قوله تعالى : { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } . قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم والنخعي وقتادة : هذا في الصلاة يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي ، أنا هناد ، أنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض ، فقال : " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب " . وقال سائر المفسرين : أراد به المداومة على الذكر في عموم الأحوال لأن الإنسان قلما يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث ، نظيره في سورة النساء ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم ) .
قوله تعالى : { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } . وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله ويعرفوا أن لها صانعاً قادراً مدبراً حكيماً ، قال ابن عنوان : الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النماء ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفكرة .
قوله تعالى : { ربنا } . أي ويقولون ربنا .
قوله تعالى : { ما خلقت هذا } . رده إلى الخلق فلذلك لم يقل هذه .
قوله تعالى : { باطلاً } . أي عبثاً وهزلاً بل خلقته لأمر عظيم ، وانتصب " باطلا " بنزع الخافض أي بالباطل .
ثم وصف أولي الألباب بأنهم { يذكرون الله } في جميع أحوالهم : { قياما وقعودا وعلى جنوبهم } وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب ، ويدخل في ذلك الصلاة قائما ، فإن لم يستطع فقاعدا ، فإن لم يستطع فعلى جنب ، وأنهم { يتفكرون في خلق السماوات والأرض } أي : ليستدلوا بها على المقصود منها ، ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين ، فإذا تفكروا بها ، عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا ، فيقولون : { ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك } عن كل ما لا يليق بجلالك ، بل خلقتها بالحق وللحق ، مشتملة على الحق .
{ فقنا عذاب النار } بأن تعصمنا من السيئات ، وتوفقنا للأعمال الصالحات ، لننال بذلك النجاة من النار .
ثم وصف - سبحانه - أولى الألباب بصفات كريمة فقال : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } .
فقوله { الذين يَذْكُرُونَ } إلخ . فى موضع جر على أنه نعت لأولى الألباب . ويجوز أن يكون فى موضع رفع أو نصب على المدح .
أى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } لآيات واضحات على وحدانية الله وقدرته ، لأصحاب العقول السليمة ، الذين من صفاتهم أنهم { يَذْكُرُونَ الله } أى يستحضرون عظمته فى قلوبهم ، ويكثرون من تسبيحه وتمجيده بألسنتهم ، ويداومون على ذلك فى جميع أحوالهم . فهم يذكرونه قائمين ، ويذكرونه قاعدين . ويذكرونه وهم على جنوبهم فالمراد بقوله { قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } أن ذكرهم الله - تعالى - بقلوبهم وألسنتهم يستغرق عامة أحوالهم " .
وقوله { قِيَاماً وَقُعُوداً } منصوبان على الحالية من ضمير الفاعل فى قوله : { يَذْكُرُونَ } .
وقوله { وعلى جُنُوبِهِمْ } متعلق بمحذوف معطوف على الحال أى : وكائنين على جنوبهم أيى مضطجعين .
ثم وصفهم سبحانه وتعالى بوصف آخر فقال : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } أى أن من صفات هؤلاء العباد أصحاب العقول السليمة أنهم يكثرون من ذكر الله - تعالى - ، ولا يكتفون بذلك ، بل يضيفون إلى هذا الذكر والتدبر والتفكر فى هذا الكون وما فيه من جمال الصنعة ، وبديع المخلوقات ، ليصلوا من رواء ذلك إلى الإيمان العميق ، والإذعان التام ، والاعتراف الكامل بواحدانية الله .
فإن من شأن الأخيار من الناس أنهم يتفكرون فى مخلوقات الله وما فيها من عجائب المصنوعات ، وغرائب المبتدعات ، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع - سبحانه - ، فيعلموا أن لهذا الكون قادراً مدبراً حكيما ، لأن عظم آثاره وأفعاله ، تدل على عظم خالقها .
ولقد ذكر العلماء كثيرا من الأقوال التى تحض على التفكير السليم ، وعلى التدبر فى عجائب صنع الله ، ومن ذلك قول سليمان الدارانى : " إنى أخرج من بيتى فما يقع بصرى على شىء إلا رأيت لله على فيه نعمة ، ولى فيه عبرة " ، وقال الحسن البصرى : " تفكر ساعة خير من قيام ليلة " .
وقال الفخر الرازى : دلائل التوحيد محصورة فى قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس . ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم ، كما قال - تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنه فى هذه الآية بالفكر فى خلق السموات والأرض ، لأن دلالتها أعجب . وشواهدها أعظم " .
وقد وبخ - سبحانه - الذين يرون العبر فلا يعتبرون ، وتمر أمامهم العظات فلا يتعظون ولا يتفكرون فقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } ثم حكى - سبحانه - ثمرات ذكرهم لله وتفكرهم فى خلقه فقال : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
أى أنهم بعد أن أذعنت قلوبهم للحق ، ونطقت ألسنتهم بالقول الحسن ، وتفكرت عقولهم فى بدائع صنع الله تفكيرا سليما ، استشعروا عظمة الله استشعاراً ملك عليهم جوراحهم ، فرفعوا أكف الضراعة إلى الله بقولهم :
يا ربنا إنك ما خلقت هذا الخلق البديع العظيم الشأن عبثاً ، أو عاريا من الحكمة . أو خالياً من المصلحة ، { سُبْحَانَكَ } أى ننزهك تنزيها تاما عن كل ما لا يليق بك { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أى فوفقنا للعمل بما يرضيك ، وأبعدنا عن عذاب النار .
وقوله { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } إلخ جملة واقعة موقع الحال على تقدير قوله أى يتفكرون قائلين ربنا . لأن هذا الكلام اريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء .
وقوله : باطلا صفة لمصدر محذوف أى خلقاً باطلاً ، أو حال من المفعول والمعنى يا ربنا ما خلقت هذا المخلوق العظيم الشأن عاريا عن الحكمة ، خالياً من المصلحة ، بل خلقته مشتملا على حكم جليلة ، منتظما لمصالح عظيمة .
وكان نداؤهم لخالقهم - عز وجل - بلفظ { رَبَّنَآ } اعترافا منهم بأنه هو مربيهم وخالقهم فمن حقه عليهم أن يفردوه بالعبادة والخضوع .
وسبحان اسم مصدر بمعنى التسبيح أى التنزيه ، وهو مفعول بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه أى ، تنزهت ذاتك وتقدست عن كل ما لا يليق ، وجىء بفاء التعقيب فى حكاية قولهم { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } لأنه ترتب على اعتقادهم بأنه سبحانه - لم يخلق هذا عبثاً - أن هناك ثواباً وعقاباً ، فسألوا الله - تعالى - أن يجعلهم من أهل الجنة لا من أهل النار .
ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ؟ وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ؟ وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف :
( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار ) . .
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون ، بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح ؛ الذي لا تفتأ صفحاته تقلب ، فتتبدى في كل صفحة آية موحية ، تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب ، وفي " تصميم " هذا البناء ، ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق ، ومودعه هذا الحق ، مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان ! ! ! وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ؛ ولا يقيمون الحواجز ، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، فتتفتح بصائرهم ، وتشف مداركهم ، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه ، وتدرك غاية وجوده ، وعلة نشأته ، وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
ومشهد السماوات والأرض ، ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف ، وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا ، ولاهتزت له مشاعرنا ، ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ؛ ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ؛ ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف . . وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا ، ولا يمكن أن يكون جزافا ، ولا يمكن أن يكون باطلا .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار ، ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى " الجاذبية " أو غير الجاذبية . . هذه فروض تصح أو لا تصح ، وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية ، واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . . وهذه النواميس - أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة ، وآية الحق ، في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا ، وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي ، يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح ، في التعامل مع الكون ، وفي التخاطب معه بلغته ، والتجاوب مع فطرته وحقيقته ، والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب " معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله ، وبما تبدعه يد الله .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته : ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) . . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة ، ويجعله جانبا من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين .
الحقيقة الأولى : أن التفكر في خلق الله ، والتدبر في كتاب الكون المفتوح ، وتتبع يد الله المبدعة ، وهي تحرك هذا الكون ، وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة ، وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية ، التي تبحث في تصميم الكون ، وفي نواميسه وسننه ، وفي قواه ومدخراته ، وفي أسراره وطاقاته . . لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره ، والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر ، يقطع ما بين الكون وخالقه ، ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ؛ ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان ، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة ، وإلى حياة قلقة مهددة ، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار !
والحقيقة الثانية : أن آيات الله في الكون ، لا تتجلى على حقيقتها الموحية ، إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح . . فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا ، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار ، ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد ، وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف !
فهما أمران متلازمان ، تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب ، وشفافية الروح ، وتفتح الإدراك ، واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال ، ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر ؛ وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، ملهما للحقيقة الكامنة فيها ، ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة ، للخطة الواصلة .
( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! ) . .
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا . ولكن ليكون حقا . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة ، فهو ليس " عدما " كما تقول بعض الفلسفات ! وهو يسير وفق ناموس ، فليس متروكا للفوضى . وهو يمضي لغاية ، فليس متروكا للمصادقة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى ، التي تمس قلوب ( أولي الألباب ) من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون ، فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا :
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } كما ثبت في صحيح البخاري عن عِمْران بن حُصَين ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صَلِّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لَم تستطع فَعَلَى جَنْبِكَ{[6362]} {[6363]} أي : لا يقطعون ذِكْره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : يفهمون ما فيهما من الحكَم الدالة على عظمة الخالق وقدرته ، وعلمه وحكمته ، واختياره ورحمته .
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرجُ من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة ، أوْ لِي فيه عِبْرَة . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب " التفكر{[6364]} والاعتبار " .
وعن الحسن البصري أنه قال : تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة . وقال الفُضَيل : قال الحسن : الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك . وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك . وربما تمثل بهذا البيت :
إذا المرء كانت له فكْرَةٌ *** ففي كل شيء له عبرَة
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا ، وصَمْته تَفكُّرًا ، ونَظَره عبرًا .
وقال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة ، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة .
وقال وهب بن مُنَبِّه : ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم ، وما{[6365]} فهم امرؤ قط إلا علم ، وما علم امرؤ قط إلا عمل .
وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله ، عز وجل ، حَسَن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة .
وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه ، قد ذهب عقله .
وقال عبد الله بن المبارك : مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة ، فناداه فقال : يا راهب ، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر ، كنز الرجال وكنز الأموال .
وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه ، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها ، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهْلُك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .
وعن ابن عباس أنه قال : ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر ، خير من قيام ليلة والقلب ساه{[6366]} .
وقال الحسن : يا ابن آدم ، كُلْ في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة .
وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة .
وقال بِشْر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه .
وقال الحسن ، عن عامر بن عبد قيس قال : سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان ، أو نور الإيمان ، التفكر .
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : يا ابن آدم الضعيف ، اتق الله حيثما كنت ، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا ، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا ، وعَلِّم عينيك البكاء ، وجَسَدك الصَّبْر ، وقلبك الفِكْر ، ولا تهتم برزق غد .
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، أنه بكى يوما بين أصحابه ، فسُئل عن ذلك ، فقال : فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر .
وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن :
نزهَة المؤمن الفكَرْ *** لذّة المؤمن العِبرْ
نحمدُ اللهَ وَحْدَه*** نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ
رُبّ لاهٍ وعُمْرُه *** قد تَقَضّى وما شَعَرْ
رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو *** ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ
في خَرير{[6367]} من العيُو *** ن وَظل من الشَّجَرْ
وسُرُور من النَّبا *** ت وَطيب منَ الثَمَرْ
غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ{[6368]} *** سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ
نَحْمَد الله وحده *** إنّ في ذا لمعتبر
إن في ذَا لَعبرةً *** للبيب إن اعْتَبَرْ
وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته ، فقال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ . وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 105 ، 106 ] ومدح عباده المؤمنين : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قائلين { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا } أي : ما خلقت هذا الخلق عَبَثًا ، بل بالحق لتجزي{[6369]} الذين أساؤوا بما عملوا ، وتجزي{[6370]} الذين أحسنوا بالحسنى . ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا : { سُبْحَانَكَ } أي : عَنْ أن تخلق شيئا باطلا { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي : يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من{[6371]} عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم .
{ الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ } .
وقوله : { الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياما وَقُعُودا } من نعت «أولي الألباب » ، و«الذين » في موضع خفض ردّا على قوله : «لأولي الألباب » .
ومعنى الاَية : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب ، الذاكرين الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، يعني بذلك : قياما في صلاتهم وقعودا في تشهدهم وفي غير صلاتهم وعلى جنوبهم نياما . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياما وَقُعُودا } . . . الاَية ، قال : هو ذكر الله في الصلاة وفي غير الصلاة ، وقراءة القرآن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ يَذْكُرُون الله قِياما وَقُعُودا وَعَلى جُنُوبِهِمْ } وهذه حالاتك كلها يا ابن آدم ، فاذكره وأنت على جنبك يسرا من الله وتخفيفا .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { وَعَلى جُنُوبِهِمْ } فعطف ب«على » ، وهي صفة على القيام والقعود وهما اسمان ؟ قيل : لأن قوله : { وَعَلى جُنُوبِهِمْ } في معنى الاسم ، ومعناه : ونياما أو مضطجعين على جنوبهم¹ فحسن عطف ذلك على القيام والقعود لذلك المعنى ، كما قيل : { وَإذَا مَسّ الإنْسانَ الضّرّ دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدا أو قائما } فعطف بقوله : { أوْ قاعِدا أوْ قائما } على قوله : { لِجَنْبِهِ } ، لأن معنى قوله : لجنبه مضطجعا ، فعطف بالقاعد والقائم على معناه ، فكذلك ذلك في قوله : { وَعَلى جُنُوبِهِمْ } .
وأما قوله : { وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَواتِ والأرْضِ } فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك ، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شيء ، ومن هو مالك كل شيء ورازقه ، وخالق كل شيء ومدبره ، من هو على كل شيء قدير ، وبيده الإغناء والإفقار ، والإعزاز والإذلال ، والإحياء والإماتة ، والشقاء والسعادة .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنا ما خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابِ النّارِ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : ويتفكرون في خلق السموات والأرض ، قائلين : { رَبّنا ما خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً } فترك ذكر قائلين ، إذ كان فيما ظهر من الكلام دلالة عليه¹ وقوله : { ما خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً } يقول : لم تخلق هذا الخلق عبثا ولا لعبا ، لم تخلقه إلا لأمر عظيم من ثواب وعقاب ومحاسبة ومجازاة ، وإنما قال : ما خلقت هذا باطلاً ، ولم يقل : ما خلقت هذه ، ولا هؤلاء ، لأنه أراد بهذا الخلق الذي في السموات والأرض ، يدل على ذلك قوله : { سُبْحانَكَ فَقِنا عَذَابَ النّارِ } ورغبتهم إلى ربهم في أن يقيهم عذاب الجحيم ، ولو كان المعنيّ بقوله : { ما خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً } السموات والأرض ، لما كان لقول عقيب ذلك : { فَقِنا عَذَابَ النّارِ } معنى مفهوم ، لأن السموات والأرض أدلة على بارئها ، لا على الثواب والعقاب ، وإنما الدليل على الثواب والعقاب : الأمر والنهي¹ وإنما وصف جل ثناؤه أولي الألباب الذين ذكرهم في هذه الاَية ، أنهم إذا رأوا المأمورين المنهيين ، قالوا : يا ربنا لم تخلق هؤلاء باطلاً عبثا سبحانك ، يعني : تنزيها لك من أن تفعل شيئا عبثا ، ولكنك خلقتهم لعظيم من الأمر ، لجنة أو نار . ثم فزعوا إلى ربهم بالمسألة أن يجيرهم من عذاب النار ، وأن لا يجعلهم ممن عصاه وخالف أمره ، فيكونوا من أهل جهنم .
{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } أي يذكرونه دائما على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين ، وعنه عليه الصلاة والسلام " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " . وقيل معناه يصلون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين : " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء " فهو حجة للشافعي رضي الله عنه في أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقاديم بدنه . { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } استدلالا واعتبارا ، وهو أفضل العبادات كما قال عليه الصلاة والسلام " لا عبادة كالتفكر " . لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق ، وعنه عليه الصلاة والسلام : " بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أن لك ربا وخالقا : اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له " . وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله . { ربنا ما خلقت هذا باطلا } على إرادة القول أي يتفكرون قائلين ذلك ، وهذا إشارة إلى المتفكر فيه ، أي الخلق على أنه أريد به المخلوق من السماوات والأرض ، أو إليهما لأنهما في معنى المخلوق ، والمعنى ما خلقته عبثا ضائعا من غير حكمه بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه ودليلا يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك . { سبحانك } تنزيها لك من العبث وخلق الباطل وهو اعتراض . { فقنا عذاب النار } للإخلال بالنظر فيه ، والقيام بما يقتضيه . وفائدة الفاء هي الدلالة على أن علمهم بما لأجله خلقت السماوات والأرض حملهم على الاستعاذة .
{ يذكرون الله } إمّا من الذِّكر اللساني وإمّا من الذُّكر القلبي وهو التفكّر ، وأراد بقوله : { قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } عموم الأحوال كقولهم : ضَربه الظهرَ والبطْن ، وقولهم : اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب ، على أنّ هذه الأحوال هي متعارَف أحوال البشر في السلامة ، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم . وقيل : أراد أحوال المصلّين : من قادر ، وعاجز ، وشديد العجز . وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى .
وقوله : { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكّر ، وإعادتُه لأجل اختلاف المتفكَّر فيه ، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله : { يذكرون } ذِكر اللسان . والتفكّر عبادة عظيمة . روى ابن القاسم عن مالك رحمه الله في جامع العتبية قال : قيل لأمّ الدرداء : ما كان شأن أبي الدرداء ؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكّر ، قيل له : أترى التفكّر عَمَلاً من الأعمال ؟ قال : نعم ، هو اليقين .
{ والخلق } بمعنى كيفية أثر الخلق ، أو المخلوقات التي في السماء والأرض ، فالإضافة إمّا على معنى اللام ، وإمّا على معنى ( في ) .