الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٖ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (15)

قوله تعالى : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيقِ الأولى وتسهيل الثانية بينَ بينَ ، على ما عُرِفَ من قواعدهم في أول البقرة ، والباقون بالتخفيف فيهما . ومَدَّ بين هاتين الهمزتين بلا خلاف قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن بان عامر بخلاف عنهما ، والباقون بغير مد ، وهم على أصولِهم من تحقيقٍ وتسهيل ، وورش على أصلِه من نَقْلِ حركة الهمزة إلى لام " قل " .

واعلم أنه لا بُدَّ مِنْ ذِكْر اختلاف القراء في هذه اللفظةِ وشِبْهها وتحريرِ مذاهبهم فإنه موضعٌ عَسِرُ الضبط فأقول بعونِ الله تعالى : الواردُ من ذلك القرآن الكريم ثلاثةُ مواضعَ :

أعني همزتين أولاهما مفتوحةٌ والثانيةُ مضمومة من كلمةٍ واحدة ، الأولُ هذا الموضعُ ،

والثاني في ص : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ،

الثالث في القمر : { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ }[ القمر : 25 ] .

والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتبَ :

إحداها : مرتبة قالون ، وهي تسهيلُ الثانيةِ بينَ بينَ ، وإدخالُ ألفٍ بين الهمزتين بلا خلافٍ كذا رواه عن نافع .

الثانية : مرتبة ورش وابن كثير ، وهي تسهيلُ الثانية أيضاً بينَ بينَ من غيرِ إدخال ألف بين الهمزتين بلا خلافٍ كذا روى ورش عن نافع .

الثالثة : مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غيرِ إدخال ألف بلا خلاف ، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر . الرابعة : مرتبةُ هشام ، وهي أنه رُوي عن ثلاثة أوجه : الأولُ التحقيقُ وعدمُ إدخالِ ألف بين الهمزتين في ثلاث السور . الوجه الثاني : التحقيقُ وإدخال ألف بينهما في ثلاث السور . والوجه الثالث : التفرقةُ بين السور الثلاث ، وهو أنه يُحَقِّق ويَقْصُر في هذه السورة ، ويُسَهِّل ويَمُدُّ في السورتين الأُخْرَيَين .

الخامسة : مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخالِ الألف وعدمه . واجتزأْتُ عن تعليل التخفيف والمد والقصر واعزاً كلَّ واحد منها

إلى لغةِ مَنْ تكلم به بما قدمته في أول البقرة ، ولله الحمد .

ونقل أبو البقاء أنه قُرىء : " أَوُنَبِّئكم " بواو خالصة بعد الهمزة لانضمامها ، وليس ذلك بالوجهِ . وفي قوله " أؤنبئكم " التفاتٌ من الغَيْبَةِ في قوله :

" للناس " إلى الخطاب تشريفاً لهم .

قوله : { بِخَيْرٍ } متعلقٌ بالفعل ، وهذا الفعلُ لَمَّا لم يُضَمَّنْ معنى " أَعْلم " تعدَّى لاثنين ، الأولُ تعدَّى إليه بنفسه وإلى الثاني بالحرف ، ولو ضُمِّن معناها لتعدَّى إلى ثلاثة .

و{ مِّن ذلِكُمْ } متعلِّقٌ بخير ؛ لأنه على بابِه من كونِه أَفْعَلَ تفضيلٍ ، والإِشارةُ بذلكم إلى ما تقدَّم من ذكرِ الشهوات ، وتقدَّم تسويغُ الإِشارة بالمفرد إلى الجمع . ولا يجوزُ أن تكونَ " خير " ليست للتفضيل ، ويكونُ المرادُ به خيراً من الخيور ، وتكون " مِنْ " صفةً لقولِه : " خير " . قال أبو البقاء : " مِنْ " في موضِع نصبٍ بخير تقديرُه : بما يَفْضُل ذلك ، ولا يجوز أَنْ تكونَ صفةً لخير ؛ لأن ذلك يوجبُ أن تكونَ الجنةُ وما فيها مِمَّا رَغِبوا فيه بعضاً لِما زهدوا فيه من الأموال ونحوها " وتابعه على ذلك الشيخ " .

قوله : { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } [ يجوز فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه متعلق بخير ، ويكونُ الكلامُ قد تَمَّ هنا ] ويرتفعُ " جنات " على خبر مبتدأ محذوفٍ

تقديرُه : هو جنات ، أي : ذلك الذي هوخيرٌ مِمَّا تقدم جناتٌ ، والجملةُ بيانٌ وتفسيرٌ للخيريَّة ، ومثلُه : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ } ثم قال :

{ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الحج : 73 ] ، ويؤيد ذلك قراءة " جنات " بكسر التاء على أنها بدل من " بخير " فهي بيانٌ للخير . والثاني : أن الجارَّ خبرٌ مقدم ، و " جنات " مبتدأٌ مؤخرٌ ، أو يكونُ " جناتٌ " فاعلاً بالجار قبله ، وإنْ لم يعتمد عند مَنْ يرى ذلك . وعلى هذين التقديرين فالكلامُ تَمَّ عند قولِه : " من ذلكم " ، ثم ابتدأ بهذه الجملة وهي أيضاً مبيِّنةٌ ومفسرةٌ للخيرية .

وأمَّا الوجهان الآخران فذكرهما مكي مع جر " جنات " ، يعني أنه لم يُجِز الوجهين ، إلا إذا جَرَرْتَ " جنات " بدلاً مِنْ " بخير " . الوجه الأول : أنه متعلقٌ بأؤنبئكم . الوجه الثاني : أنه صفةٌ لخير . ولا بُدَّ من إيرادِ نصه فإنَّ فيه إشكالاً .

قال رحمه الله : بعد أن ذَكَرَ أنَّ " للذين " خبرٌ مقدم و " جناتٌ " مبتدأ " ويجوزُ الخفضُ في " جنات " على البدلِ من " بخير " على أن تَجْعَلَ اللام في " للذين " متعلقةً بأؤنبئكم ، أو تجعلَها صفةً لخير ، ولو جَعَلْتَ اللامَ متعلقةً بمحذوفٍ قامَتْ مقامَه لم يَجُزْ خَفْضُ " جنات " ؛ لأن حروفَ الجرِّ والظروفَ إذا تعلَّقت بمحذوفٍ ، وقامَتْ مقامَه صار فيها ضميرٌ مقدرٌ مرفوعٌ ، واحتاجت إلى ابتداءٍ يعودُ إليه ذلك الضميرُ كقولك : " لزيدٍ مالٌ ، وفي الدار رجلٌ وخلفَك عمروٌ " فلا بُدَّ من رفع " جنات " إذا تعلَّقت اللامُ بمحذوف ، ولو تعلَّقت بمحذوف على أَنْ لا ضميرَ فيها لرفَعْتَ " جنات " بفعلِها ، وهو مذهبُ الأخفشِ في رفعهِ ما بعدَ الظروفِ وحروفِ الخفض بالاستقرار ، وإنما يَحْسُن ذلك عند حُذّاق النحويين إذا كانت الظروفُ أو حروفُ الخفضِ صفةً لما قبلها ، فحينئذٍ يتمكَّن ويَحْسُن رَفْعُ الاسمِ بالاستقرار ، وقد شرحنا لك وبَيَّنَّاه في أمثلة ، وكذلك إذا كانت أحوالاً

[ مِمّا قبلها ] " انتهى . فقد جَوَّز تعلُّق هذه اللام بأونبئكم أو بمحذوف على أنها صفةٌ لخير بشرط أن تُجَرَّ " جنات " ، على البدلِ من " بخير " ، وظاهرُه أنه لا يجوزُ ذلك مع رفعِ " جنات " وعَلَّل ذلك بأنَّ حروفَ الجر تُعَلَّقُ بمحذوفٍ وتُحَمَّلُ الضميرَ ، فوجَب أن يؤتى له بمبتدأ وهو " جنات " ، وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزَمُ ، إذ لقائلٍ أن يقولَ : أُجُوِّزُ تعليقَ اللام بما ذكرْتُ من الوجهين مع رفع " جنات " على أنَّها خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، لا على الابتداءِ حتى يلزَم ما ذكرْتُ .

ولكنْ الوجهانِ ضعيفان من جهةٍ أخرى : وهو أنَّ المعنى ليس واضحاً على ما ذكر ، مع أنَّ جَعْلَه أنَّ اللامَ صفةٌ لخير أقوى مِنْ جَعْلها متعلقةً بأؤنبئكم إذ لا معنى له . وقوله : " في الظروف وحروفِ الجر أنها عند الحُذَّاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفاتٍ " وقوله : " وكذلك إذ كُنَّ أحوالاً " فيه قصورٌ ؛ لأنَّ هذا الحكمَ مستقرٌ لها في مواضعَ ، منها الموضعان اللذان ذكرهما . ثالثهما : أن يقَعا صلةً . رابعها : أن يقعا خبراً لمبتدأ . خامسها : أن يعتمدا على نفي . سادسها : أن يعتمدا على استفهامٍ ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا ، وإنَّما أَعدْتُه لبُعْدِ عَهْدِهِ .

قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه أربعةُ أوجه :

أحدُها : أنه في محل نصبٍ على الحال من " جنات " لأنه في الأصل صفةٌ لها ، فلمَّا قُدِّم نُصِبَ حالاً .

الثاني : أنه متعلِّقٌ بما تَعَلَّق به " للذين " من الاستقرار إذا جعلناه خبراً أو رافعاً لجنات بالفاعلية ، أمَّا إذا علَّقْتَه ب " خيرٍ " أو ب " أؤنبئكم " فلا ، لعدمِ تضمُّنه الاستقرارَ .

الثالث : أن يكونَ معمولاً لتجري ، وهذا لا يساعِدُ عليه المعنى .

الرابع : أنه متعلِّق بخير ، كما تعلَّق به " للذين " على قولٍ تقدَّم . ويَضْعُفُ أن يكونَ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه " للذين اتقوا " ثم يُبْتدأ بقوله : { عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ } على الابتداء والخبرِ ، وتكون الجملة مبينةً ومفسرةً للخيرية كما تقدَّم في غيرها .

وقرأ يعقوب " جنات " بكسر التاء ، وفيها ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها بدلٌ من لفظ " خير " فتكونُ مجرورةً ، وهي بيانٌ له كما تقدم . والثاني أنها بدلٌ من محل " بخير " ومحلُّه النصب ، وهو في المعنى كالأول/ . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار أعني ، وهو نظيرُ الوجهِ الصائرِ إلى رفعه على خبر ابتداءٍ مضمرٍ .

قوله : { تَجْرِي } صفةٌ لجنات ، فهو في محلِّ رفعٍ أو نصب أو جر على حَسَب القراءتين والتخاريج فيهما . و { مِن تَحْتِهَا } متعلِّقٌ بتجري ، وجَوَّز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الأنهار قال : " أي : تَجْرِي الأنهارُ كائنةً تحتها " ، وهذا يُشْبِهُ تهيئة العاملِ للعمل في شيء وقَطْعَه عنه .

قوله : { خَالِدِينَ } حالٌ مقدَّرة ، وصاحبُها الضميرُ المستكِنُّ في " للذين " والعاملُ فيها حينئذٍ الاستقرارُ المقدَّرُ . وقال أبو البقاء : " إنْ شِئْتَ من الهاء في " تحتها " . وهذا الذي ذكره إنما يتمشَّى على مذهبِ الكوفيين ، وذلك أنَّ جَعْلَها حالاً من " ها " في " تحتها " يؤدِّي إلى جريان الصفةِ على غيرَ مَنْ هي له في المعنى ، لأن الخلودَ من أوصافِ الداخلين في الجنةِ لا مِنْ أوصافِ الجنة ، ولذلك جَمَعَ هذه الحال جَمْعَ العقلاء ، فكان ينبغي أن يُؤتى بضميرٍ مرفوعٍ بارز ، هو الذي كان مستتراً في الصفةِ ، نحو : " زيدٌ هندٌ ضاربها هو " ، والكوفيون يقولون : إنْ أُمِنَ اللَّبْس كهذا لم يجب بروزُ الضميرِ ، وإلاَّ يجبْ ، والبصريون لا يُفَرِّقون ، وتقدَّم البحثُ في ذلك .

قوله : { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ } مَنْ رفع " جنات " كما هو المشهورُ كان عَطْفُ " أزواج " و " رضوان " سهلاً . ومَنْ كسر التاء فيجب حينئذٍ على قراءته أن يكونَ مرفوعاً على أنه مبتدأٌ خبرُه مضمرٌ ، تقديرُه : ولهم أزواجٌ ولهم رضوان ، وتقدَّمَ الكلامُ على { أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } في

[ البقرة : 25 ] .

وفي " رضوان " لغتان : ضَمُّ الراءِ وهي لغةُ تميم ، والكسرُ وهي لغةُ الحجاز ، وبها قَرَأ العامة إلا أبا بكر عن عاصم فإنه قرأ بلغة تميم في جميع القرآن ، إلا في الثانية مِنْ سورة المائدة ، وهي : { مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ } [ الآية : 16 ] فبعضُهم نَقَل عنه الجزَم بكسرها ، وبعضُهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة .

وهل هما بمعنًى واحدٍ أو بينهما فرقٌ ؟ قولان ، أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحدٍ لرَضي يَرْضَى . والثاني : أنَّ المكسور اسم ومنه : رِضْوان خازنُ الجنة صلى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته ، والمضمومُ هو المصدر . و " مِن الله " صفةٌ لرضوان .