معاني القرآن للفراء - الفراء  
{۞قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٖ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (15)

وقوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكمْ . . . }

ثم قال { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَناتٌ } فرفع الجنات باللام . ولم يجز ردّها على أوّل الكلام ؛ لأنك حُلْت بينهما باللام ، فلم يضمر خافض وقد حالت اللام بينهما . وقد يجوز أن تحول باللام ومثلِها بين الرافع وما رَفَع ، والناصبِ وما نَصَب . فتقول : رأيت لأخيك مالا ، ولأبيك إبلا . وترفع باللام إذا لم تُعمِل الفعل ، وفي الرفع : قد كان لأخيك مال ولأبيك إبل . ولم يجُز أن تقول في الخفض : قد أمرتُ لك بألف بألف ولأخيك ألفين ، وأنت تريد ( بألفين ) لأن إضمار الخفض غير جائز ؛ ألا ترى أنك تقول : مَنْ ضربتَ ؟ فتقول : زيدا ، ومن أتاك ؟ فتقول : زيدٌ . فيضمر الرافع والناصب . ولو قال : بمن مررت ؟ لم تقل : زيدٍ ؛ لأن الخافض مع ما خَفَض بمنزلة الحرف الواحد . فإذا قدّمت الذي أخرته بعد اللام جاز فيه الخفض ؛ لأنه كالمنسوق على ما قبله إذا لم تَحُلْ بينهما بشيء . فلو قُدّمِت الجنات قبل اللام فقيل : ( بخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ جناتٍ للذين اتقوا ) لجاز الخفض والنصب على معنى تكرير الفعل بإسقاط الباء ؛ كما قال الشاعر :

أتيتَ بعبد الله في القِدّ مُوثَقا *** فهلا سعِيدا ذا الخيانةِ والغدرِ‍‍‍‍‍‍‍‍

كذلك تفعل بالفعل إذا اكتسب الباء ثم أضمرا جميعا نصب كقولك : أخاك ، وأنت تريد امْرُرْ بأخيك . وقال الشاعر [ في ] استجازة العطف إذا قدّمته ولم تَحُلْ بينهما بشيء :

ألا يا لقومٍ كُلُّ ما حُمَّ واقع *** ولِلطيرِ مَجْرىً والجُنُوبِ مَصَارع

أراد : وللجنوبِ مصارع ، فاستجاز حذف اللام ، وبها ترتفع المصارع إذ لم تحل بينهما بشيء . فلو قلت : ( ومصارعُ الجنوبِ ) لم يجز وأنت تريد إضمار اللام . وقال الآخر :

أوعدني بالسجن والأداهِم *** رِجلِي ورِجلي شَثْنَة المناسِمِ

أراد : أوعد رجلي بالأداهم .

وقوله : { فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَرَاء إسْحاقَ يَعْقُوبَ } والوجه رفع يعقوب . ومن نصب نوى به النصب ، ولم يجز الخفض إلا بإعادة الباء : ومن وراء إسحاق بيعقوب .

وكلّ شيئين اجتمعا قد تقدم [ أحدهما ] قبل المخفوض الذي ترى أن الإضمار فيه يجوز على هذا . ولا تبالِ أن تفرق بينهما بفاعل أو مفعول به أو بصفة . فمن ذلك أن تقول : مررت بزيد وبعمرو ومحمد [ أو ] وعمرو ومحمد . ولا يجوز مررت بزيد وعمرو وفي الدار محمدٍ ، حتى تقول : بمحمد . وكذلك : أمرت لأخيك بالعبيد ولأبيك بالوِرِق . ولا يجوز : لأبيك الوِرِق . وكذلك : مَُرَّ بعبد الله موثَقا ومطلقا زيدٍ ، وأنت تريد : ومطلقا بزيد . وإن قلت : وزيدٍ مطلقا جاز ذلك على شبيه بالنَسَق إذا لم تَحُل بينهما بشيء .

وقوله : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرّ مِن ذَلِكُمُ النارُ وَعَدها الله الَّذِينَ كَفَروا } فيها ثلاثة أوجه أجودها الرفع ، والنصب من جهتين : من وعدها إذ لم تكن النار مبتدأة ، والنصب الآخر بإيقاع الإنباء عليها بسقوط الخفض . جائز لأنك لم تَحُلْ بينهما بمانع . والرفع على الابتداء .

فإن قلت : فما تقول في قول الشاعر :

الآن بعد لجاجتي تَلْحَوْننِي *** هلا التقدّمُ والقلوبُ صِحاحُ

بِم رُفع التقدّم ؟ قلت : بمعنى الواو في قوله : ( والقلوبُ صحاح ) كأنه قال : العِظَة والقلوب فارغة ، والرُطَبُ والحرّ شديد ، ثم أدخلت عليها هلاّ وهي على ما رفعتها ، ولو نصبت التقدّم بنية فِعل كما تقول : أتيتنا بأحاديث لا نعرفها فهلا أحاديثَ معروفة .

ولو جعلت اللام في قوله : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ } من صلة الإنباء جاز خفص الجنات والأزواج والرضوان .