قوله تعالى : { وهم يصطرخون } يستغيثون ويصيحون ، { فيها } وهو : افتعال ، من الصراخ ، وهو الصياح ، يقولون : { ربنا أخرجنا } من النار ، { نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } في الدنيا من الشرك والسيئات ، فيقول الله لهم توبيخاً : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } قيل : هو البلوغ ، وقال عطاء وقتادة والكلبي : ثمان عشرة سنة . وقال الحسن : أربعون سنة . وقال ابن عباس : ستون سنة ، ويروي ذلك عن علي ، وهو العمر الذي أعذر الله تعالى إلى ابن آدم .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا ابن يوسف أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد السلام بن مطهر ، حدثنا عمر بن علي ، عن معز بن محمد الغفاري ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا إبراهيم بن سهلويه ، حدثنا الحسن بن عرفة ، أنبأنا المحاربي عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين " . وأقلهم من يجوز ذلك . قوله { وجاءكم النذير } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، هذا قول أكثر المفسرين . وقيل : القرآن . وقال عكرمة ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع : هو الشيب . معناه أولم نعمركم حتى شبتم . ويقال : الشيب نذير الموت . وفي الأثر : ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها : استعدي فقد قرب الموت " . { فذوقوا فما للظالمين من نصير*إن الله عالم غيب السموات والأرض غنه عليم بذات الصدور* }
أي : يصرخون ويتصايحون ويستغيثون ويقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } فاعترفوا بذنبهم ، وعرفوا أن اللّه عدل فيهم ، ولكن سألوا الرجعة في غير وقتها ، فيقال لهم : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا } أي : دهرا وعمرا { يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ } أي : يتمكن فيه من أراد التذكر من العمل ، متعناكم في الدنيا ، وأدررنا عليكم الأرزاق ، وقيضنا لكم أسباب الراحة ، ومددنا{[746]} لكم في العمر ، وتابعنا عليكم الآيات ، وأوصلنا إليكم النذر ، وابتليناكم بالسراء والضراء ، لتنيبوا إلينا وترجعوا إلينا ، فلم ينجع فيكم إنذار ، ولم تفد فيكم موعظة ، وأخرنا عنكم العقوبة ، حتى إذا انقضت آجالكم ، وتمت أعماركم ، ورحلتم عن دار الإمكان ، بأشر الحالات ، ووصلتم إلى هذه الدار دار الجزاء على الأعمال ، سألتم الرجعة ؟ هيهات هيهات ، فات وقت الإمكان ، وغضب عليكم الرحيم الرحمن ، واشتد عليكم عذاب النار ، ونسيكم أهل الجنة ، فامكثوا فيها خالدين مخلدين ، وفي العذاب مهانين ، ولهذا قال : { فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } ينصرهم فيخرجهم منها ، أو يخفف عنهم من عذابها .
وقوله - تعالى - : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } بيان لما يجأرون به إلى ربهم وهم ملقون فى نار جهنم .
ويصطرخون ، بمعنى يستغيثون ويضجون بالدعاء رافعين أصواتهم ، افتعال من الصراخ ، وهو الصياح الشديد المصحوب بالتعب والمشقة ، ويستعمل كثيراً فى العويل والاستغاثة . وأصله يصترخون ، فأبدلت التاء طاء .
وجملة { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا . . . } مقول لقول محذوف .
أى : وهم بعد أن ألقى بهم فى نار جهنم ، أخذوا يستغيثون ويضجعون بالدعاء والعويل ويقولون : يا ريبنا أخرجنا من هذه النار ، وأعدنا إلى الحياة الدنيا ، لكى نؤمن بك وبرسولك ، ونعمل أعمالاً صالحة أخرى ترضيك ، غير التى كنا نعملها فى الدنيا .
وقولهم هذا يدل على شدة حسرتهم ، وعلى اعترافهم بجرمهم ، وبسوء أعمالهم التى كانوا يعملونها فى الدنيا .
وهنا يأتيهم من ربهم الرد الذى يخزيهم فيقول - سبحانه - { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير . . . } .
والاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والكلام على إضمار القول ، وقوله { نُعَمِّرْكُمْ } من التعمير الإِبقاء والإِمهال فى الحياة الدانيا إلى الوقت الذى كان يمكنهم فيه الإِقلاع عن الكفر إلى الإِيمان .
و { مَّا } فى قوله { يَتَذَكَّرُ فِيهِ } نكرة موصوفة بمعنى مدة . والضمير فى قوله { فِيهِ } يعود إلى عمرهم الذى قضوه فى الدنيا .
والمعنى : أن هؤلاء الكافرين عندما يقولون بحسرة وضراعة : يا ربنا أخرجنا من النار وأعدنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً غير الذى كنا نعمله فيها ، يرد عليهم ربهم بقوله لهم على سبيل الزجر والتأنيب : أو لم نمهلكم فى الحياة الدنيا ، ونعطيكم العمر والوقت الذى كنتم تتمكنون فيه من التذكر والاعتبار واتباع طريق الحق ، وفضلاً عن كل ذلك فقد جاءكم النذير الذى ينذركم بسوء عاقبة إصراركم على كفركم ، ولكنكم كذبتموه وأعرضتم عن دعوته .
والمراد بالنذير : جنسه فيتناول كل رسول أرسله الله - تعالى - إلى قومه ، فكذبوه ولم يستجيبوا لدعوته ، وعلى رأس هؤلاء المنذرين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفاء فى قوله - تعالى - { فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجئ النذير .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم ، فاخسأوا فى جهنم ، واتركوا الصراخ والعويل ، وذوقوا عذبها الذى كنتم تكذبون به فى الدنيا ، فليس للمصرين على كفرهم من نصير ينصرهم ، أو يدفع عنهم شيئاً من العذاب الذى يستحقونه .
ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء ، متناوح من شتى الأرجاء . إنه صوت المنبوذين في جهنم :
وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعاً . . فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول . إنه يقول :
( ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ) . .
إنه الإنابة والاعتراف والندم إذن . ولكن بعد فوات الأوان . فها نحن أولاء نسمع الرد الحاسم يحمل التأنيب القاسي :
( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ? ) . .
فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر ، وهي كافية للتذكر لمن أراد أن يتذكر .
زيادة في التنبيه والتحذير . فلم تتذكروا ولم تحذروا .
( فذوقوا . فما للظالمين من نصير ) . .
إنهما صورتان متقابلتان : صورة الأمن والراحة ، تقابلها صورة القلق والاضطراب . ونغمة الشكر والدعاء تقابلها ضجة الاصطراخ والنداء . ومظهر العناية والتكريم ، يقابله مظهر الإهمال والتأنيب . والجرس اللين والإيقاع الرتيب ، يقابلهما الجرس الغليظ والإيقاع العنيف . فيتم التقابل ، ويتم التناسق في الجزئيات وفي الكليات سواء .
{ وهم يصطرخون فيها } يستغيثون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته . { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به ، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبون انه صالح والآن تحقق لهم خلافه . { أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } جواب من الله وتوبيخ لهم و { ما يتذكر } فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر ، وقيل ما بين العشرين إلى الستين . وعنه الصلاة والسلام " العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة " . والعطف على معنى { أو لم نعمركم } فإنه للتقرير كأنه قال : عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي صلى الله عليه وسلم أو الكتاب ، وقيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب . { فذوقوا فما للظالمين من نصير } يدفع العذاب عنهم .
و { يصطرخون } يفتعلون من الصراخ أصله يصترخون فأبدلت التاء طاء لقرب مخرج الطاء من الصاد ، وفي الكلام محذوف تقديره يقولون { ربنا } وطلبوا الرجوع إلى الدنيا في مقالتهم هذه فالتقدير فيقال لهم { أو لم نعمركم } على جهة التوقيف والتوبيخ ، و { ما } في قوله { ما يتذكر } ظرفية ، واختلف الناس في المدة التي هي حد للتذكير{[9740]} ، فقال الحسن بن أبي الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكير ، وقال قتادة : ثمان عشرة سنة ، وقالت فرقة : عشرون سنة ، وحكى الزجاج : سبع عشرة سنة ، وقال ابن عباس : أربعون سنة ، وهذا قول حسن ، ورويت فيه آثار ، وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب مسح الشيطان على وجهه وقال بابي وجه لا يفلح ، وقال مسروق بن الأجدع : من بلغ أربعين سنة فليأخذ حذره من الله ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ . . . له دون ما يأتي حياءٌ ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى . . . وإن جر أسْباب الحياة له الدهر{[9741]}
وقد قال قوم : الحد خمسون سنة وقد قال الشاعر : [ الوافر ]
أخو الخمسين مجتمع أشدي . . . ونجدني مداومة الشؤون{[9742]}
وإن امرأً قد سار خمسين حجة . . . إلى منهل من ورده لقريب{[9743]}
وقال ابن عباس أيضاً وغيره : الحد في ذلك ستون وهي من الأعذار ، وهذا أيضاً قول حسن متجه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين » وهو العمر الذي قال الله فيه :{ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر }{[9744]} ، وقال صلى الله عليه وسلم : «عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر »{[9745]} ، وقرأ جمهور الناس «ما يتذكر فيه من تذكر » ، وقرأ الأعمش «ما يذكر فيه من أذكر »{[9746]} .
و { النذير } في قول الجمهور الأنبياء وكل نبي نذير أمته ومعاصره ، ومحمد صلى الله عليه وسلم نذير العالم في غابر الزمان ، وقال الطبري وقيل { النذير } الشيب وهذا قول حسن ، إلا أن الحجة إنما تقوم بالنذارة الشرعية وباقي الآية بين .
{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } .
الضمير إلى { الذين كفروا } [ فاطر : 36 ] والجملة عطف على جملة { لهم نار جهنم } [ فاطر : 36 ] ولا تجعل حالاً لأن التذييل آذنَ بانتهاء الكلام وباستقبال كلام جديد .
و { يصطرخون } مبالغة في ( يصرخون ) لأنه افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد ، فالاصطراخ مبالغة فيه ، أي يصيحون من شدة ما نابهم .
وجملة { ربنا أخرجنا } بيان لجملة { يصطرخون } ، يحسبون أن رفع الأصوات أقرب إلى علم الله بندائهم ولإِظهار عدم إطاقة ما هم فيه .
وقولهم : { نعمل صالحاً } وعدٌ بالتدارك لما فاتهم من الأعمال الصالحة ولكنها إنابة بعد إبانها .
ولإِرادة الوعد جُزم { نعمل صالحاً } في جواب الدعاء . والتقدير : إن تخرجنا نعملْ صالحاً .
و { غير الذي كنا نعمل } نعت ل { صالحاً } ، أي عملاً مغايراً لما كنا نعمله في الدنيا وهذا ندامة على ما كانوا يعملونه لأنهم أيقنوا بفساد عملهم وضره فإن ذلك العالَم عالم الحقائق .
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين من نصير } .
الواو عاطفة فعل قول محذوفاً لعلمه من السياق بحسب الضمير في { نعمركم } معطوفاً على جملة { وهم يصطرخون فيها } فإن صراخهم كلام منهم ، والتقدير : يقولون ربنا أخرجنا ونقول ألم نعمركم .
والاستفهام تقريع للتوبيخ ، وجُعل التقرير على النفي توطئة ليُنكره المقرَّر حتى إذا قال : بلى علم أنه لم يسعه الإِنكار حتى مع تمهيد وطاء الإِنكار إليه .
والتعمير : تطويل العمر . وقد تقدم غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } في سورة البقرة ( 96 ) ، وقوله : { وما يعمر من معمر } في هذه السورة ( 11 ) .
وما } ظرفية مصدرية ، أي زمان تعمير مُعَمَّر .
وجملة { يتذكر فيه من تذكر } صفة ل { ما } ، أي زماناً كافياً بامتداده للتذكّر والتبصير .
و { النذير } الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
وجملة { وجاءكم النذير } عطف على جملة « ألم نعمركم » لأن معناها الخبر فعطف عليها الخبر ، على أن عطف الخبر على الإِنشاء جائز على التحقيق وهو هنا حسن .
ووصف الرسول بالنذير لأن الأهم من شأنه بالنسبة إليهم هو النذارة .
والفاء في { فذوقوا } للتفريع . وحذف مفعول « ذوقوا » لدلالة المقام عليه ، أي ذوقوا العذاب .
والأمر في قوله { فذوقوا } مستعمل في معنى الدوام وهو كناية عن عدم الخلاص من العذاب .
وقوله : { فما للظالمين من نصير } تفريع على ما سبق من الحكاية . فيجوز أن يكون من جملة الكلام الذي وبخهم الله به فهو تذييل له وتفريع عليه لتأييسهم من الخلاص يعني : فأين الذين زعمتم أنهم أولياؤكم ونصراؤكم فما لكم من نصير .
وعدل عن ضمير الخطاب أن يقال : فما لكم من نصير ، إلى الاسم الظاهر بوصف « الظالمين » لإِفادة سبب انتفاء النصير عنهم ؛ ففي الكلام إيجاز ، أي لأنكم ظالمون وما للظالمين من نصير ، فالمقصود ابتداء نفي النصير عنهم ويتبعه التعميم بنفي النصير عن كل من كان مثلهم من المشركين .
ويجوز أن يكون كلاماً مستقلاً مفرعاً على القصة ذُيّلت به للسامعين من قوله : { والذين كفروا لهم نار جهنم } [ فاطر : 36 ] ، فليس فيه عدول عن الإِضمار إلى الإِظهار لأن المقصود إفادة شمول هذا الحكم لكل ظالم فيدخل الذين كفروا المتحدث عنهم في العموم .
والظلم : هو الاعتداء على حق صاحب حق ، وأعظمه الشرك لأنه اعتداء على الله بإنكار صفته النفيسة وهي الوحدانية ، واعتداء المشرك على نفسه إذْ أقحمها في العذاب قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
وتعميم « الظالمين » وتعميم « النصير » يقتضي أن نصر الظالم تجاوزٌ للحق ، لأن الحق أن لا يكون للظالم نصير ، إذ واجب الحكمة والحقِّ أن يأخذ المقتدر على يد كل ظالم لأن الأمة مكلفة بدفع الفساد عن جماعتها .
وفي هذا إبطال لخُلُق أهل الجاهلية القائلين في أمثالهم " انصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً " . وقد ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه إبطال ذلك فساق لهم هذا المثلَ حتى سألوا عنه ثم أصلح معناه مع بقاء لفظه فقال : " إذا كان ظالماً تنصره على نفسه فتكفه عن ظلمه " .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهم يصطرخون فيها} يعني يستغيثون فيها، والاستغاثة أنهم ينادون فيها.
{ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} من الشرك، ثم قيل لهم: {أولم نعمركم} في الدنيا {ما يتذكر فيه} في العمر.
{من تذكر وجاءكم النذير} الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
{فذوقوا} العذاب {فما للظالمين من نصير}: ما للمشركين من مانع يمنعهم من الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبّنا أخْرِجْنا نَعْمَلْ صَالِحا غيرَ الّذِي كُنّا نعملُ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الكفار يستغيثون، ويضجون في النار، يقولون: يا ربنا أخرجنا نعمل صالحا: أي نعمل بطاعتك "غَيرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ "قبلُ من معاصيك.
وقوله: "يَصْطَرخُونَ": يفتعلون من الصّراخ...
وقوله: "أوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ ما يَتَذَكّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكّرَ" اختلف أهل التأويل في مبلغ ذلك؛ فقال بعضهم: ذلك أربعون سنة... عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم "أوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ ما يَتَذَكّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكّرَ": أربعون سنة...
وقال آخرون: بل ذلك ستون سنة...
حدثنا أبو صالح الفزاري، قال: حدثنا محمد بن سوار، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ، قال: حدثنا أبو حازم، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمّرَهُ اللّهُ سِتّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذَرَ إلَيْهِ فِي العُمْرِ»...
وأشبه القولين بتأويل الآية إذ كان الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا في إسناده بعض من يَجِب التثبت في نقله، قول من قال ذلك أربعون سنة، لأن في الأربعين يتناهى عقل الإنسان وفهمه، وما قبل ذلك وما بعده منتقَص عن كماله في حال الأربعين.
وقوله: "وَجاءَكُمُ النّذيرُ" اختلف أهل التأويل في معنى النذير؛
فقال بعضهم: عنى به محمدا صلى الله عليه وسلم...
وقيل: عَنَى به الشيب. فتأويل الكلام إذن: أو لم نعمركم يا معشر المشركين بالله من قُرَيش من السنين، ما يتذكر فيه من تذكر، من ذوي الألباب والعقول، واتعظ منهم من اتعظ، وتاب من تاب، وجاءكم من الله منذر يُنذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب الله، فلم تتذكّروا مواعظ الله، ولم تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.
يقول تعالى ذكره: "فَذُوقُوا" نار عذاب جهنم الذي قد صَلِيتموه أيها الكافرون بالله، "فَمَا للظّالِمِينَ مِنْ نَصِير" يقول: فما للكافرين الذين ظلموا أنفسهم فأكسَبُوها غضب الله بكفرهم بالله في الدنيا من نصير ينصرهم من الله ليستنقذهم من عقابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اصطراخهم: {ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل}، يفزعون أولا إلى كبرائهم الذين اتبعوهم في الدنيا، يطلبون منهم دفع بعض ما هم فيه من العذاب والتخفيف عنهم حين قالوا: {إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مُغنون عنا من عذاب الله من شيء} فأجابوا لهم {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم: 21] وقالوا في آية أخرى {إنا كل فيها} الآية [غافر: 48]، فلما أيِسوا منهم، وانقطع رجاؤهم، فزِعوا عند ذلك إلى خزنة جهنم، وقالوا: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب} {قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات} [غافر: 49 و50]. فلما أيسوا منهم، وانقطع رجاؤهم، فزعوا إلى مالك يطلبون منه أن يسأل ربه ليقضي عليهم بالموت، حين قال: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77]، فلما أيِسوا سألوا ربهم الإخراج عنها ليعملوا غير الذي عملوا {ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} فاحتج عليهم {أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكّر} أي أولم نعمّركم فيها من العُمر مثل العُمر الذي يتّعظ فيه من يتعظ؟ فهلا اتعظتم فيه ما اتعظ من اتعظ فيه، وقد أعمرناكم مثل ما أعمرنا أولئك...
{وجاءكم النذير}... قد رأيتم، وعاينتم تغيير الأحوال في أنفسكم من حال إلى حال من حال الصغر إلى الكبر من الشباب إلى المشيب، والرّد إلى أرذل العمر فهلاّ اتعظتم به كما اتعظ أولئك {فذوقوا فما للظالمين من نصير}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يصطرخون "يتصارخون: يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة...
فإن قلت: هلا اكتفى بصالحا كما اكتفى به في قوله تعالى: "فارجعنا نعمل صالحا "(السجدة: 12.) وما فائدة زيادة "غير الذي كنا نعمل "على أنه على أنه يؤذن أنهم يعلمون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟
قلت: فائدة زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به.
وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال الله تعالى:"وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ") الكهف: 104) فقالوا: أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله. "أولم نعمركم "توبيخ من الله يعني: فنقول لهم.
وقرئ: وما يذكر فيه من أذكر على الإدغام، وهو متناول لكل عمر، تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر؛ إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم...
فإن قلت: علام عطف وجاءكم النذير؟ قلت: على معنى: أو لم نعمركم؛ لأن لفظه لفظ استخبار، ومعناه معنى إخبار كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النذير...
{وهم يصطرخون فيها} أي لا يخفف وإن اصطرخوا واضطربوا لا يخفف الله من عنده إنعاما إلى أن يطلبوه، بل يطلبون ولا يجدون، والاصطراخ من الصراخ والصراخ صوت المعذب.
{ربنا أخرجنا}... فيه إشارة إلى أن إيلامهم تعذيب لا تأديب، وذلك لأن المؤدب إذا قال لمؤدبه: لا أرجع إلى ما فعلت وبئسما فعلت يتركه، وأما المعذب فلا، وترتيبه حسن وذلك لأنه لما بين أنه لا يخفف عنهم بالكلية ولا يعفو عنهم، بين أنه لا يقبل منهم وعدا، وهذا لأن المحبوس يصبر لعله يخرج من غير سؤال، فإذا طال لبثه تطلب الإخراج من غير قطيعة على نفسه، فإن لم يقده يقطع على نفسه قطيعة، ويقول أخرجني أفعل كذا وكذا.
واعلم أن الله تعالى قد بين أن من يكون في الدنيا ضالا فهو في الآخرة ضال كما قال تعالى: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار، وعلى هذا قالوا: {نعمل صالحا} جازمين من غير استعانة بالله ولا مثنوية فيه، ولم يقولوا إن الأمر بيد الله، فقال الله لهم إذا كان اعتمادكم على أنفسكم فقد عمرناكم مقدارا يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال.
{وما للظالمين من أنصار} يحتمل أن يكون المراد من الظالم الجاهل جهلا مركبا، وهو الذي يعتقد الباطل حقا في الدنيا، وما له من نصير أي من علم ينفعه في الآخرة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ترجم البخاري: (باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل "أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير "يعني الشيب)... والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار... وقال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء، عبر بالماضي فقال: {من تذكر} إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين، فلا يزاد فيهم أحد...
ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى: أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم.
{وجاءكم النذير}... تأييداً للعقول بالدليل المنقول.
ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه، تسبب عن ذلك قوله: {فما} وكان الأصل: لكم، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال: {للظالمين} أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها {من نصير} أي يعينهم ويقوي أيديهم، فلا براح لكم عن هذا الذواق، وهذا عام في كل ظالم، فإن من ثبت له نصر عليه؛ لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
احتج عليهم بأمرين: طول الأمل، وإرسال الرسل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء، متناوح من شتى الأرجاء، إنه صوت المنبوذين في جهنم: (وهم يصطرخون فيها) وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعاً.. فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول، إنه يقول: (ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل).. إنه الإنابة والاعتراف والندم إذن، ولكن بعد فوات الأوان.
إنهما صورتان متقابلتان: صورة الأمن والراحة، تقابلها صورة القلق والاضطراب. ونغمة الشكر والدعاء تقابلها ضجة الاصطراخ والنداء، ومظهر العناية والتكريم، يقابله مظهر الإهمال والتأنيب، والجرس اللين والإيقاع الرتيب، يقابلهما الجرس الغليظ والإيقاع العنيف، فيتم التقابل ويتم التناسق في الجزئيات وفي الكليات سواء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستفهام تقريع للتوبيخ، وجُعل التقرير على النفي توطئة ليُنكره المقرَّر حتى إذا قال: بلى علم أنه لم يسعه الإِنكار حتى مع تمهيد وطاء الإِنكار إليه، ووصف الرسول بالنذير لأن الأهم من شأنه بالنسبة إليهم هو النذارة، والأمر في قوله {فذوقوا} مستعمل في معنى الدوام وهو كناية عن عدم الخلاص من العذاب.
وعدل عن ضمير الخطاب أن يقال: فما لكم من نصير، إلى الاسم الظاهر بوصف « الظالمين» لإِفادة سبب انتفاء النصير عنهم؛ ففي الكلام إيجاز، أي لأنكم ظالمون وما للظالمين من نصير، فالمقصود ابتداء نفي النصير عنهم ويتبعه التعميم بنفي النصير عن كل من كان مثلهم من المشركين.
والظلم: هو الاعتداء على حق صاحب حق، وأعظمه الشرك لأنه اعتداء على الله بإنكار صفته النفيسة وهي الوحدانية، واعتداء المشرك على نفسه إذْ أقحمها في العذاب قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
وتعميم « الظالمين» وتعميم « النصير» يقتضي أن نصر الظالم تجاوزٌ للحق، لأن الحق أن لا يكون للظالم نصير، إذ واجب الحكمة والحقِّ أن يأخذ المقتدر على يد كل ظالم؛ لأن الأمة مكلفة بدفع الفساد عن جماعتها، وفي هذا إبطال لخُلُق أهل الجاهلية القائلين في أمثالهم "انصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً". وقد ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه إبطال ذلك فساق لهم هذا المثلَ حتى سألوا عنه ثم أصلح معناه مع بقاء لفظه فقال: "إذا كان ظالماً تنصره على نفسه فتكفه عن ظلمه".
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التعبير ب «صالحاً» بصيغة النكرة إشارة إلى أنّهم لم يعملوا أقلّ القليل من العمل الصالح، ولازم هذا المعنى أنّ كلّ هذا العذاب والألم إنّما هو لمن لم تكن لهم أيّة رابطة مع الله سبحانه في حياتهم، وكانوا غرقى في المعاصي والذنوب، وعليه فإنّ القيام بقسم من الأعمال الصالحة أيضاً يمكن أن يكون سبباً في نجاتهم.