الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٖ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (15)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل} للكفار: {أؤنبئكم بخير من ذلكم}: ما ذكره في هذه الآية: {للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار}: وذلك أن العيون تجري من تحت البساتين.

{خالدين فيها}: لا يموتون. {وأزواج مطهرة}: من الحيض والغائط والبول والبزاق والمخاط ومن القذر كله. {ورضوان من الله}: أكبر، يعني رضي الله عنهم. {والله بصير بالعباد}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قل يا محمد للناس الذين زين لهم حبّ الشهوات، من النساء والبنين، وسائر ما ذكر جلّ ثناؤه: {أؤنبّئكم}: أأخبركم وأعلمكم، {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ}: بخير وأفضل لكم، {مِنْ ذَلِكُمْ}: مما زين لكم في الدنيا حبّ شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا.

ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام؛

فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله: {مِنْ ذَلِكُمْ}، ثم ابتدأ الخبر عما {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ} فقيل: للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فلذلك رفع «الجنات». ومن قال هذا القول، لم يُجِز في قوله: {جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ} إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدأ غير مردود على قوله ب"خير"، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم، ففيه إبانة عن معنى "الخير "الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس أؤنبئكم به؟ و"الجنات "على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عنْدَ رَبّهِمْ}.

وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول، إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التي في قوله «للذين» من صلة الإنباء، جاز في الجنات الخفض والرفع: الخفض على الردّ على «الخير»، والرفع على أن يكون قوله: {لِلّذِينَ اتّقُوا} خبر مبتدأ على ما قد بيناه قبل.

وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله: {عِنْدَ رَبّهِمْ} ثم ابتدأ: {جَنّاتٌ تَجرِي مِنْ تَحتِها الأنهَارُ} وقالوا: تأويل الكلام: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم، ثم كأنه قيل: ماذا لهم، أو ما ذاك؟ أو على أنه يقال: ماذا لهم أو ما ذاك؟ فقال: هو جنات تجري من تحتها الأنهار... الآية.

وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله: {بِخَيرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله: {لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِنْ جَنّاتٌ} فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر، وهو إبانة عن معنى الخير الذي قال: أؤنبئكم به؟ فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير.

{لِلّذِينَ اتّقَوْا}: للذين خافوا الله فأطاعوه، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. {عِندَ رَبّهِمْ}: لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم، والجنات: البساتين. {تَجرِي مِنْ تَحتِها الأنهَارُ}: من تحت الأشجار، وأن الخلود فيها دوام البقاء فيها، وأن الأزواج المطهرة: هن نساء الجنة اللواتي طهرن من كل أذى يكون بنساء أهل الدنيا من الحيض والمني والبول والنفاس وما أشبه ذلك من الأذى. {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ}: ورضا الله... وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير: رضوانه، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة. {وَاللّهُ بَصِيرٌ بالعِبادِ}: والله ذو بصر بالذي يتقيه من عباده، فيخافه فيطيعه، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعده للذين اتقوه على حب ما زين له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدد منها تعالى ذكره، وبالذي لا يتقيه فيخافه، ولكنه يعصيه، ويطيع الشيطان، ويؤثر ما زين له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال، على ما عنده من النعيم المقيم، عالم تعالى ذكره بكل فريق منهم، حتى يجازي كلهم عند معادهم إليه جزاءهم، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

بيَّن فضيلة أهل التقوى على أرباب الدنيا، فقال: هؤلاء لهم متابعة المُنَى وموافقة الهوى، وأولئك لهم الدرجات العُلى، والله بصير بالعباد؛ أنزل كل قوم مَنْزِلَه، وأوصله إلى ما لَهُ أَهَّل...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم، كما تقول: هل أدلك على رجل عالم؟ عندي رجل صفته كيت وكيت. ويجوز أن يتعلق اللام بخير. واختص المتقين، لأنهم هم المنتفعون به. {والله بَصِيرٌ بالعباد} يثيب ويعاقب على الاستحقاق، أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم، فلذلك أعدّ لهم الجنات...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

في هذه الآية تسلية عن الدنيا وتقوية لنفوس تاركيها، وذكر تعالى حال الدنيا وكيف استقر تزيين شهواتها، ثم جاء الإنباء بخير من ذلك، هازاً للنفوس وجامعاً لها لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن عقل، وأنبئ: معناه أخبر... {من تحتها}: من تحت أشجارها وعلوها من الغرف ونحوها.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل:

...

...

...

المسألة الثالثة: في وجه النظم وجوه: الأول: أنه تعالى لما قال: {والله عنده حسن المآب} [آل عمران: 14] بين في هذه الآية أن ذلك المآب كما أنه حسن في نفسه، فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا، فقال {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم}. الثاني: أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى {والآخرة خير وأبقى} [الأعلى: 17] الثالث: كأنه تعالى نبه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسنا منتظما إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل، والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم، فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا.

المسألة الرابعة: إنما قلنا: إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا، لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة، ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية، وأيضا فنعم الدنيا منقطعة لا محالة، ونعم الآخرة باقية لا محالة. {للذين اتقوا}: الإنسان لا يكون متقيا إلا إذا كان آتيا بالواجبات، متحرزا عن المحظورات، وقال بعض أصحابنا: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك، وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان، قال تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} [الفتح: 26] وظاهر اللفظ أيضا مطابق له، لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات، ومن الاتقاء عن بعض المحظورات، لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز، فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك، وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حمله عليه فكان قوله {للذين اتقوا} محمولا على كل من اتقى الكفر بالله. {للذين اتقوا عند ربهم} ففيه احتمالان: الأول: أن يكون ذلك صفة للخير، والتقدير: هل أنبئكم بخير من ذلاكم عند ربهم للذين اتقوا. والثاني: أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير: للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا، ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقيا عند الله تعالى، فيخرج عنه المنافق، ويدخل فيه من كان مؤمنا في علم الله.

وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب، كما قال تعالى: {فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف: 71]. {خالدين فيها}: والمراد كون تلك النعم دائمة. {وأزواج مطهرة ورضوان من الله}: وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن، ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب، فقال {مطهرة} ويدخل في ذلك: الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع، ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة، ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة...

{ورضوان من الله} وفيه مسألتان:

...

المسألة الثانية: قال المتكلمون: الثواب له ركنان أحدهما: المنفعة، وهي التي ذكرناها،

والثاني: التعظيم، وهو المراد بالرضوان، وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم، حامد لهم، مثن عليهم، أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع.

وأما الحكماء فإنهم قالوا: الجنات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية، والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية، وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية... {والله بصير بالعباد}: أي عالم بمصالحهم، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

نبه بهذه الآية على نعمه؛ فأدناها متاع الحياة الدنيا، وأعلاها رضوان الله تعالى لقوله تعالى: {ورضوان من الله أكبر}، وأوسطها الجنة ونعيمها...

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

معناه: أن الله تعالى أخبر أن ما عنده خير مما كان في الدنيا وإن كان محبوباً، فحثهم على ترك ما يحبون لما يرجون، ثم فسر لك الخير فقال تعالى: {جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر سبحانه وتعالى ما أوجب الإعراض عن هذا العرض فكان السامع جديراً بأن يقول فعلاً أقبل؟ أمر سبحانه وتعالى أقرب الخلق إليه وأعزهم لديه بجوابه لتكون البشارة داعية إلى حبه فقال: {قل} أي لمن فيه قابلية الإقبال إلينا، ولما أجرى سبحانه وتعالى هذه البشارة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لتقوم الحجة على العباد بحاله كما تقوم بمقاله من حيث إنه لا يدعو إلى شيء إلا كان أول فاعل له، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، لإيثاره الغائب المسموع من بناء الآخرة على العاجل المشهود من أثر الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه حين أشفق عليه من تأثير رمال السرير في جنبه فذكر ما فيه فارس والروم من النعيم:"أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟" شوق إليها بالاستفهام في قوله: {أؤنبئكم بخير من ذلكم} أي الذي ذكر من الشهوات، وعظمه بأداة البعد وميم الجمع لعظمته عندهم والزيادة في التعظيم ما يرشد إليه، ثم استأنف بيان هذا الخير بقوله: {للذين اتقوا} أي اتصفوا بالتقوى فكان مما أثمر لهم اتصافهم بها أن أعرضوا عن هذه الشهوات من حيث إنها شهوات وجعلوها عبادات واقية لهم من عذاب ربهم، فتلذذوا بالنساء لا لمجرد الشهوة بل لغض البصر من الجانبين وابتغاء ما كتب لهم من الولد إنفاذاً لمراد ربهم من تكثير خلائفهم في الأرض للإصلاح، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة "ونحو ذلك، وفرحوا بالبنين لا لمجرد المكاثرة بل لتعليمهم العلم وحملهم على الذكر والجهاد والشكر وأنواع السعي في رضى السيد، وحازوا النقدين لا للكنز، بل للإنفاق في سبيل الخيرات، وربطوا للجهاد، لا للفخر والرئاسة على العباد بل لقمع أولياء الشيطان ورفع أولياء الرحمن المسلتزم لظهور الإيمان، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم متشابه اقتنائها فقال: "وهي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر" ثم عظم سبحانه وتعالى ما لهم بقوله مرغباً بلفت القول إلى وصف الإحسان المقتضي لتربية الصدقات وغيرها من الأعمال الصالحات: {عند ربهم} أي المحسن إليهم بلباس التقوى الموجب لإيثارهم الآخرة على الدنيا، وقوله: {جنّات} مرفوع بالابتداء، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف إذا كان وللذين، متعلقاً بخير، ثم وصفها بقوله: {تجري من تحتها الأنهار} أي أن ماءها غير مجلوب، بل كل مكان منها متهيئ لأن ينبع منه ماء يجري لتثبت بهجتها وتدوم زهرتها ونضرتها، ثم أشار بقوله: {خالدين فيها} إلى أنها هي المشتملة على جميع الإحسان المغنية عن الحرث والأنعام، وأن ذلك على وجه لا انقطاع له. قال الحرالي: وفي معنى لفظ الخلود إعلام بسكون الأنفس إليها لما فيها من موافقتها انتهى. ولعله إنما خص من بين ما تقدم من الشهوات ذكر النسوان في قوله: {وأزواج} لأنها أعظم المشتهيات، ولا يكمل التلذذ بها إلا بحصول جميع ما يتوقف ذلك عليه، فصار ذكرهن على سبيل الامتنان من القادر كناية عن جميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. ولما كانت التقوى حاملة على تطهير الأنفس من أوضار الأدناس من الأوصاف السيئة وكان الوصف بالمفرد أدل على أنهن في أصل الطهارة كأنهن نفس واحدة قال عادلاً عما هو الأولى من الوصف بالجمع لجمع من يعقل: {مطهرة} لأنهن مقتبسات من أنفسهم {خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} [الروم:31]. ولما ذكر حظ البدن قرر لذة هذا النعيم بما للروح، وزاده من الأضعاف المضاعفة ما لا حد له بقوله: {و رضوان} قال الحرالي: بكسر الراء وضمها، اسم مبالغة في معنى الرضى، وهو على عبرة امتلاء بما تعرب عنه الألف والنون وتشعر ضمة رائه بظاهر إشباعه، وكسرتها بباطن إحاطته -انتهى. ولما جرى وعد الجنات على اسم الربوبية الناظر إلى الإحسان بالتربية فخم أمر هذا الجزاء وأعلاه على ذلك بنوطه بالاسم الأعظم فقال: {من الله} أي المحيط بصفات الكمال. ولما كان شاملاً لجميعهم وكان ربما ظن أنهم فيه متساوون أشار إلى التفاوت بقوله مظهراً في موضع الإضمار إشارة إلى الإطلاق عن التقييد بحيثية ما: {والله} أي الذي له الحكمة البالغة {بصير بالعباد} أي بنياتهم ومقادير ما يستحقونه بها على حسب إخلاصها، وبغير ذلك من أعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

قال الأستاذ الإمام في تفسير الرضوان في الآية: وأكبر من هذه اللذات كلها رضوان الله تعالى، وهذا يدلنا على أن أهل الجنة طبقات ومراتب كما نراهم في الدنيا فمن الناس من لا يفهم معنى رضوان الله تعالى ولا يكون باعثا له على ترك الشر ولا على فعل الخير، وإنما يفهمون معنى اللذات الحسية التي جربوها فكانت أحسن الأشياء موقعا من نفوسهم، فهم فيها يرغبون ولأجلها يعملون، ولكن جميع المتقين يعرفون في الآخرة هذه اللذة التي لم يكونوا يعقلون لها معنى في الدنيا. {والله بصير بالعباد} قال الأستاذ الإمام رحمه الله: ختم الآية بهذه الجملة للإشعار بأنه ليس كل من ادعى التقوى في نفسه أو بلسانه يكون متقيا. وإنما المتقي عند الله هو من يعلم منه التقوى، وفي هذا تنبيه للناس وإيقاظ لمحاسبة نفوسهم على التقوى لئلا يغشهم العجب بأنفسهم فيحسبوها متقية وما هي بمتقية...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فأما من أراد الذي هو خير.. خير من ذلك كله. خير لأنه أرفع في ذاته. وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات، والانكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء.. من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير. وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات: (قل: أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار -خالدين فيها- وأزواج مطهرة، ورضوان من الله، والله بصير بالعباد).. وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا، ويؤمر الرسول [ص] أن يبشر به المتقين، هو نعيم حسي في عمومه.. ولكن هنالك فارقا أساسيا بينه وبين متاع الدنيا.. إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا. الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم. وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعا. شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات، وأن تنساق فيها كالبهيمة. فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس! وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة! ويرتفعون بالتطلع إليه -وهم في هذه الأرض- قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله.. وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا.. وفيه زيادة.. فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثا معطيا مخصبا، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار. وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها، لا كالحرث المحدود الميقات! وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين، ففي الآخرة أزواج مطهرة. وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة! فأما الخيل المسومة والأنعام. وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع. فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات! ثم.. هنالك ما هو أكبر من كل متاع.. هنالك (رضوان من الله). رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما.. ويرجح.. رضوان. بكل ما في لفظه من نداوة. وبكل ما في ظله من حنان. (والله بصير بالعباد).. بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع. بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات. بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف بياني، فإنّه نشأ عن قوله: {زين للناس} [آل عمران: 14] المقتضي أنّ الكلام مسوق مساق الغضّ من هذه الشهوات. وافتتح الاستئناف بكلمة {قل} للاهتمام بالمقول، والمخاطب بقل النبي صلى الله عليه وسلم والاستفهام للعرض تشويقاً من نفوس المخاطبين إلى تلقّي ما سيقصّ عليهم كقوله تعالى: {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10] الآية...

لأنّ لذة البنين ولذة المال هنالك مفقودة، للاستغناء عنها، وكذلك لذة الخيل والأنعام؛ إذ لا دوابّ في الجنة، فبقي ما يقابل النساء والحرث، وهو الجنّات وَالأزواج، لأنّ بهما تمام النعيم والتأنّس، وزيد عليهما رضوان الله الذي حرُمه من جعل حظّه لذّات الدنيا وأعرض عن الآخرة. ومعنى المطهّرة المنزّهة ممّا يعتري نساء البشر ممّا تشمئزّ مِنه النفوس، فالطهارة هنا حسية لا معنوية. وعطف {رضوانٌ من الله} على ما أعدّ للذين اتّقوا عند الله: لأنّ رضوانه أعظم من ذلك النعيم المادي؛ لأنّ رضوان الله تقريب رُوحاني قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72]. وأظهر اسم الجلالة في قوله: {ورضوان من الله}، دون أن يقول ورضوان منه أي من ربّهم: لما في اسم الجلالة من الإيماء إلى عظمة ذلك الرضوان. {والله بصير بالعباد}: أي أنّه عليم بالذين اتّقوا ومراتبِ تقواهم، فهو يجازيهم، ولتضمّن بصير معنى عليم عدي بالباء. وإظهار اسم الجلالة في قوله: {واللَّه بصير بالعباد} لقصد استقلال الجملة لتكون كالمَثَل...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{قل أؤنبئكم بخير من ذلكم}: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ يكلفه جل شانه إن يوجه إليهم ذلك السؤال لينبههم إلى عظيم شأن ما أخره لهم سبحانه من نعيم مقيم إن أحسنوا؛ فالاستفهام للتنبيه؛ وقد حوى من طرق التنبيه ثلاثة: أولها:التعبير ب {أؤنبئكم}؛ لأن الإنباء معناه الخبر العظيم الخطير الشأن. وثانيها:التعبير ب {ذلكم} بالإشارة للبعيد للدلالة على عظيم شأن ما سيخبرهم به، وبالتعبير ب"كم" كأنه يدعوهم جميعا ليستمعوا إلى ما سيخبرهم به. وثالثها:التعبير ب"خير" للدالة على الأفضلية، وأن نعيم الجنة خير لا شر فيه قط،وأن نعيم الدنيا لا يخلو من شر...

وبعد؛ إن كان الاستفهام الذي سيق للتنبيه كان الجواب هو: {للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله} هذه متع الآخرة، وهي أعلى مقاما، وأعظم مكانا من نعيم الدنيا، وهي أربعة: أولها: {جنات تجري من تحتها الأنهار}، وفي هذه الجنات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت،ولا خطر على قلب بشر. وثانيها: الخلود، وهو نعمة وحده، فكل ما في الدنيا عرض زائل يعروه الفناء، وما في الآخرة دائم البقاء. وثالثها: {وأزواج مطهرة} لا دنس فيها، ولا ما يشينهن أو يوجد الريب،فلا معكر من شر أو ما يشبهه. ورابعها: وهو أعظمها بل أعظم ما في الوجود، وهو {ورضوان من الله} أي رضا عظيم من خالق الخلق، ومبدع الكون ومنشئ الوجود، فالرضوان مصدر كالرضا،ولكن يزيد عليه أنه الرضا العظيم؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولأن التنكير قصد به التفخيم والتعظيم، ولأن إبهامه ثم بيان مصدره فيه إشارة إلى شرف هذا الرضا بإضافته لأعظم نسبة إذ هو منسوب إلى الله جل جلاله. {والله بصير بالعباد}: أي أن الله سبحانه جل جلاله عليم بأحوال العباد علم من يبصر ويرى، فهو يعلم دقائق أحوالهم وخفى أمورهم، وخلجات قلوبهم. وصدر سبحانه القول بلفظ الجلالة لتربية المهابة في القلوب، وإشعارها بعظمته. وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بخفي أحوالهم، فإنه سيجزى المحسن إحسانا، والمسيء عقابا؛ فهذه الجملة السامية فيها وعد ووعيد، وفيها إشعار برقابة العلي القدير، مما يجعل المؤمن التقي يشعر دائما بأن الله يراه، وإن لم يكن هو يراه.