{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال مقاتل : يعني كفار مكة ، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة ، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه ، ولم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره ، ثم يعذبون على ترك الشكر ، هذا قول الحسن . وعن ابن مسعود رفعه قال : { لتسألن يومئذ عن النعيم } قال : " الأمن والصحة " . وقال قتادة : إن الله يسأل كل ذي نعمة عما أنعم عليه .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الضحاك بن عرزم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة يقول : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصح جسمك ؟ ونروك من الماء البارد " .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شيبان أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد ، فأتاه أبو بكر فقال : ما جاء بك يا أبا بكر ؟ فقال : خرجت لألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنظر إلى وجهه ، وللتسليم عليه ، فلم يلبث أن جاء عمر ، فقال : ما جاء بك يا عمر ؟ قال : الجوع يا رسول الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا قد وجدت بعض ذلك ، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري ، وكان رجلاً كثير النخل والشاء ، ولم يكن له خدم ، فلم يجدوه ، فقالوا لامرأته : أين صاحبك ؟ فقالت : انطلق ليستعذب لنا الماء ، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة زعبها ماءً فوضعها ، ثم جاء يلتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه ، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً ، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلا تنقيت لنا من رطبه وبسره ، فقال : يا رسول الله إني أردت أن تتخيروا من رطبه وبسره ، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد ، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تذبحن ذات در ، فذبح لهم عناقاً أو جدياً ، فأتاهم بها ، فأكلوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك خادم ؟ قال : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإذا أتانا سبي فأتنا ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث ، فأتاه أبو الهيثم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهما ، فقال : يا نبي الله اختر لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن المستشار مؤتمن ، خذ هذا ، فإني رأيته يصلي ، واستوص به معروفاً ، فانطلق به أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأته : ما أنت ببالغ فيه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه ، قال : فهو عتيق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن الله تبارك وتعالى لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه إلا خبالاً ، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي " . وروي عن ابن عباس قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العبيد فيم استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وذلك قوله : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }( الإسراء- 36 ) . وقال عكرمة : عن الصحة والفراغ . وقال سعيد بن جبير : عن الصحة والفراغ والمال .
أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا الحسين بن الحسن بمكة ، حدثنا عبد الله بن المبارك والفضل بن موسى ، قالا : حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " . قال محمد بن كعب : يعني عما أنعم عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو العالية : عن الإسلام والسنن . وقال الحسين بن الفضل : تخفيف الشرائع .
{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } الذي تنعمتم به في دار الدنيا ، هل قمتم بشكره ، وأديتم حق الله فيه ، ولم تستعينوا به ، على معاصيه ، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل ، أم اغتررتم به ، ولم تقوموا بشكره ؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك ، قال تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } الآية .
ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } ، والمراد بالنعيم هنا : ما يتنعم به الإِنسان خلال حياته الدنيوية من مال وولد ، ومن طعام وشراب ، ومن متعه وشهوة . . من النعومة التى هى ضد الخشونة .
أى : ثم إنكم بعد ذلك - أيها الناس - والله لتسألن يوم القيامة عن ألوان النعم التى منحكم الله - تعالى - إياها ، فمن أدى ما يجب عليه نحوها من شكر الله - تعالى - عليها كان من السعداء ، ومن جحدها وغمطها وشغلته عن طاعة ربه ، وتباهى وتفاخر بها . . كان من الأشقياء ، كما قال - تعالى - : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } فالمراد بالسؤال إنما هو سؤال التكريم والتبشير للمؤمنين الشاكرين ، وسؤال الإِهانة والتوبيخ للفاسقين الجاحدين .
والآية الكريمة دعوة حارة للناس ، إلى شكر نعمة - تعالى - واستعمالها فيما خلقت له .
قال القرطبى ما ملخصه : والسؤال يكون للمؤمن والكافر . . والجمع بين الأخبار التى وردت فى ذلك : أن الكل يسألون ، ولكن سؤال الكافر توبيخ ؛ لأنه قد ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف ؛ لأنه قد شكر ، وهذا النعيم فى كل نعمة .
( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) !
لتسألن عنه من أين نلتموه ? وفيم أنفقتموه ? أمن طاعة وفي طاعة ? أم من معصية وفي معصية ? أمن حلال وفي حلال ? أم من حرام وفي حرام ? هل شكرتم ? هل أديتم ? هل شاركتم ? هل استأثرتم ?
( لتسألن )عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل !
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها . وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها . وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون !
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل . . ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) . . وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة . . ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد . .
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها . . حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق !
القرطبي : قال مالك رحمه الله : إنه صحة البدن ، وطيب النفس ....
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله : { ثُمّ لَتُسْئَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } يقول : ثم ليسألنكم الله عزّ وجلّ عن النعيم الذي كنتم فيه في الدنيا : ماذا عملتم فيه ؟ من أين وصلتم إليه ؟ وفيم أصبتموه ؟ وماذا عملتم به ؟
واختلف أهل التأويل في ذلك النعيم ما هو ؟
فقال بعضهم : هو الأمن والصحة ...
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم لَيُسْئَلُنّ يومئذٍ عما أنعم الله به عليهم مما وهب لهم من السمع والبصر وصحة البدن ...
وقال آخرون : بل عُنِي بذلك : بعض ما يطعمه الإنسان ، أو يشربه ...
حدثني عليّ بن سهل الرمليّ ، قال : حدثنا الحسن بن بلال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عَمّار بن أبي عمار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : أتانا النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأطعمناهم رُطَبا ، وسقيناهم ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَذَا مِنَ النّعِيمِ الّذِي تُسْئَلُونَ عَنْهُ » ...
حدثني الحسن بن عليّ الصّدائي ، قال : حدثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : بينما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما جالسان ، إذ جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ما أجْلَسَكُما ها هُنا ؟ » قالا : الجوع ، قال : «وَالّذِي بَعَثَنِي بالْحَقّ ما أخْرَجَنِي غَيرُهُ » ، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار ، فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «أيْنَ فُلانُ ؟ » فقالت : ذهب يستعذب لنا ماء ، فجاء صاحبهم يحمل قربته ، فقال : مَرْحَبا ، ما زار العِبادَ شَيءٌ أفضلَ من شيء زارني اليوم ، فعلّق قربته بكَرَب نخلة ، وانطلق فجاءهم بعِذْق ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ألا كُنْتَ اجْتَنَيْتَ ؟ » فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم ، ثم أخذ الشّفرة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إيّاكَ والْحَلُوبَ » ، فذبح لهم يومئذٍ ، فأكلوا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَتُسْئَلُنّ عَنْ هَذَا يَوْمَ القِيامَةِ ، أخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ ، فَلَمْ تَرْجِعُوا حتّى أصَبْتُمْ هَذَا ، فَهَذَا مِنَ النّعِيمِ » ...
حدثني يعقوب بن إبراهيم والحسين بن عليّ الصّدَائي ، قالا : حدثنا شَبَابة بن سوّار ، قال : ثني عبد الله بن العلاء أبو رَزِين الشامي ، قال : حدثنا الضحاك بن عَرْزَم ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ أوّلَ ما يُسْئَلُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ النّعِيمِ أنْ يُقالَ لَهُ : أَلَمْ نُصِحّ لَكَ جِسْمَكَ ، وَتُرْوَ مِنَ الماءِ البارِدِ » ؟...
وقال آخرون : ذلك كلّ ما التذّه الإنسان في الدنيا من شيء ...
والصواب من القول في ذلك : أن يقال : إن الله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم ، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع ، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع ، فهو سائلهم كما قال عن جميع النعيم ، لا عن بعض دون بعض .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ظاهر هذا يقتضي أن يكون سؤالهم بعد ما دخلوا النار ، لأنه قال : { ثم لتسألن } بعد ما وصف أنهم يدخلون النار ، فبان أنه في ذلك الوقت . فإن كان على ذلك ، فهو في موضع التقرير عندهم أنهم استوجبوا المقت والعقوبة ؛ لأنه كان عندهم أن من أنعم الله عليه بنعمة فلم يشكرها ، استوجب المقت والعقوبة ، فإن الله تعالى يسألهم في ذلك الوقت عن شكر ما أنعم عليهم ، ليقرر عندهم استيجاب العقوبة . ويجوز هذا عند الحساب ؛ لأنه قال : { يومئذ } ولم يقل : قبل ذلك ، أو بعده ؛ بل قال على الإطلاق ، فيعمل به . وإذا احتمل ذلك الوجه إلى المؤمنين والكافرين ، وكان الوجه في سؤال المؤمنين تذكيرا لهم أن أعمالهم ( لم ) تبلغ ما يستوفي بها شكر النعمة التي أنعمها عليهم ، وليعلموا أن الله تعالى تفضل عليهم ، وتجاوز عنهم ، لا أن بلغت إليه حسناتهم ، فاستوجبوا رحمته بها ؛ بل بكرمه وفضله . وإن كان في الكافرين ، فهو تقرير ما استوجبوا من نقمته حين تركوا شكر نعمه . وقوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } إن كان السؤال للكفرة ، فإنهم يسألون عما تركوا من الإيمان ، وعما أتى إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن غير ذلك من النعم . وإن كان للمؤمنين فهو في سائر النعم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ....
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
روينا عن مجاهد ، أنه قال في قول الله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } ، قال : كل شيء من لذة الدنيا . ( س : 26/328 ) ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه . فإن قلت : ما النعيم الذي يسأل عنه الإنسان ويعاتب عليه ؟ فما من أحد إلاّ وله نعيم ؟ قلت : هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات ، ولم يعش إلاّ ليأكل الطيب ، ويلبس اللين ، ويقطع أوقاته باللهو والطرب ، لا يعبأ بالعلم والعمل ، ولا يحمّل نفسه مشاقهما ؛ فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلاّ لعباده ، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل ، وكان ناهضاً بالشكر ، فهو من ذاك بمعزل ...
المسألة الأولى : في أن الذي يسأل عن النعيم من هو ؟ فيه قولان : أحدهما : وهو الأظهر أنهم الكفار.....
والقول الثاني : أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث ....
واعلم أن الأولى أن يقال : السؤال يعم المؤمن والكافر ، لكن سؤال الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع .
المسألة الثانية : ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوها ... الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم ، ويدل عليه وجوه :
( أحدها ) أن الألف واللام يفيدان الاستغراق.
( وثانيها ) : أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لاسيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى ...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
قلت : ليس في اللفظ ولا في السنة الصحيحة ، ولا في أدلة العقل ما يقتضي اختصاص الخطاب بالكفار ؛ بل ظاهر اللفظ ، وصريح السنة والاعتبار : يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له ، فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك . ويدل على ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة هذه السورة : «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟ الحديث » وهو في صحيح مسلم . وقائل ذلك قد يكون مسلما ، وقد يكون كافرا . ويدل عليه أيضا الأحاديث التي تقدمت ، وسؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفهمهم العموم ، حتى قالوا له : «وأي نعيم نسأل عنه ، وإنما هو الأسودان » ، فلو كان الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك . وقال : ما لكم ولها ؟ إنما هي للكفار . فالصحابة فهموا العموم ، والأحاديث صريحة في التعميم ، والذي أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لتسألن عنه من أين نلتموه ? وفيم أنفقتموه ? أمن طاعة وفي طاعة ? أم من معصية وفي معصية ? أمن حلال وفي حلال ? أم من حرام وفي حرام ? هل شكرتم ? هل أديتم ? هل شاركتم ? هل استأثرتم ? ( لتسألن )عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل ! ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
هذا تأكيد قوي ؛ لأن الله سبحانه سيتولى سؤال عباده عن كل ما تقلبوا فيه من النعم أثناء حياتهم في الدنيا ...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تخويفها ، وما تضمنته من تحذير الملهى ، وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها إلى آخرها بالكفار ، ولا يليق ذلك بها ، ويكفي في ذلك تأمل الأحاديث المرفوعة فيها ، والله أعلم . وتأمل ما في هذا العتاب الموجع لمن استمر على إلهاء التكاثر له مدة حياته كلها ، إلى أن زار القبور ، ولم يستيقظ من نوم الإلهاء ؛ بل أرقد التكاثر قلبه ، فلم يستفق منه إلا وهو في عسكر الأموات . وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتعين لك أن العموم مقصود . وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثر به ، ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا ، على اختلاف أجناسها وأنواعها . وأيضا فان التكاثر تفاعل ، وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكثر صاحبه ، فيكون أكثر منه فيما يكاثره به ، والحامل له على ذلك : توهمه أن العزة للكاثر .....فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره ، كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ، ولم تضرهم ؛ إذ لم يتكاثروا بها . وكل من كاثر إنسانا في دنياه ، أو جاهه ، أو غير ذلك ، أشغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة . فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه ، وتكمل به وتزكو ، وتصير مفلحة . فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك ، وينافسها في هذه المكاثرة ، ويسابقها إليها . فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد . وضده : تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم ، فهذا تكاثر مله عن الله والدار الآخرة ، هو صائر إلى غاية القلة ، فعاقبة هذا التكاثر : قل وفقر وحرمان . والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يذكر بالله وبنعمه ، وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى . وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا ، وأحسن منه عملا ، وأغزر علما . وإذا رأى غيره أكثر منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحاقه فيها كاثره بخصلة أخرى ، هو قادر على المكاثرة بها ، وليس هذا التكاثر مذموما ، ولا قادحا في إخلاص العبد ؛ بل هو حقيقة المنافسة ، واستباق الخيرات . وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج رضي الله عنهم في تصاولهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره ، وكذلك كانت حال عمر مع أبى بكر رضي الله عنهما . فلما تبين لعمر مدى سبق أبي بكر رضي الله عنه له قال : «والله لا أسابقك إلى شيء أبدا » . فصل ومن تأمل حسن موقع { كلا } في هذا الموضع ، فإنها تضمنت ردعا لهم ، وزجرا عن التكاثر ، ونفيا وإبطالا لما يؤملونه ، من نفع التكاثر لهم ، وعزتهم وكمالهم به ، فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا ، وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم ، وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية ، وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم : من أين استخرجوها ؟ وفيم صرفوها ؟ فلله ما أعظمها من سورة ، وأجلها وأعظمها فائدة ، وأبلغها موعظة وتحذيرا ، وأشدها ترغيبا في الآخرة ، وتزهيدا في الدنيا ، على غاية اختصارها ، وجزالة ألفاظها ، وحسن نظمها . فتبارك من تكلم بها حقا ، وبلغها رسوله عنه وحيا ... وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم إلى غاية كل حي زائرين غير مستوطنين ؛ بل هم مستودعون في المقابر مدة ، وبين أيديهم دار القرار . فإذا كانوا عند وصولهم إلى الغاية زائرين ، فكيف بهم وهم في الطريق في هذه الدار ؟ فهم فيها عابرو سبيل إلى محل الزيارة ، ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر . فهنا ثلاثة أمور : عبور السبيل هذه الدنيا ، وغايته زيارة القبور ، وبعدها النقلة إلى دار القرار . ...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
ولقد احتوت تلقينا جليلا مستمر المدى ، ومتسقا مع التلقينات التي احتوتها السور المماثلة السابقة ، وهو وجوب تنبيه الناس إلى واجباتهم نحو الله ونحو الناس في الحياة الدنيا ، وعدم الاندفاع في الاستكثار من المال والاستغراق في النعيم ، وجعل شهوات الحياة ونعميها قصارى الهم والمطلب . ... روح الآيات تلهم أن التنديد والتنبيه موجهان إلى من تلهيه أمواله وأولاده وشهواته ومتعه عن واجباته نحو ربه ونحو الناس ، ويستغرق في ذلك استغراقا يملك عليه تفكيره ، ويعمي بصيرته ، ويجعله لا يحسب للعواقب حسابا ، ويوهمه بأنه في أمن دائم ، لا إلى أصحاب الأموال والأولاد والمتنعمين إطلاقا إذا ما أدوا حق الله بالإيمان به وعبادته وشكره ، وحق الناس بالبر ، والتزموا القصد والاعتدال .