قوله تعالى : { قل أؤنبئكم } أي أخبركم .
قوله تعالى : { بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله } قرأ العامة بكسر الراء ، وروى أبو بكر عن عاصم بضم الراء ، وهما لغتان كالعدوان والعدوان .
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا يحيى بن سليمان ، حدثني ابن وهب حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : يا رب وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " .
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم }
أى قل يا محمد للناس الذين مالوا إلى شهوات الدنيا من النساء والبنين وغيرهما ، قل لهم ألا تحبون أن أخبركم بما هو خير من تلك المشتهيات الدنيوية ؟
والاستفهام للتقرير ، والمراد به التحقيق والتثبيت في نفوس المخاطبين ، أى تحقيق وتثبيت خيرية ما عند الله وأفضليته على شهوات الدنيا ، وحضهم على الاستجابة لما سيلقى عليهم .
وافتتح الكلام بكلمة { قُلْ } للاهتمام بالمقول وتنبيه السامعين إلى أن ما سيلقى عليهم أمر يهمهم ومما يقوى هذا التنبيه هنا : التعبير بقوله
{ أَؤُنَبِّئُكُمْ } لأن الإنباء معناه الخبر العظيم الشأن ، والتعبير بقوله { ذلكم } لاشتماله على الإشارة التى للبعيد الدالة على عظم شأن ما سيخبرهم به ، والتعبير بقوله { بِخَيْرٍ } الذى يدل على الأفضلية ، لأن نعيم الآخرة خير محض ونعيم الدنيا مشوب بالشرور والأضرار . ثم بين - سبحانه - المخبر عنه بعد أن مهد له بتلك التنبيهات التي تشوق إلى سماعه وتغرى بالاستجابة له فقال : { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله } .
هذه هى اللذائذ والمتع التى أعدها الله - تعالى - لمن اتقاه ، أى أدى ما أمره به ، وابتعد عما نهاه عنه .
وأول هذه النعم : { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، وفى هذه الجنات مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وقوله { لِلَّذِينَ اتقوا } ، خبر مقدم ، وقوله { جَنَّاتٌ } مبتدأ مؤخر ، وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } في محل نصب على الحال من جنات . وقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفة لجنات .
وعلى هذا يكون منتهى الاستفهام عند قوله { مِّن ذلكم } وهذا هو المشهور عند العلماء . ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله { لِلَّذِينَ اتقوا } ثم يبتدأ فيقال : عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار . ومنهم من يجعل الاستفهام منتهيا عند قوله - تعالى - { عِندَ رَبِّهِمْ } ثم يبدأ فيقال : جنات تجرى من تحتها الأنهار .
قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من جعل الاستفهام منتهيا عند قوله - تعالى - { بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله : { للذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } فيكون مخرج ذلك مخرج الخير . وهو إبانة عن معنى الخير الذى قال : أنبئكم به ، فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير " .
وثاني هذه النعم عبر عنه - سبحانه - بقوله { خَالِدِينَ فِيهَا } أى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم خالدين في تلك الجنات التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين خلوداً أبدياً ، بخلاف أولئك المنعمين بنعم الدنيا فإن نعيمهم إلى فناء وزوال .
وثالث هذه النعم قوله - تعالى - { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } .
والأزواج : جمع زوجة وهي المرأة يختص بها الرجل . أى ولهم في تلك الجنات أزواج مطهرة غاية التطهير من كل دنس وقذر حسي ومعنوي ، فقد وصف - سبحانه - هؤلاء الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل ما يتمناه الرجل في المرأة .
ورابع هذه النعم قوله - تعالى - { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله } وهذه النعمة هي أعظم النعم وأجلها أى لهم رضا عظيم من خالق الخلق ، ومبدع الكون ، ومنشىء الوجود . وهو مصدر كالرضا ، ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم ، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم .
وقوله { مِّنَ الله } صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة .
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله - عزو وجل - يقول لأهل الجنة يوم القيامة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ولم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً " .
هذه هى اللذائذ والمتع والنعم التى أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله بَصِيرٌ بالعباد } أي أنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده ، لا تخفى عليه خافية من شؤونهم . وسيجازى الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . ففي هذا التذييل وعد للمتقين ووعيد للمسيئين .
فأما من أراد الذي هو خير . . خير من ذلك كله . خير لأنه أرفع في ذاته . وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات ، والإنكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء . . من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير . وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات :
( قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله ، والله بصير بالعباد ) . .
وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا ، ويؤمر الرسول [ ص ] أن يبشر به المتقين ، هو نعيم حسي في عمومه . . ولكن هنالك فارقا أساسيا بينه وبين متاع الدنيا . . إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا . الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم . وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعا . شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات ، وأن تنساق فيها كالبهيمة . فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس ! وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة ! ويرتفعون بالتطلع إليه - وهم في هذه الأرض - قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله . .
وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا . . وفيه زيادة . .
فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثا معطيا مخصبا ، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار . وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها ، لا كالحرث المحدود الميقات !
وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين ، ففي الآخرة أزواج مطهرة . وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة !
فأما الخيل المسومة والأنعام . وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة . فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع . فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات !
ثم . . هنالك ما هو أكبر من كل متاع . . هنالك ( رضوان من الله ) . رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما . . ويرجح . . رضوان . بكل ما في لفظه من نداوة . وبكل ما في ظله من حنان .
بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع . بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات . بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة .
أي : قل يا محمد للناس : أأخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها ، الذي هو زائل لا محالة . ثم أخبر عن ذلك ، فقال : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار ، من أنواع الأشربة ؛ من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها أبد الآباد{[4886]} لا يبغون{[4887]} عنها حِوَلا .
{ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي : من الدَّنَس ، والخَبَث ، والأذى ، والحيض ، والنفاس ، وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا .
{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ } أي : يحل عليهم رضوانه ، فلا يَسْخَط عليهم بعده أبدا ؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] أي : أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم ، ثم قال [ تعالى ]{[4888]} { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء .
{ قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }
يعني جلّ ثناؤه : قل يا محمد للناس الذين زين لهم حبّ الشهوات ، من النساء والبنين ، وسائر ما ذكر جلّ ثناؤه : { أؤنبّئكم } أأخبركم وأعلمكم { بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ } يعني بخير وأفضل لكم . { مِنْ ذَلِكُمْ } يعني مما زين لكم في الدنيا حبّ شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا .
ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام ، فقال بعضهم : تناهى ذلك عند قوله : { مِنْ ذَلِكُمْ } ثم ابتدأ الخبر عما { لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ } فقيل : للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، فلذلك رفع «الجنات » . ومن قال هذا القول ، لم يُجِز في قوله : { جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ } إلا الرفع ، وذلك أنه خبر مبتدإ غير مردود على قوله بخير ، فيكون الخفض فيه جائزا . وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم ، ففيه إبانة عن معنى الخير الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أؤنبئكم به ؟ والجنات على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله : { لِلّذِينَ اتّقَوْا عنْدَ رَبّهِمْ } .
وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول ، إلا أنهم قالوا : إن جعلت اللام التي في قوله «للذين » من صلة الإنباء جاز في الجنات الخفض والرفع : الخفض على الردّ على «الخير » ، والرفع على أن يكون قوله : { لِلّذِينَ اتّقُوا } خبر مبتدإ على ما قد بيناه قبل .
وقال آخرون : بل منتهى الاستفهام قوله : { عِنْدَ رَبّهِمْ } ثم ابتدأ : { جَنّاتٌ تَجرِي مِنْ تَحتِها الأنهَارُ } وقالوا : تأويل الكلام : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم ، ثم كأنه قيل : ماذا لهم ، أو ما ذاك ؟ أو على أنه يقال : ماذا لهم أو ما ذاك ؟ فقال : هو جنات تجري من تحتها الأنهار . . . الاَية .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله : { بِخَيرٍ مِنْ ذَلِكُمْ } والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله : { لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِنْ جَنّاتٌ } فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر ، وهو إبانة عن معنى الخير الذي قال : أؤنبئكم به ؟ فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير .
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : وأما قوله : { خالِدِينَ فِيها } فمنصوب على القطع¹ ومعنى قوله : { لِلّذِينَ اتّقَوْا } للذين خافوا الله فأطاعوه ، بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه . { عِندَ رَبّهِمْ } يعني بذلك : لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم ، والجنات : البساتين ، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى ، وأن قوله : { تَجرِي مِنْ تَحتِها الأنهَارُ } يعني به : من تحت الأشجار ، وأن الخلود فيها دوام البقاء فيها ، وأن الأزواج المطهرة : هن نساء الجنة اللواتي طهرن من كل أذى يكون بنساء أهل الدنيا من الحيض والمني والبول والنفاس وما أشبه ذلك من الأذى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ } يعني : ورضا الله ، وهو مصدر من قول القائل : رضي الله عن فلان ، فهو يرضى عنه رضا منقوص ، ورُضْوانا وَرِضْوانا ومرضاة . فأما الرّضوان بضم الراء فهو لغة قيس ، وبه كان عاصم يقرأ . وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير : رضوانه ، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثني أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله تبارك وتعالى : أعطيكم أفضل من هذا ! فيقولون : أي ربنا أي شيء أفضل من هذا ؟ قال : رضواني .
وقوله : { وَاللّهُ بَصِيرٌ بالعِبادِ } يعني بذلك ، والله ذو بصر بالذي يتقيه من عباده ، فيخافه فيطيعه ، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعده للذين اتقوه على حب ما زين له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدد منها تعالى ذكره ، وبالذي لا يتقيه فيخافه ، ولكنه يعصيه ، ويطيع الشيطان ، ويؤثر ما زين له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال ، على ما عنده من النعيم المقيم ، عالم تعالى ذكره بكل فريق منهم ، حتى يجازي كلهم عند معادهم إليه جزاءهم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها ، وذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها ، ثم جاء الإنباء بخير من ذلك ، هازاً للنفوس وجامعاً لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل ، وأنبىء : معناه أخبر ، وذهبت فرقة من الناس إلى أن الكلام الذي أمر النبي صلى عليه السلام بقوله تم في قوله تعالى : { عند ربهم } و{ جنات } على هذا مرتفع بالابتداء المضمر تقديره : ذلك جنات ، وذهب آخرون إلى أن الكلام تم في قوله : { من ذلكم } وأن قوله { للذين } خبر متقدم ، و{ جنات } رفع بالابتداء ، وعلى التأويل الأول يجوز في { جنات } الخفض بدلاً من خير ، ولا يجوز ذلك على التأويل الثاني ، والتأويلان محتملان ، وقوله { من تحتها } يعني من تحت أشجارها وعلوها من الغرف ونحوها و{ خالدين } نصب على الحال ، وقوله : { وأزواج } عطف على الجنات وهو جمع زوج وهي امرأة الإنسان ، وقد يقال زوجة ، ولم يأت في القرآن ، و { مطهرة } ، معناه من المعهود في الدنيا من الأقذار والريب وكل ما يصم في الخلق والخلق ، ويحتمل أن يكون الأزواج الأنواع والأشباه ، والرضوان ، مصدر من الرضى وفي الحديث عن النبي عليه السلام : أن أهل الجنة إذا استقروا فيها وحصل لكل واحد منهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال الله لهم : أتريدون أن أعطيكم ما هو أفضل من هذا ؟ قالوا يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول الله تعالى : «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً »{[3019]} ، هذا سياق الحديث ، وقد يجيء مختلف الألفاظ والمعنى قريب بعضه من بعض ، وفي قوله تعالى : { والله بصير بالعباد } وعد ووعيد .
استئناف بياني ، فإنّه نشأ عن قوله : { زين للناس } [ آل عمران : 14 ] المقتضي أنّ الكلام مسوق مساق الغضّ من هذه الشهوات . وافتتح الاستئناف بكلمة { قل } للاهتمام بالمقول ، والمخاطب بقل النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام للعرض تشويقاً من نفوس المخاطبين إلى تلقّي ما سيقصّ عليهم كقوله تعالى : { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [ الصف : 10 ] الآية .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر ، وأبو جعفر ، ورُويس عن يعقوبَ : { أُونّبئكم } بتسهيل الهمزة الثانية واوَا . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، ورَوح عن يعقوب ، وخلفٌ : بتخفيف الهمزتين .
وجملة { للذين اتقوا عند ربهم جنات } مستأنفة وهي المنبَّأ به . ويجوز أن يكون { للذين اتقوا } متعلقاً بقوله : « خيرٍ » و « جنّات » مبتدأ محذوف الخبر : أي لهم ، أو خبراً لمبتدأ محذوف . وقد ألغي ما يقابل شهوات الدنيا في ذكر نعيم الآخرة ؛ لأنّ لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة ، للاستغناء عنها ، وكذلك لذة الخيل والأنعام ؛ إذ لا دوابّ في الجنة ، فبقي ما يقابل النساء والحرث ، وهو الجنّات وَالأزواج ، لأنّ بهما تمام النعيم والتأنّس ، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرُمه من جعل حظّه لذّات الدنيا وأعرض عن الآخرة . ومعنى المطهّرة المنزّهة ممّا يعتري نساء البشر ممّا تشمئزّ مِنه النفوس ، فالطهارة هنا حسية لا معنوية .
وعطف { رضوانٌ من الله } على ما أعدّ للذين اتّقوا عند الله : لأنّ رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي ؛ لأنّ رضوان الله تقريب رُوحاني قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] وقرأ الجمهور : { رِضوان } بكسر الراء وقرأه أبو بكر عن عاصم : بضم الراء وهما لغتان .
وأظهر اسم الجلالة في قوله : { ورضوان من الله } ، دون أن يقول ورضوان منه أي من ربّهم : لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان .
وجملة { والله بصير بالعباد } اعتراض لبيان الوعد أي أنّه عليم بالذين اتّقوا ومراتبِ تقواهم ، فهو يجازيهم ، ولتضمّن بصير معنى عليم عدي بالباء . وإظهار اسم الجلالة في قوله : { واللَّه بصير بالعباد } لقصد استقلال الجملة لتكون كالمَثَل .