البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37)

{ وهم يصطرخون } : بني من الصرخ يفتعل ، وأبدلت من التاء طاء ، وأصله يصرخون ، والصراخ : شدة الصياح ، قال الشاعر :

صرخت حبلى أسلمتها قبيلها . . .

واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته ، قال الشاعر :

وطول اصطراخ المرء في بعد قعرها *** وجهد شقي طال في النار ما عوى

{ ربنا أخرجنا } : أي قائلين ربنا أخرجنا منها ، أي من النار ، وردنا إلى الدنيا .

{ نعمل صالحاً } قال ابن عباس : نقل : لا إله إلا الله ، { غير الذين كنا نعمل } ، أي من الشرك ، ونمتثل أمر الرسل ، فنؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية .

وقال الزمخشري : هل اكتفى بصالحاً ، كما اكتفى به في { ارجعنا نعمل صالحاً } وما فائدة زيادة { غير الذي كنا نعمل } على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه ؟ قالت : فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به ، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي ، ولأنهم كانوا يحسنون صنعاً فقالوا : أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً فنعمله . انتهى .

روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا : { أوَلم نعمركم } ، وهو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير ، وما مصدرية ظرفية ، أي مدة يذكر .

وقرأ الجمهور : { ما يتذكر فيه من تذكر } .

وقرأ الأعمش : ما يذكر فيه ، من اذكر ، بالادغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدرج .

وهذه المدة ، قال الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكر ، وقيل : سبع عشرة سنة .

وقال قتادة : ثمان عشرة سنة .

وقال عمر بن عبد العزيز : عشرون .

وقال ابن عباس : أربعون ؛ وقيل : خمسون .

وقال علي : ستون ، وروي ذلك عن ابن عباس .

{ وجاءكم } معطوف على { أوَلم نعمركم } ، لأن معناه : قد عمرناكم ، كقوله : { ألم نربّك فينا وليداً } وقوله : { ألم نشرح لك صدرك } ثم قال : { ولبثت فينا } وقال { ووضعنا } لأن المعنى قدر بيناك وشرحنا .

والنذير جنس ، وهم الأنبياء ، كل نبي نذير أمته .

وقرىء : النذر جمعاً ، وقيل : النذير : الشيب ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وسفيان ، ووكيع ، والحسن بن الفضل ، والفراء ، والطبري .

وقيل : موت الأهل والأقارب ؛ وقيل : كمال السفل .

{ فذوقوا } : أي عذاب جهنم .

وقرأ جناح بن حبيش : عالم منوناً ، غيب نصباً ؛ والجمهور : على الإضافة .

ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائماً مدة كفرهم كانت مدة يسيرة منقطعة