ثم صرح بذكر حسنها فقال : { 5 - 10 } { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
أي : ولقد جملنا { السَّمَاءَ الدُّنْيَا } التي ترونها وتليكم ، { بِمَصَابِيحَ } وهي : النجوم ، على اختلافها في النور والضياء ، فإنه لولا ما فيها من النجوم ، لكانت سقفًا مظلمًا ، لا حسن فيه ولا جمال .
ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء ، [ وجمالا ] ، ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح ، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع ، فإن السماوات شفافة ، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا ، وإن لم تكن الكواكب فيها ، { وَجَعَلْنَاهَا } أي : المصابيح { رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } الذين يريدون استراق خبر السماء ، فجعل الله هذه النجوم ، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الأرض ، فهذه الشهب التي ترمى من النجوم ، أعدها الله في الدنيا للشياطين ، { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } في الآخرة { عَذَابِ السَّعِيرِ } لأنهم تمردوا على الله ، وأضلوا عباده ، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم ، قد أعد الله لهم عذاب السعير ، فلهذا قال :
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك أدلة أخرى على وحدانيته وقدرته ، وبين ما أعده للكافرين من عذاب ، بسبب إصرارهم على كفرهم . . فقال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ . . . }
قال الإِمام الرازى : اعلم أن هذا هو الدليل الثانى على كونه - تعالى - قادرا عالما ، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار معين ، وموضع خاص ، وسير معين ، تدل على أن صانعها قادر .
ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد ، ومن كونها زينة لأهل الدنيا ، وسببا لانتفاعهم بها ، تدل على أن صانعها عالم .
ونظير هذه الآية قوله - تعالى - فى سورة الصافات : { إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب . وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } وقوله : { زَيَّنَّا } من التزيين بمعنى التحسين والتجميل . و { الدنيا } صيغة تفضيل من الدنو بمعنى القرب .
والمصابيح : جمع مصباح وهو السراج المضئ . والمراد بها النجوم . وسميت بالمصابيح على التشبيه بها فى حسن المنظر ، وفى الإضاءة ليلا . .
والرجوم : جمع رَجْم ، وهو فى الأصل مصدر رَجَمه رَجْماً - من باب نصر - إذا رماه بالرِّجام أي : بالحجارة ، فهو اسم لما يُرْجَم به ، أي : ما يَرْمِي به الرامي غيره من حجر ونحوه ، تسمية للمفعول بالمصدر ، مثل الخَلْق بمعنى المخلوق .
وصدرت الآية الكريمة بالقسم ، لإِبراز كامل العناية بمضمونها .
والمعنى : وبالله لقد زينا وجملنا السماء القريبة منكم بكواكب مضيئة كإضاءة السُّرُجِ ، وجعلنا - بقدرتنا - من هذه الكواكب ، ما يرجم الشياطين ويحرقها ، إذا ما حاولوا أن يسترقوا السمع ، كما قال - تعالى - { وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } قال الإِمام ابن كثير : قوله : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } عاد الضمير فى قوله { وَجَعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح لاعلى عينها ، لأنه لا يرمى بالكواكب التي فى السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها - والله أعلم - .
قال قتادة : إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال : خلقها زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به . .
فالضمير فى قوله : { وَجَعَلْنَاهَا } يعود إلى المصابيح ، ومنه من أعاده إلى السماء الدنيا ، على تقدير : وجعلنا منها رجوما للشياطين الذين يسترقون السمع .
وقوله - تعالى - : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } بيان لسوء مصيرهم فى الآخرة ، بعد بيان سوء مصيرهم فى الدنيا عن طريق إحراقهم بالشهب .
أي : وهيأنا لهؤلاء الشياطين فى الآخرة - بعد إحراقهم في الدنيا بالشهب - عذاب النار المشتعلة المستعرة .
فالسعير - بزنة فعيل - اسم لأشد النار اشتعالا . يقال : سعر فلان النار - كمنع - إذا أوقدها بشدة .
وكان السعير عذابا للشياطين - مع أنهم مخلوقات من النار ، لأن نار جهنم أشد من النار التي خلقوا منها ، فإذا ألقوا فيها صارت عذابا لهم ، إذ السعير أشد أنواع النار التهابا واشتعالا وإحراقا .
والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال . بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة . فالكمال يبلغ درجة الجمال . ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها :
( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ) . .
وما السماء الدنيا ? لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن . ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين ، التي نراها حين ننظر إلى السماء . فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء . وما كانوا يملكون إلا عيونهم ، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء .
ومشهد النجوم في السماء جميل . ما في هذا شك . جميل جمالا يأخذ بالقلوب . وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته ؛ ويختلف من صباح إلى مساء ، ومن شروق إلى غروب ، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء . ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب . . بل إنه ليختلف من ساعة لساعة . ومن مرصد لمرصد . ومن زاوية لزاوية . . وكله جمال وكله يأخذ بالألباب .
هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك ، وكأنها عين جميلة ، تلتمع بالمحبة والنداء !
وهاتان النجمتان المنفردتان هناك ، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان !
وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك ، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء . وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان !
وهذا القمر الحالم الساهي ليلة . والزاهي المزهو ليلة . والمنكسر الخفيض ليلة . والوليد المتفتح للحياة ليلة . والفاني الذي يدلف للفناء ليلة . . !
وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده ، ولا يبلغ البصر آماده .
إنه الجمال . الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه ، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات !
والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء ، وإلى جمال الكون كله ، لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود . وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه ، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة ، في عالم طليق جميل ، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية . وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون . ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه .
ويذكر النص القرآني هنا أن هذه المصابيح التي زين الله السماء الدنيا بها هي كذلك ذات وظيفة أخرى : ( وجعلناها رجوما للشياطين ) . .
وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرفا من خبرها ؛ وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه . وهو كاف بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور .
فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين ، وردت بعض صفاتهم في القرآن ، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال ، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين ، في صورة شهب كما جاء في سورة أخرى : ( وحفظا من كل شيطان مارد ) . . . ( إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) . . كيف ? من أي حجم ? في آية صورة ? كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئا ، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن . فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه . وهذا هو المقصود . ولو علم الله أن هناك خيرا في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفصل سبحانه . فمالنا نحن نحاول ما لم يعلم الله أن فيه خيرا ? : في مثل هذا الأمر . أمر رجم الشياطين ? !
ولما نفى عنها في خلقها النقص ، بين كمالها وزينتها فقال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت .
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } عاد الضمير في قوله : { وَجَعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح لا على عينها ؛ لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها ، والله أعلم .
وقوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } أي : جعلنا{[29107]} للشياطين هذا الخزي في الدنيا ، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الأخرى ، كما قال : في أول الصافات : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 6 - 10 ] .
قال قتادة : إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال : خلقها الله زينة للسماء ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
أخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا التي تلينا بمصابيح وهي النجوم ، فإن كانت جميع النجوم في السماء الدنيا ، فهذا اللفظ عام للكواكب ، وإن كان في سائر السماوات كواكب ، فإما أن يريد كواكب سماء الدنيا فقط ، وإما أن يريد الجميع على أن ما في غيرها لما كانت هي تشف عنه ، ويظهر منها ، فقد زينت به بوجه ما ، ومن تكلف القول بمواضع الكواكب وفي أي سماء هي ، فقوله ليس من الشريعة . وقوله تعالى : { وجعلناها رجوماً للشياطين } معناه وجعلنا منها ، وهذا كما تقول : أكرمت بني فلان وصنعت بهم وأنت إنما فعلت ذلك ببعضهم دون بعض ، ويوجب هذا التأويل في الآية أن الكواكب الثابتة والبروج ، وكل ما يهتدى به في البر والبحر فليست براجم ، وهذا نص في حديث السير ، وقال قتادة رحمه الله : خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين وليهتدى بها في البر والبحر ، فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة . { وأعتدنا } معنا : أعددنا والضمير في : { لهم } عائد على الشياطين .
انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خِلقة السماوات ، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإِتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذِكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية ، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالةً على إتقان الصنع لكونها نصب أعين المخاطبين ، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم . وتأكيد الخبر ب ( قد ) لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد ب ( هل ) أختتِ ( قد ) في الاستفهام .
والكلام على السماء الدنيا ولماذا وصفت بالدنيا وعن الكواكب تقدم في أول سورة الصافات .
وسميت النّجوم هنا مصابيح على التشبيه في حسن المنظر فهو تشبيه بليغ .
وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال ، أي زيَّنَاها لكم مثل الامتنان في قوله : { ولكم فيها جَمال } في سورة النحل ( 6 ) .
والمقصد : التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم .
وعدل عن تعريف ( مصابيح ) باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم .
والرجوم : جمع رَجْم وهو اسْم لما يُرجم به ، أي ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه تسميةً للمفعول بالمصدر مثل الخَلْق بمعنى المخلوق في قوله تعالى : { هذا خَلق الله } [ لقمان : 11 ] .
والذي جُعل رُجوماً للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة ثم تلوح منقَضَّة ، وتسمى الشُهُب ومضى القول عليها في سورة الصافات .
وضمير الغائبة في { جعلناها } المتبادر أنه عائد إلى المصابيح ، أي أن المصابيح رجوم للشياطين .
ومعنى جعل المصابيح رجوماً جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 85 ] وقول العرب : قتلت هُذيل رضيع بني ليث تمَّام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب .
وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في { جعلناها } عائد إلى { السماء الدنيا } على تقدير : وجعلنا منها رجوماً إما على حذف حرف الجر . وإمّا على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالى : { فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها } في سورة البقرة ( 66 ) ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعاً إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف ( 163 ) { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } وقصتها هي المشار إليها بقوله : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } [ البقرة : 65 ] فالتقدير : فجعلنا منها ، أي من القرية نكالاً ، وهم القوم الذين قيل لهم { كونوا قردة خاسئين } [ البقرة : 65 ] .
والشياطين هي التي تسترق السمع فتطردها الشهب كما تقدم في سورة الصافات .
وأصل { أعتدنا } أعدَدْنا أي هيّأنا ، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيهما ليتأتى الإِدغَام طلباً للخفة .
و { السعير } : اسم صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول من : سَعَرَ النار ، إذا أوقدها وهو لهب النار ، أي أعددنا للشياطين عذاب طبقة أشد طبقات النار حرارة وتوقداً فإن جهنم طبَقَات .
وكان السعير عذاباً لشياطين الجن مع كونهم من عنصر النار لأنّ نار جهنم أشد من نار طبعهم ، فإذا أصابتهم صارت لهم عذاباً .
وتسمية عذابهم { السعير } دون النار ، أو جهنم مراد لهذا المعنى ومثله قوله تعالى في عذاب الجن { ومن يَزغ منهم عن أمرنا نُذقه من عذاب السعير } [ سبأ : 12 ] وقال { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } [ فاطر : 6 ] يعني الشيطان .
ومعنى الإِعداد يحتمل أنه إعداد تقدير وإيجاد فلا يقتضي أن تكون جهنم مخلوقة قبل يوم القيامة ويحتمل أنه إعداد استعمال ، فتكون جهنم مخلوقة حين نزول الآية وقد اختلف علماؤنا في أن النار موجودة أو توجد يوم الجزاء إذ لا دليل في الكتاب والسنة على أحد الاحتمالين وإنما دعاهم إلى فرض هذه المسألة تأويل بعض الآيات والأحاديث .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد زينا السماء الدنيا} لأنها أدنى السماوات وأقربها من الأرض من غيرها.
{وجعلناها} يعني الكواكب {رجوما} يعني رميا {للشياطين} يعني إذا ارتقوا إلى السماء.
{وأعتدنا لهم} يعني للشياطين {عذاب السعير} يعني الوقود...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَلَقَدْ زَيّنا السّماءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ" وهي النجوم، وجعلها مصابيح لإضاءتها..
"وَجَعلْناها رُجُوما للشّياطِينِ": وجعلنا المصابيح التي زيّنا بها السماء الدنيا رجوما للشياطين تُرْجم بها. عن قتادة: إن الله جلّ ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها زينة للسماء الدنيا، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن يتأوّل منها غير ذلك، فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلّف ما لا علم له به.
" وأعْتَدْنا لَهُمْ عَذَابَ السّعِيرِ ": وأعتدنا للشياطين في الآخرة عذاب السعير، تُسْعَر عليهم فتُسْجَر.
اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه تعالى قادرا عالما، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص، وموضع معين، وسير معين، تدل على أن صانعها قادر. ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا، وسببا لانتفاعهم بها، تدل على أن صانعها عالم، ونظير هذه الآية في سورة الصفات {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولقد} واستجلب الشكر بجلب المسار فقال ناظراً إلى مقام العظمة صرفاً للعقول عما اقتضاه "الرحمن " من عموم الرحمة تذكيراً بما في الآية الماضية، وتنبيهاً على ما في الزينة بالنجوم من مزجها بالرجوم الذي هو عذاب " الجن المتمردين الطاغين ": {زينا} دلالة أخرى تدل على العظمة بعد تلك الدلالة الأولى {السماء الدنيا} أي أدنى السماوات إلى الأرض، وهي التي تشهد وأنتم دائماً تشاهدونها، وهي سقف الدار التي اجتمعتم فيها في هذه الحياة الدنيا {بمصابيح} أي نجوم متقدة عظيمة جداً، كثرتها تفوت الحصر، ظاهرة سائرة مضيئة زاهرة. وهي الكواكب التي تنور الأرض بالليل إنارة السرج التي تزينون بها سقوف دوركم، فتفيد شعبة من ضوء الصباح، والتزيين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيها فوقها من السماوات وهي تتراءى لنا بحسب الشفوف بما للأجرام السماوية من الصفاء، ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة. ولما أخبر -جلت قدرته- بعظيم قدرته فيها منبهاً على ما فيها من جلب المسار بتلك الأنوار، والهداية في الدين والدنيا، التي لولا هي لما انتفع أحد في ليل انتفاعاً تاماً، أخبر بما فيها مع الزينة من دفع المضار بعبارة عامة، وإن كان المراد البعض الأغلب، فإن ما للرجوم منها غير ما للاهتداء والرسوم فقال: {وجعلناها} أي النجوم من حيث هي بعظمتنا مع كونها زينة وأعلاماً للهداية {رجوماً} جمع رجم وهو مصدر واسم لما يرجم به {للشياطين} الذين يستحقون الطرد والبعد والحرق من الجن لما لهم من الاحتراق، وذلك بياناً لعظمتنا وحراسة للسماء الدنيا التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع منها على الناس دينهم الحق، ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي ختمنا به الأديان بالباطل، فيخرجوهم -لأنهم أعداؤهم- من النور إلى الظلمات كما كانوا في الجاهلية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة. فالكمال يبلغ درجة الجمال. ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح).. وما السماء الدنيا؟ لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن. ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين، التي نراها حين ننظر إلى السماء. فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء. وما كانوا يملكون إلا عيونهم، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء. ومشهد النجوم في السماء جميل. ما في هذا شك. جميل جمالا يأخذ بالقلوب. وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته؛ ويختلف من صباح إلى مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء. ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب.. بل إنه ليختلف من ساعة لساعة. ومن مرصد لمرصد. ومن زاوية لزاوية.. وكله جمال وكله يأخذ بالألباب. هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك، وكأنها عين جميلة، تلتمع بالمحبة والنداء! وهاتان النجمتان المنفردتان هناك، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان! وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء. وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان! وهذا القمر الحالم الساهي ليلة. والزاهي المزهو ليلة. والمنكسر الخفيض ليلة. والوليد المتفتح للحياة ليلة. والفاني الذي يدلف للفناء ليلة..! وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده، ولا يبلغ البصر آماده. إنه الجمال. الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات! والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء، وإلى جمال الكون كله، لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود. وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة، في عالم طليق جميل، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية. وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون. ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه. ويذكر النص القرآني هنا أن هذه المصابيح التي زين الله السماء الدنيا بها هي كذلك ذات وظيفة أخرى: (وجعلناها رجوما للشياطين).. وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرفا من خبرها؛ وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه. وهو كاف بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور. فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين، وردت بعض صفاتهم في القرآن، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين، في صورة شهب كما جاء في سورة أخرى: (وحفظا من كل شيطان مارد)... (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب).. كيف؟ من أي حجم؟ في آية صورة؟ كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئا، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن. فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه. وهذا هو المقصود. ولو علم الله أن هناك خيرا في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفصل سبحانه. فمالنا نحن نحاول ما لم يعلم الله أن فيه خيرا؟: في مثل هذا الأمر. أمر رجم الشياطين؟! ثم يستطرد فيما أعده الله للشياطين غير الرجوم: (وأعتدنا لهم عذاب السعير)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خِلقة السماوات، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع، فهو مما شمله عموم الإِتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذِكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالةً على إتقان الصنع لكونها نصب أعين المخاطبين، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وإذا كان من شيء يحسن أن يقال هنا، هو أن من الممكن أن يستلهم من الآيتين وما قبلهما وما بعدهما، قصد تقرير كون الله عز وجل بالمرصاد لكل من يجرؤ على حدوده، ويقف منه موقف المتمرد مهما خيل للناس أنه قوي شديد كشياطين الجن مثلا، الذين لهم في أذهان السامعين صورة ضخمة مفزعة.