فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞قُلۡ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيۡرٖ مِّن ذَٰلِكُمۡۖ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَأَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (15)

{ أؤنبئكم } هل أخبركم ؟ . { رضوان } رضا العظيم .

{ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم . . . }وقالت فرقة : المزين هو الشيطان وهو ظاهر قول الحسن فإنه قال : من زينها ؟ ما أحد أشد لها ذما من خالقها فتزيين الله تعالى إنما هو الإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها . والآية على كل الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم . . واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة-{[871]} .

عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ){[872]} فكان المعنى الجنة لا تنال إلا بحبس النفس على مطالب الحق والصبر على ذلك وما يردي المكلف في جهنم من اتباع الهوى ومطاوعة النفس فيما تشتهيه { من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } ، { من } لبيان الجنس فالشهوات منها الميل إلى النساء ومنها حب الذكور من الذرية تكاثرا بهم ومنها حب جمع وتملك الأوزان التي تبلغ القناطير المضاعفة الكثيرة من الذهب ومن الفضة إذ بتملكها ووفرتها تتحقق الرغائب وتدرك الأماني والمطالب إلا أن يشاء الله ، ومن الشهوات التي تهفو إليها نفوس الكثيرين تملك الأفراس والحقول وما يحرث ويزرع . { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } هذه الزينات الحائلة والمتع العاجلة لا تلبث أن تفارق من تملكوها أو يفارقوها لكن ما أعد الله الغني الشكور للمتاجرين معه تجارة لا تبور الذين يبتغون فيما آتاهم ربهم الدار الآخرة -ما أعد هؤلاء الذاكرين الشاكرين خير وأبقى ؛ وإنما يذم التعلق بهذه الشهوات إذا ألهت عن الوفاء بحق الله ، وإلا فهي من الحلال الطيب . وصدق الله العظيم { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة . . }{[873]} فالنساء جاء الكتاب العزيز بشرعة الزواج منهن { . . فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم . . }{[874]} . كما جاءت السنة الصحيحة بالدعاء لمن أحسن اختيار الفضلى منهن ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( عليك بذات الدين تربت يداك ) لكن الكثيرات منهن حبائل الشيطان ففي الصحيحين عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال ( ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء ) . والأبناء الأتقياء بركة على أنفسهم وعلى والديهم ومن هنا كان من ضراعة الرسل الكرام إلى ربنا الكريم الوهاب : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء . . }{[875]} ، { . . فهب لي من لدنك وليا }{[876]} . وعلمنا القرآن من دعاء عباد الرحمن { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين . . }{[877]} وأما حين لا يصلحون فهم العدو المبين وصدق الله العظيم ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم . . }{[878]} . يقال : في النساء فتنتان وفي الأولاد فتنة واحدة ، فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الرحم ، لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات ، والثانية يبتلى بجمع المال من الحرام والحلال . وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة ، وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم . أقول وفي الذكر العزيز : { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون }{[879]} . وفي الكتاب المجيد كذلك { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم }{[880]} وأما حب المال الكثير فلا وزر فيه إذا جمع من الحلال ، وأنفق في مرضاة ربنا ذي الجلال { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء . . . }{[881]} ، ونعم المال الصالح للعبد الصالح ؛ لكن الاغترار به والركون إليه يحمل على البغي والطغيان { إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى }{[882]} بل يطغى على العقول والقلوب حتى تستحب العمي على الهدى وهكذا فتن صاحب الجنتين { . . قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن هذه الساعة قائمة . . }{[883]} { يحسب أن ماله أخلده }{[884]} ، وأما الخيل فقد أمرنا بإعدادها لتكون عونا لجند الحق المؤمنين وسبيلا لخذلان المبطلين يقول مولانا وهو أصدق القائلين { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . }{[885]} ، وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الخيل معقودة في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم ) وفي رواية ( الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها قطعت كيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له فهو لذلك الرجل أجر ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر ) ، أي مناوأة لأهل الحق وغلبة على حقوقهم " رواه البخاري في الجهاد والتفسير وغيرهما ورواه مسلم في الزكاة .

{ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة }- منتهى الاستفهام عند قوله { من ذلكم } و{ للذين اتقوا } خبر مقدم و{ جنات } رفع بالابتداء . . قال ابن عطية وهذه الآية والتي قبلها نظير قوله عليه السلام ( تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك ) أخرجه مسلم وغيره ، فقوله ( فاظفر بذات الدين ) مثل لهذه الآية وما قبل مثال للأولى فذكر تعالى وهو أنه إذا دخل أهل الجنة يقول الله تعالى لهم ( تريدون شيئا أزيدكم ) ؟ فيقولون يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا " رضاي فلا أسخط بعده أبدا " أخرجه مسلم . وفي قوله تعالى { والله بصير بالعباد } وعد ووعيد-{[886]} :


[871]:ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن.
[872]:رواه مسلم في صحيحه.
[873]:سورة الأعراف من الآية 32.
[874]:سورة النساء من الآية 3.
[875]:سورة آل عمران من الآية 38.
[876]:سورة مريم من الآية 5.
[877]:سورة الفرقان من الآية 74.
[878]:سورة التغابن من الآية 14.
[879]:سورة المنافقون الآية 9.
[880]:سورة التغابن الآيات 15-16-17.
[881]:سورة البقرة من الآية 161.
[882]:سورة العلق من الآية 6 والآية7.
[883]:سورة الكهف من الآية 35 ومن الآية 36.
[884]:سورة الهمزة الآية 3.
[885]:سورة الأنفال من الآية 60.
[886]:من الجامع لأحكام القرآن.