر ما لا ينطوي على مزيد فائدة ، وذكر الرحمة بعد ذكر { العالمين }{[31014]} ، وقبل ذكر { العالمين{[31015]} } ، وقبل ذكر { مالك يوم الدين } ينطوي على فائدتين عظيمتين في تفصيل مجاري الرحمة ثم ذكر{[31016]} ما حاصله أن إحداهما ملتفت إلى خلق{[31017]} كل عالم{[31018]} من العالمين على أكمل أنواعه وأفضلها وإيتائه كل ما احتاج إليه ، والثانية ملتفت إلى ما بعده بالإشارة إلى الرحمة في{[31019]} المعاد يوم الجزاء عند الإنعام بالملك المؤبد ، قال : وشرح ذلك يطول والمقصود أنه لا{[31020]} مكرر في القرآن ، وإن رأيت شيئاً{[31021]} مكرراً من حيث الظاهر فانظر إلى سوابقه ولواحقه لينكشف لك مزيد الفائدة{[31022]} في إعادته - انتهى . وفي ذلك نكتة أخرى ، وهي أن الرحمن مشير{[31023]} إلى ما قال من جهة{[31024]} الربوبية في الإيجادين : الأول والثاني ، والرحيم مشير بخصوصه بما ترضاه الإلهية إلى الإيجاد الثاني والإبقاء الثاني بالرحمة الجزائية{[31025]} وإلى ما يفهمه الخصوص من النعمة بمن لم يخصه الرحمة - كما مضت الإشارة إليه في الفاتحة .