قوله تعالى : { أو خلقاً مما يكبر في صدوركم } ، قيل : السماء والأرض والجبال . وقال مجاهد وعكرمة وأكثر المفسرين : إنه الموت ، فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت ، أي : لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم . { فسيقولون من يعيدنا } ، من يبعثنا بعد الموت ؟ { قل الذي فطركم } ، خلقكم ، { أول مرة } ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة ، { فسينغضون إليك رؤوسهم } أي : يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بها ، { ويقولون متى هو } ؟ أي : البعث والقيامة ، { قل عسى أن يكون قريباً } أي : هو قريب ، لأن عسى من الله واجب ، نظيره قوله تعالى : { وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً } [ الأحزاب – 63 ] .
{ فَسَيَقُولُونَ } حين تقيم عليهم الحجة في البعث : { مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فكما فطركم ولم تكونوا شيئا مذكورا فإنه سيعيدكم خلقا جديدا { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } أي : يهزونها إنكارا وتعجبا مما قلت ، { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } أي : متى وقت البعث الذي تزعمه على قولك ؟ لا إقرار منهم لأصل البعث بل ذلك سفه منهم وتعجيز . { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } فليس في تعيين وقته فائدة ، وإنما الفائدة والمدار على تقريره والإقرار به وإثباته وإلا فكل ما هو آت فإنه قريب .
وقوله - سبحانه - : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } أمر من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم فيما استبعدوه وأنكروه من إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل الرد على استبعادهم ، والتحقير من شأنهم ، والتعجيز لهم : { كونوا } - إن استطعتم - { حجارة } كالتى تعبدونها من دون الله ، { أو حديدا } كالذى تستعملونه فى شئون حياتكم ، { أو } كونوا { خلقا } أى : مخلوقا سوى الحجارة والحديد { مما يكبر } أى : يعظم ويستبعد - { فى صدوركم } المظلمة - قبوله للحياة ، قل لهم : كونوا أى شئ من ذلك أو غيره إن استطعتم ، فإن الله - تعالى - لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى ، لكى يحاسبكم على أعمالكم ، ويجازيكم عليها بما تستحقون من عقاب .
فالمقصود من الجملة الكريمة ، بيان أن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها شئ . .
قال الجمل : أجابهم الله - تعالى - بما معناه : تحولوا بعد الموت إلى أى صفة تزعمون أنها أشد منافاة للحياة ، وأبعد عن قبولها ، كصفة الحجرية والحديدية ونحوهما . فليس المراد الأمر ، بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله - تعالى - عن الإِعادة .
وقوله - تعالى - : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } أى : فسيقولون لك - أيها الرسول الكريم - من يعيدنا إلى الحياة مرة أخرى بعد أن نكون حجارة أو حديدا أو غيرهما ؟ .
وقوله - سبحانه - : { قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } رد على جهالاتهم وإنكارهم للبعث والحساب .
أى : قل لهم : الله - تعالى - الذى فطركم وخلقكم ، أول مرة ، على غير مثال سابق ، قادر على أن يعيدكم الى الحياة مرة أخرى . كما قال - تعالى - : { وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } ثم بين - سبحانه - ما يكون منهم من استهزاء وسوء أدب عندما يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الإِجابات السديدة ، فقال : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ متى هُوَ . . . } .
أى : فسيحركون إليك رءوسهم عندما يسمعون ردك عليهم ، ويقولون على سبيل الاستهزاء والسخرية والتكذيب : متى هو ؟ أى ما ذكرته من الإِعادة بعد الموت ، أو متى هو ذلك اليوم الذى سنعود فيه إلى الحياة بعد أن نصير عظاما ورفاتا .
فالجملة الكريمة تصور تصويرا بليغا ما جبلوا عليه من تكذيب بيوم القيامة ومن استهزاء بمن يذكرهم بأحوال ذلك اليوم العصيب . ومن استبعاد لحصوله كما قال - تعالى - : حكاية عنهم فى آية أخرى : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وقوله - تعالى - : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } تذييل قصد به التهديد والوعيد لهم .
أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - على سبيل التأنيب والوعيد : عسى هذا اليوم الذى تستبعدون حصوله ، يكون قريبا جدا وقوعه .
ولا شك فى أنه قريب ، لأن عسى فى كلام الله - تعالى - لما هو محقق الوقوع ، وكل ما هو محقق الوقوع فهو قريب ، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت أنا والساعة كهاتين " - وأشار بالسبابة والوسطى .
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما ، أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ? ( قل : الذي فطركم أول مرة ) . .
وهو رد يرجع المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح . فالذي أنشاهم إنشاء قادر على أن يردهم أحياء . ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون :
( فسينغضون إليك رؤوسهم ) ينغضونها علوا أو سفلا ، استنكارا و استهزاء :
( ويقولون : متى هو ? ) : استبعادا لهذا الحادث واستنكارا .
( قل : عسى أن يكون قريبا ) . .
فالرسول لا يعلم موعده تحديدا . ولكن لعله أقرب مما يظنون . وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في غفلتهم يكذبون ويستهزئون !
{ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ }
قال ابن إسحاق عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : سألت ابن عباس عن ذلك فقال : هو الموت .
وروى عطية ، عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية : لو كنتم موتى لأحييتكم . وكذا قال سعيد بن جبير ، وأبو صالح ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك .
ومعنى ذلك : أنكم لو فرضتم أنكم لو{[17584]} صِرْتُم مَوْتًا الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء ، فإنه لا يمتنع{[17585]} عليه شيء إذا أراده .
وقد ذكر بن جرير [ هاهنا ]{[17586]} حديث : " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كَبْش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، أتعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم . ثم يقال : يا أهل النار ، أتعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم . فيذبح بين الجنة والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، خلود بلا موت ، ويا أهل النار ، خلود بلا موت " {[17587]} .
وقال مجاهد : { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } يعني : السماء والأرض والجبال .
وفي رواية : ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله بعد موتكم .
وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك ، عن الزهري في قوله { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } قال : النبي صلى الله عليه وسلم ، قال مالك : ويقولون : هو الموت .
وقوله [ تعالى ]{[17588]} { فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا } أي : من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدًا أو خلقًا آخر شديدًا { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : الذي خلقكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا ، ثم صرتم بشرًا تنتشرون ؛ فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .
وقوله [ تعالى ]{[17589]} : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } : قال ابن عباس وقتادة : يحركونها استهزاء .
وهذا الذي قالاه هو الذي تفهمه العرب من لغاتها ؛ لأن{[17590]} الإنغاض هو : التحرك من أسفل إلى أعلى ، أو من أعلى إلى أسفل ، ومنه قيل للظليم - وهو ولد النعامة - : نغضًا ؛ لأنه إذا مشى عَجل{[17591]} في مشيته وحَرك رأسه . ويقال : نَغَضَت{[17592]} سنُه إذا تحركت وارتفعت من مَنْبَتها ؛ قال : الراجز{[17593]} :
ونَغَضَتْ مِنْ هَرَم أسنانها . . .
وقوله : { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } إخبار عنه بالاستبعاد منهم لوقوع{[17594]} ذلك ، كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الملك : 25 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] .
وقوله : { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } أي : احذروا ذلك ، فإنه قريب إليكم ، سيأتيكم لا محالة ، فكل ما هو آت آت .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيباً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للمكذّبين بالبعث بعد الممات من قومك القائلين أئِذَا كُنّا عِظاما وَرُفاتا أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا : كونوا إن عجبتم من إنشاء الله إياكم ، وإعادته أجسامكم ، خلقا جديدا بعد بِلاكم في التراب ، ومصيركم رُفاتا ، وأنكرتم ذلك من قُدرته حجارة أو حديدا ، أو خلقا مما يكبر في صدوركم إن قدرتم على ذلك ، فإني أحييكم وأبعثكم خلقا جديدا بعد مصيركم كذلك كما بدأتكم أوّل مرّة .
واختلف أهل التأويل في المعنىّ بقوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فقال بعضهم : عُنِي به الموت ، وأريد به : أو كونوا الموت ، فإنكم إن كنتموه أمتّكم ثم بعثتكم بعد ذلك يوم البعث . ذكر من قال ذلك :
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية ، عن ابن عمر أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت ، قال : لو كنتم موتى لأحييتكم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني الموت . يقول : إن كنتم الموت أحييتكم .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو مالك الجنبي ، قال : حدثنا ابن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا سليمان أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : الموت .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال سعيد بن جبير ، في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ كونوا الموت إن استطعتم ، فإن الموت سيموت قال : وليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني ، عن سعيد بن جبير ، قال : هو الموت .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح حتى يُجعل بين الجنة والنار ، فينادى مناد يُسمِع أهلَ الجنة وأهل النار ، فيقول : هذا الموت قد جئنا به ونحن مهلكوه ، فأيقنوا يا أهل الجنة وأهل النار أن الموت قد هلك » .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني الموت ، يقول : لو كنتم الموت لأمتكم .
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن الله يجيء بالموت يوم القيامة ، وقد صار أهل الجنة وأهل النار إلى منازلهم ، كأنه كبش أملح ، فيقف بين الجنة والنار ، فينادي أهل الجنة وأهل النار هذا الموت ، ونحن ذابحوه ، فأيقنوا بالخلود .
وقال آخرون : عنى بذلك السماء والأرض والجبال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : السماء والأرض والجبال .
وقال آخرون : بل أريد بذلك : كونوا ما شئتم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد كُونُوا حِجارَةً أوْ حَدِيدا أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله كما كنتم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أوْ حَدِيدا أوْ خَلْقا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال : من خلق الله ، فإن الله يميتكم ثم يبعثكم يوم القيامة خلقا جديدا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره قال : أوْ خَلْقا ممّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ، وجائز أن يكون عنى به الموت ، لأنه عظيم في صدور بني آدم وجائز أن يكون أراد به السماء والأرض وجائز أن يكون أراد به غير ذلك ، ولا بيان في ذلك أبين مما بين جلّ ثناؤه ، وهو كلّ ما كبر في صدور بني آدم من خلقه ، لأنه لم يخصص منه شيئا دون شيء .
وأما قوله : فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا فإنه يقول : فسيقول لك يا محمد هؤلاء الذين لا يؤمنون بالاَخرة مَنْ يُعِيدُنا خلقا جديدا ، إن كنا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدورنا ، فقل لهم : يعيدكم الّذِي فَطَرَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ يقول : يعيدكم كما كنتم قبل أن تصيروا حجارة أو حديدا إنسا أحياء ، الذي خلقكم إنسا من غير شيء أوّل مرّة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ أي خلقكم فَسَيُنْغَضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : فإنك إذا قلت لهم ذلك ، فسيهزّون إليك رءوسهم برفع وخفض وكذلك النّغْض في كلام العرب ، إنما هو حركة بارتفاع ثم انخفاض ، أو انخفاض ثم ارتفاع ، ولذلك سمي الظليم نَغْضا ، لأنه إذا عجل المشي ارتفع وانخفض ، وحرّك رأسه ، كما قال الشاعر :
*** أسكّ نَغْضا لا يَنِي مُسْتَهْدِجا ***
ويقال : نَغَضَت سنه : إذا تحرّكت وارتفعت من أصلها ومنه قول الراجز :
*** نَغَضَتْ مِنْ هَرِمٍ أسْنانُها ***
*** لمّا رأتْنِي أنْغَضَتْ ليَ الرأسا ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ أي يحرّكون رءوسهم تكذيبا واستهزاء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوُسَهُمْ قال : يحرّكون رءوسهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : سيحركونها إليك استهزاء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس فسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ قال : يحرّكون رءوسهم يستهزءون ويقولون متى هو .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يقول : يهزؤون .
وقوله : وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ يقول جلّ ثناؤه : ويقولون متى البعث ، وفي أيّ حال ووقت يعيدنا خلقا جديدا ، كما كنا أوّل مرّة ؟ قال الله عزّ وجلّ لنبيه : قل لهم يا محمد إذ قالوا لك : متى هو ، متى هذا البعث الذي تعدنا ؟ : عسى أن يكون قريبا وإنما معناه : هو قريب ، لأن عسى من الله واجب ، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «بُعِثْتُ أنا والسّاعَةُ كَهاتَيْن ، وأشار بالسّبابة والوُسطَى » ، لأن الله تعالى كان قد أعلمه أنه قريب مجيب .
وقال مجاهد أراد ب «الخلق » ، الذي يكبر في الصدور : السماوات والأرض والجبال ، وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو والحسن وابن جبير والضحاك : أراد الموت ، وقال قتادة ومجاهد : بل أحال على فكرتهم عموماً ، ورجحه الطبري ، وهذا هو الأصح ، لأنه بدأ بشيء صلب ، ثم تدرج القول إلى أقوى منه ، ثم أحال على فكرهم ، إن شاؤوا في أشد من الحديد ، فلا وجه لتخصيص شيء دون شيء ، ثم احتج عليهم عز وجل في الإعادة بالفطرة الأولى ، من حيث خلقهم ، واخترعهم من تراب ، فكذلك يعيدهم إذا شاء ، لا رب غيره ، وقوله { فسينغضون } معناه : يرفعون ويخفضون يريد على جهة التكذيب ، قال ابن عباس : والاستهزاء .
قال الزجاج : تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
أنغض نحوي رأسه وأقنعا . . . كأنما أبصر شيئاً أطمعا{[7594]}
ويقال نغضت السنّ إذا تحركت وقال ذو الرمة : [ الطويل ]
ظعائن لم يسكن أكناف قرية . . . بسيف ولم تنغض بهن القناطر{[7595]}
قال الطبري وابن سلام و { عسى } من الله واجبة والمعنى : وهو قريب .
قال القاضي أبو محمد : وهذه إنما هي من النبي عليه السلام ، ولكنها بأمر الله ، فيقربها ذلك من الوجوب ، وكذلك قال عليه السلام «بعثت أنا والساعة كهاتين »{[7596]} ، وفي ضمن اللفظ توعد لهم .
والخلق : بعنى المخلوق ، أي أو خلقاً آخر مما يعظم في نفوسكم عن قبوله الحياة ويستحيل عندكم على الله إحياؤه مثل الفولاذ والنحاس .
وقوله : { مما يكبر في صدوركم } صفة { خلقاً } .
ومعنى { يكبر } يعظم وهو عظم مجازي بمعنى القوي في نوعه وصفاته ، والصدور : العقول ، أي مما تعدونه عظيماً لا يتغير .
وفي الكلام حذف دل عليْه الكلام المردود وهو قولهم : { أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون } [ الإسراء : 49 ] . والتقدير : كونوا أشياء أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات .
والمعنى : لو كنتم حجارة أو حديداً لأحياكم الله ، لأنهم جعلوا كونهم عظاماً حجة لاستحالة الإعادة ، فرد عليهم بأن الإعادة مقدرة لله تعالى ولو كنتم حجارة أو حديداً ، لأن الحجارة والحديد أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات إذ لم يسبق فيهما حلول الحياة قط بخلاف الرفات والعظام .
والتفريع في { فسيقولون من يعيدنا } على جملة { قل كونوا حجارة } أي قل لهم ذلك فسيقولون لك : من يعيدنا .
وجُعِلَ سؤالهم هنا عن المعيد لا عن أصل الإعادة لأن البحث عن المعيد أدخل في الاستحالة من البحث عن أصل الإعادة ، فهو بمنزلة الجواب بالتسليم الجدلي بعد الجواب بالمنع فإنهم نفوا إمكان إحياء الموتى ، ثم انتقلوا إلى التسليم الجدلي لأن التسليم الجدلي أقوى ، في معارضة الدعوى ، من المنع .
والاستفهام في { من يعيدنا } تهكمي . ولما كان قولهم هذا محقق الوقوع في المستقبل أمر النبي بأن يجيبهم عندما يقولونه جواب تعيين لمن يعيدهم إبطالاً للازم التهكم ، وهو الاستحالة في نظرهم بقوله : { قل الذي فطركم أول مرة } إجراء لظاهر استفهامهم على أصله بحمله على خلاف مرادهم ، لأن ذلك أجدر على طريقة الأسلوب الحكيم لزيادة المحاجة ، كقوله في محاجة موسى لفرعون { قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين } [ الشعراء : 25 26 ] .
وجيء بالمسند إليه موصولاً لقصد ما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم بأن الذي فطرهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم ، كقوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] فإنه لقدرته التي ابتدأ بها خلقكم في المرة الأولى قادر أن يخلقكم مرة ثانية .
والإنغاض : التحريك من أعلى إلى أسفل والعكس . فإنغاض الرأس تحريكه كذلك ، وهو تحريك الاستهزاء .
واستفهموا عن وقته بقولهم : { متى هو } استفهام تهكم أيضاً ؛ فأمر الرسول بأن يجيبهم جواباً حقاً إبطالاً للازم التهكم ، كما تقدم في نظيره آنفاً .
وضمير { متى هو } عائد إلى العود المأخوذ من قوله : { يعيدنا } كقوله : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
و { عسى } للرجاء على لسان الرسول : والمعنى لا يبعد أن يكون قريباً .