{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } . يعني إذا سافرتم في سبيل الله ، يعني : الجهاد . { فتبينوا } قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين ، وفي سورة الحجرات بالتاء ، والثاء ، من التثبيت . أي : قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر ، وقرأ الآخرون بالياء والنون ، من التبين ، يقال : تبينت الأمر إذا تأملته .
قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم } . هكذا قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وحمزة ، أي : المعادة ، وهو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقرأ الآخرون السلام ، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين ، لأنه كان قد سلم عليهم ، وقيل : السلم والسلام واحد ، أي : لا تقولوا لمن سلم عليكم لست مؤمناً ، فذلك قوله تعالى : { لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا } ، يعني : تطلبون الغنم والغنيمة ، وعرض الحياة الدنيا منافعها ومتاعها .
قوله تعالى : { فعند الله مغانم } أي غنائم .
قوله تعالى : { كثيرة } ، وقيل : ثواب كثير ، لمن اتقى قتل المؤمن .
قوله تعالى : { كذلك كنتم من قبل } . قال سعيد بن جبير : كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين .
قوله تعالى : { فمن الله عليكم } ، بإظهار الإسلام ، وقال قتادة : كنتم ضلالاً من قبل فمن الله عليكم بالهداية . وقيل معناه : كذلك كنتم من قبل تأمنون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة ، قلا تخيفوا من قالها ، فمن الله عليكم بالهجرة .
قوله تعالى : { فتبينوا } أن تقتلوا مؤمناً .
قوله تعالى : { إن الله كان بما تعملون خبيراً } ، قلت : إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فعليهم أن يكفوا عنهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً فإن سمع أذاناً كف عنهم ، وإن لم يسمع أغار عليهم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن ابن عصام عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم . كان إذا بعث سريةً قال : ( إذا رأيتم مسجداً ، أو سمعتم أذاناً ، فلا تقتلوا أحداً ) " .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }
يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة . فإن الأمور قسمان : واضحة وغير واضحة . فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين ، لأن ذلك تحصيل حاصل . وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين ، ليعرف هل يقدم عليها أم لا ؟
فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة ، والكف لشرور عظيمة ، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته ، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها{[224]} قبل أن يتبين له حكمها ، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي ، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم ، وكان معه غنيمة له أو مال غيره ، ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم ، وكان هذا خطأ في نفس الأمر ، فلهذا عاتبهم بقوله : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي : فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي ، فما عند الله خير وأبقى .
وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالة له فيها هوى وهي مضرة له ، أن يُذَكِّرها ما أعد الله لمن نهى نفسه عن هواها ، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه ، فإن في ذلك ترغيبًا للنفس في امتثال أمر الله ، وإن شق ذلك عليها .
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى ، قبل هدايتهم إلى الإسلام : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي : فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم ، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا ، فكذلك غيركم . فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة ، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى ، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة - من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه ، ولهذا أعاد الأمر بالتبين فقال : { فَتَبَيَّنُوا }
فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله ، ومجاهدة أعداء الله ، وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم ، مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام ، وكانت القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه - فإن ذلك يدل على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه ، فيتثبت فيها العبد ، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه ، بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 94 )
روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات متعددة إلا أنها متقاربة فى المعنى . وقد حكى معظمها الإِمام القرطبى فقال ما ملخصه :
هذه الآية نزلت فى قوم من المسلمين مروا فى سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله - ظنا منه أن المقتول نطق بالشهادتين ليأمن القتل - فلما ذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته .
وقد قيل : إن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط . وقيل : إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك من بنى مرة من أهل فدك .
وفى سنن ابن ماجه " عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا فمنح المشركون المسلمين أكتافهم . فحمل رجل من المسلمين على رجل من المشركين بالرمح . فلما غشيه قال : أشد أن لا إله إلا الله إنى مسلم . فطعنه فقتله .
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت . قال : " وما الذى صنعت " مرة أو مرتين . فأخبره بالذى صنع . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما فى قلبه " ؟ فقال : " يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما فى قلبه ؟ قال : لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما فى قلبه " " .
ثم قال القرطبى : ولعل هذه الأحوال جرت فى زمان متقارب فنزلت الآية فى الجميع .
والضرب فى الأرض : السير فيها . تقول العرب : ضربت فى الأرض إذا سرت لتجارة أو غزة أو غيره . وكأن السير فى الأرض سمى بذلك ؛ لأنه يضرب الأرض برجليه فى سيره . والمراد بالضرب فى الأرض هنا : السفر والسير فيها من أجل الجهاد فى سبيل الله .
وقوله { فَتَبَيَّنُواْ } معناه : فتثبتوا وتأكدوا وتأملوا فيما تأتون وتذرون . وقرأ حمزة " فثبتوا " .
قال القرطبى : والسلم والسلم والسلام بمعنى واحد . قال البخارى . وقرئ بها كلهاز واختار أبو عبيد " السلام " . وخالفه أهل النظر فقالوا ؛ السلم هنا أشبه ؛ لأنه بمعنى الانقياد والاستسلام . كما قال - تعالى - { فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } والمعنى : يأيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق ، إذا خرجتم من بيوتكم وسرتم فى الأرض من أجل الجهاد فى سبيل الله وإعلاء كلمته { فَتَبَيَّنُواْ } أى فاطلبوا بيان الأمر فى كل ما تأتون وما تذرون ، واحذروا أن تضعوا سيوفكم فى غير موضعها .
فإن الأصل فى الدماء الحرمة والصيانة وعدم الاعتداء عليها ، وقد حرم الله - تعالى - قتل النفس إلا بالحق .
والتبين والتثبت فى القتل واجب حضراً وسفرا . وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التى نزلت فيها الآية وقعت فى السفر .
وقوله { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً } أى : تأكدوا - أيها المؤمنون - وتثبتوا فى كل أحكامكم وأفعالكم ، ولا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم ودينكم فنطق بالشهادتين أو حياكم بتحية الإِسلام . لا تقولوا له لست مؤمنا حقا وإنما قلت ما قلت بلسانك فقط لتأمن القتل . بل الواجب عليكم أن تقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه ؛ فإن علم السرائر والبواطن إنما هو لله - تعالى - وحده .
وجملة { لَسْتَ مُؤْمِناً } مقول لقوله { لاَ تَقُولُواْ } : أى لا تنفوا عنه الإِيمان وهو يظهره أمامكم وفى هذا من الفقه - كما يقول القرطبى - باب عظيم ، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر .
ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - ينهى عن قتل من أعلن الاستسلام ويحذر من يقتله بأنه سيقتله به ، وقد أرسل بذلك إلى قواد جويشه لأن الذين يقتلون من يطلب الأمان طمعا فى ماله لا يكون جهاده خالصا لله ، ولا تكون أعمال محل رضا الله - تعالى - ولذا قال - سبحانه - :
{ تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } . والابتغاء : الطلب الشديد والرغبة الملحة .
وعرض الحياة الدنيا : جميع متاعها وأموالها . وسمى متاع الدنيا عرضا ، لأنه مهما كثر فهو زائل غير دام ، وعارض غير باق .
قال الراغب : والعرض - بفتح الراء والعين - مالا يكون له ثبات . ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثابت له إلا بالجوهر . وقيل : الدنيا عرض حاضر تنبيها على أنه لا ثابت لها ، والمغانم : جمع مغنم ويطلق على ما يؤخذ من مال العدو ، من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول .
والمعنى : تثبتوا - أيها - فى كل أقوالكم وأعمالكم ، ولا تتعجلوا فى أحكامكم ، ولا تقولوا لمن حياكم بتحية الإِسلام أو نطق بالشهادتين لست مؤمنا ، وإنما فعلت ذلك تقية ؛ ثم تقتلونه . مبتغين من وراء قتله متاع الدنيا الزائل ، وعرضها الفانى ، إن هذا المسلك يتنافى مع الإِيمان الصادق والجهاد الخالص . ومن كان منكم يريد متاع الدنيا فليطلبه من الله وحده - فإن خزائنه لا تنفد ، وعطاءه لا يحد - ولا يطلبه عن طريق الاعتداء على من أظهر الإِسلام أو التمس منكم الأمان .
وقوله { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا } حال من فاعل { لاَ تَقُولُواْ } لكن لا على أن يكون النهى راجعا للقيد فقط كما فى قولك : لا تطلب العلم تبتغى به الجاه والتفاخر ، بل على أنه راجع إليهما جميعا .
أى : لا تقولوا له ذلك ولا تبتلغوا العرض الفانى .
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة توبيخهم على حرصهم على متاع الدنيا بطريقة لا تناسب مع الإِيمان الكامل ، ومع الهدف الذى خرجوا من أجله : وهو إعلاء كلمة الله تعالى - وضم أكبر عدد من الناس إلى دعوة الحق التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم .
وقوله { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } تعليل للنهى عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا بهذا الأسلوب فكأنه قال : لا تعودوا إلى ما فعلتموه من قتل من ألقى إليكم السلام طلبا لما له ، فإن الله - تعالى - عنده مغانم كثيرة ، وفى مقدوره أن يغنيكم من فضله ؛ فالجأوا إلى جنابه وحده ، وخصوه بالسؤال ، وأخصلوا له العمل .
وقوله { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ } تعليل للنهى عما قالوه وما فعلوه .
أى : أنتم - أيها المؤمنون - كنتم من قبل مثل ذلك الذى ألقى إليكم السلام ، فقد كنتم فى أول إسلامكم ولا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من النطق بالشهادتين وتبادل تحية الإِسلام ، فمن الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم .
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال : قوله { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } أول ما دخلتم فى الإِسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت من دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاععلى مواطأة قلوبكم لألسنتكم بالاستقامة والاشتهار بالإِيمان فعليكم أن تفعلوا بالداخلين فى الإِسلام كما فعل لكم ، وأن تعتبروا ظاهر الإِسلام فى المكانة ، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية ، فتجعلوه سبيلا إلى استباحة دمه وماله وقد حرمها الله .
فاسم الإِشارة راجع إلى { مِّن } فى قوله : { لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام } .
ويجوز أن يكون اسم الإِشارة راجعا إلى الحالة التى كانوا عليها فى ابتداء إسلامهم . أى كحال هذا الذى يسر إيمانه ويخفيه عن قومه كنتم من قبل .
وقد جرح هذا المعنى ابن جرير فقال ما ملخصه : قوله { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } أى كذلك كنتم تخفون إيمانكم فى وقومكم من المشركين ، وأنتم مقيمون بين أظهرهم ، كما كان هذا الذى قتلتموه مقيما بين أظهر قومه من المشركين مستخفيا بدينه منهم { فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } أى : فرفع منكم ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده وعبادته . .
والذى يبدو لنا أن الاية الكريمة تتسع لهذين التفسيرين ، إلا أن التفسير الأول الذى جرى عليه صاحب الكشاف أشمل وأنسب لسياق الآية ؛ لأن المقصد الرئيس الذى تدعو إليه الآية الكريمة هو نهى المؤمنين عن سوء الظن بمن أظهر الإِسلام وعن الاعتداء عليه . وأمرهم بان يعاملوا الناس بظاهرهم أما بواطنهم فأمرها إلى الله وحده .
والفاء فى قوله { فَتَبَيَّنُواْ } فصيحة . أى : إذا كان الأمر كذلك فتبينوا نعمة الله عليكم وداوموا على شكرها ، وقيسوا أحوال غيركم بما سبق من أحوالكم ، واقبلوا ظواهر الناس بدون فحص عن بواطنهم ، ولا تصدروا أحكامكم عليهم إلا بعد التثبت والتأكد من صحتها ولا تشهروا سيوفكم فى وجوههم إلا بعد التأكد من كفرهم وعدوانهم .
وقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } تذييل قصد به تحذيرهم من مخالفة أمره .
أى : إن الله مطلع على دقيق الأمور وجليلها ، خبير بما تسره نفوسكم وما تعلنه ، لا يخفى عليه شئ من ظواهركم وبواطنكم ، وسيحاسبكم على كل ذلك ، وسيجازيكم بما تستحقون من خير أو شر .
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حرم قتله ؛ لأنه قد اعتصم بعصام الإِسلام المانع من إهدار دمع وماله وأهله .
كما أخذوا منها وجوب التثبت فى الأحكام وفى الأقوال . وأخذ الناس بظواهرهم حتى يثبت خلاف ذلك .
قال الفخر الرازى : اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة فى تحريم قتل المؤمنين . وأمر المجاهدين بالتثبت فيه ، لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف .
وقال بعض العلماء : وقد دلت الآية على حكمة عظيمة فى حفظ الجامعة الدينية ، وهى بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده ، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه . وبذلك ترتفع الثقة ، ويسهل على ضعفاء الإِيمان المروق ، إذ قد أصبحت التهمة تظل الصادق والمنافق . وانظر معاملة النبى صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين .
على أن هذا الدين سريع السريان فى القلوب فيكتفى أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة . إذ لا يلبثون أن يألفوه وتخالط بشاشته قلوبهم . فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيمانا راسخا . ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال { فَتَبَيَّنُواْ } تأكيدا لقوله { فَتَبَيَّنُواْ } المذكور قبله . .
واحتراسا من وقوع القتل ولو كان خطأ ؛ وتطهيرا لقلوب المجاهدين حتى ما يكون فيها شيء إلا لله ، وفي سبيل الله . . يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة ، ألا يبدأوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا ؛ وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان [ إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان ] .
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ؛ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا . تبتغون عرض الحياة الدنيا . فعند الله مغانم كثيرة . كذلك كنتم من قبل ، فمن الله عليكم . فتبينوا . إن الله كان بما تعملون خبيرًا ) . .
وقد وردت روايات كثيرة في سبب نزول الآية : خلاصتها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلا معه غنم له . فقال السلام عليكم . يعني أنه مسلم . فاعتبر بعضهم أنها كلمة يقولها لينجو بها ، فقتله .
ومن ثم نزلت الآية ، تحرج على مثل هذا التصرف ؛ وتنفض عن قلوب المؤمنين كل شائبة من طمع في الغنيمة ؛ أو تسرع في الحكم . . وكلاهما يكرهه الإسلام .
إن عرض الحياة الدنيا لا يجوز أن يدخل للمسلمين في حساب ؛ إذا خرجوا يجاهدون في سبيل الله . إنه ليس الدافع إلى الجهاد ولا الباعث عليه . . وكذلك التسرع بإهدار دم قبل التبين . وقد يكون دم مسلم عزيز ، لا يجوز أن يراق .
والله سبحانه يذكر الذين آمنوا بجاهليتهم القريبة وما كان فيها من تسرع ورعونة ؛ وما كان فيها من طمع في الغنيمة . ويمن عليهم أن طهر نفوسهم ورفع أهدافهم ، فلم يعودوا يغزون ابتغاء عرض الحياة الدنيا كما كانوا في جاهليتهم . ويمن عليهم أن شرع لهم حدودا وجعل لهم نظاما ؛ فلا تكون الهيجة الأولى هي الحكم الآخر . كما كانوا في جاهليتهم كذلك . . وقد يتضمن النص إشارة إلى أنهم هم كذلك كانوا يخفون إسلامهم - على قومهم - من الضعف والخوف ، فلا يظهرونه إلا عند الأمن مع المسلمين ، وأن ذلك الرجل القتيل كان يخفي إسلامه على قومه ، فلما لقي المسلمين أظهر لهم إسلامه وأقرأهم سلام المسلمين .
كذلك كنتم من قبل . فمن الله عليكم . فتبينوا . إن الله كان بما تعملون خبيرًا .
وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله . . وعلى هذه الحساسية والتقوى ، يقيم الشرائع والأحكام ؛ بعد بيانها وإيضاحها .
وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح ، ومثل هذه النظافة . منذ أربعة عشر قرنا . .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } سافرتم وذهبتم للغزو . { فتبينوا } فاطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تعجلوا فيه . وقرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " في الموضعين هنا ، وفي " الحجرات " من التثبت . { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } لمن حياكم بتحية الإسلام . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة السلم بغير الألف أي الاستسلام والانقياد وفسر به السلام أيضا . { لست مؤمنا } وإنما فعلت ذلك متعوذا . وقرئ { مؤمنا } بالفتح أي مبذولا له الأمان . { تبتغون عرض الحياة الدنيا } تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاذ ، وحال من الضمير في تقولوا مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة وترك التثبت . { فعند الله مغانم } لكم . { كثيرة } نغنيكم عن قتل أمثاله لماله . { كذلك كنتم من قبل } أي أول ما دخلتم في الإسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة فحصنت بها دماؤكم وأموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم .
{ فمن الله عليكم } بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين . { فتبينوا } وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنا بأنهم دخلوا فيه اتقاء وخوفا ، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل امرئ مسلم . وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم . { إن الله كان بما تعلمون خبيرا } عالما به وبالغرض منه فلا تتهافتوا في القتل واحتاطوا .
روي ( أن سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد ، فلما تلاحقوا به وكبروا كبر ونزل وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة واستاق غنمه ) وقيل نزل في المقداد مر برجل في غنيمة فأراد قتله فقال : لا إله إلا الله . فقتله وقال : ود لو فر بأهله وماله . وفيه دليل على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطئ وأن خطأه مغتفر .
استئناف ابتدائي خوطب به المؤمنون ، استقصاء للتحذير من قتل المؤمن بذكر أحوالٍ قد يُتساهَل فيها وتعرِض فيها شبهٌ . والمناسبة ما رواه البخاري ، عن ابن عبّاس ، قال : كان رجل في غُنَيْمَة له فلَحقِه المسلمون ، فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتُه ، فأنزل الله في ذلك هذه الآية . وفي رواية وقال : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله . وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حمل ديته إلى أهله وردّ غُنَيْمتَه واختلف في اسم القاتل والمقتول ، بعد الاتّفاق على أنّ ذلك كان في سريّة ، فروى ابن القاسم ، عن مالك : أنّ القاتل أسَامة بن زيد ، والمقتول مِرْدَاس بن نَهِيك الفَزَاري من أهل فَدَكَ ، وفي سيرة ابن إسحاق أنّ القاتل مُحلَّم من جَثامة ، والمقتول عامر بن الأضْبط . وقيل : القاتل أبو قتادة ، وقيل أبو الدرداء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وبّخ القاتل ، وقال له : " فَهَلاّ شققت عن بَطْنه فعلمتَ ما في قلبه " . ومخاطبتهم ب { أيها الذين آمنوا } تلوّح إلى أنّ الباعث على قتل من أظهر الإسلام منهي عنه ، ولو كان قصْد القاتل الحرصَ على تحقَّق أنّ وصف الإيمان ثابت للمقتول ، فإنّ هذا التحقّق غيرُ مراد للشريعة ، وقد ناطت صفة الإسلام بقول : « لا إله إلاّ الله محمد رسول الله » أو بتحية الإسلام وهي « السلام عليكم » .
والضرب : السير ، وتقدّم عند قوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } في سورة آل عمران ( 156 ) . وقوله : في سبيل الله ظرف مستقرٌ هو حال من ضمير { ضربتم } وليس متعلّقاً ب« ضربتم » لأنّ الضرب أي السيّر لا يكون على سبيل الله إذ سبيل الله لقب للغزو ، ألا ترى قوله تعالى : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىًّ } الآية .
والتبيّن : شدّة طلب البيان ، أي التأمّل القويّ ، حسبما تقتضيه صيغة التفعّل . ودخول الفاء على فِعل « تبيّنوا » لما في ( إذا ) من تضمّن معنى الاشتراط غالباً . وقرأ الجمهور : { فتبيّنوا } بفوقية ثم موحّدة ثم تحتيّة ثم نون من التبيّن وهو تفعّل ، أي تثبّتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتّبعوا الخواطر الخاطفة الخاطئة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخَلف : { فتثبّتوا } بفاء فوقية فمثلّثة فموحّدة ففوقيّة بمعنى اطلبوا الثابت ، أي الذي لا يتبدّل ولا يحتمل نقيض ما بَدَا لَكم .
وقوله : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً } قرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، وخلف « السَّلَم » بدون ألف بعد اللام وهو ضدّ الحرْب ، ومعنى ألقى السلَم أظهره بينكم كأنّه رماه بينهم ، وقرأ البقية « السَّلام » بالألف وهو مشترك بين معنى السلم ضدّ الحرب ، ومعنى تحية الإسلام ، فهي قول : السلام عليكم ، أي من خاطبَكم بتحية الإسلام علامةً على أنّه مسلم .
وجملة { لست مؤمناً } مَقول { لا تقولوا } . وقرأ الجمهور : { مؤمناً } بكسر الميم الثانية بصيغة اسم الفاعل ، أي لا تنْفوا عنه الإيمان وهو يظهره لكم ، وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح الميم الثانية بصيغة اسم المفعول ، أي لا تقولوا له لست مُحصّلاً تأمينَنَا إياك ، أي إنّك مقتولا أو مأسُور . و { عرض الحياة } : متاح الحياة ، والمراد به الغنيمة فعبّر عنها ب { عرض الحياة } تحقيراً لها بأنّها نفع عارض زائل .
وجملة { تبتغون } حالية ، أي ناقشتموه في إيمانه خشيَة أن يكون قصَد إحراز ماله ، فكان عدمُ تصديقه آئلاً إلى ابتغاء غنيمة ماله ، فأوخذوا بالمآل . فالمقصود من هذا القيد زيادة التوبيخ ، مع العلم بأنّه لو قال لمن أظهر الإسلام : لستَ مؤمناً ، وقتَله غير آخذ منه مالاً لكان حكمه أوْلى ممّن قصَد أخذ الغنيمة ، والقيد ينظر إلى سبب النزول ، والحكمُ أعّم من ذلك . وكذلك قوله : { فعند الله مغانم كثيرة } أي لم يحصر الله مغانمَكم في هذه الغَنيمة .
وزاد في التوبيخ قوله : { كذلك كنتم من قبل } أي كنتم كفّاراً فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام ، فلو أنّ أحداً أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يُرضيكم ذلك . وهذه تربية عظيمة ، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحْوالاً كان هو عليها تساوي أحوال مَن يؤاخذه ، كمؤاخذة المعلّم التلميذ بسوء إذا لم يقصّر في إعمال جهده . وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلّب عثراتهم ، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظّفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظّفين ، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام .
وقد دلّت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية ، وهي بثّ الثقة والأمان بين أفراد الأمّة ، وطرح ما من شأنه إدخال الشكّ لأنّه إذا فتح هذا الباب عسر سَدّه ، وكما يتّهم المتّهمُ غيرَه فللغير أن يتّهم مَن اتّهمه ، وبذلك ترتفع الثقة ، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق ، إذ قد أصبحت التهمة تُظلّ الصادق والمنافق ، وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين . على أنّ هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة ، إذ لا يلبثون أن يألفوه ، وتخالط بشاشتُه قلوبَهم ، فهم يقتحمونه على شكّ وتردّد فيصير إيماناً راسخاً ، وممّا يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم .
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمرَ فقال : { فتبَيّنوا } تأكيداً ل ( تبينّوا ) المذكورِ قبْله ، وذيَّله بقوله : { إنّ الله كان بما تعملون خبيراً } وهو يجمع وعيداً ووعداً .