السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} (191)

وقوله تعالى :

{ الذين } نعت لما قبله أو بدل { يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } أي : مضطجعين أي : يذكرونه دائماً على الحالات كلها قائمين وقاعدين ومضطجعين ؛ لأنّ الإنسان قلّ أن يخلو من إحدى هذه الحالات الثلاث .

وروى الطبرانيّ وغيره : أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ) . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هذا في الصلاة يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب ، وعن عمران بن حصين قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال : ( يصلي قائماً فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنب ) .

تنبيه : قياماً وقعوداً حالان من فاعل يذكرون وعلى جنوبهم حال أيضاً فيتعلق بمحذوف ، والمعنى يذكرون قياماً وقعوداً ومضطجعين فعطف الحال المؤوّلة على الصريحة عكس الآية الأخرى وهي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً حيث عطف الصريحة على المؤوّلة { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } وما أبدع فيهما ليدلهم ذلك على قدرة الله تعالى ويعرفون أنّ لهما مدبراً حكيماً . قال بعض العلماء : الفكرة تذهب الغفلة ، وتحدث في القلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم : ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) أي : تفضيلاً يؤدي إلى تنقيصه وإلا فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض . قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله تعالى الذي هو عمل القلب ، لأنّ أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا عبادة كالتفكر ) أي : لأنه المخصوص بالقلب والمقصود من الخلق لكن الحديث رواه البيهقيّ وغيره وضعفوه وقال صلى الله عليه وسلم : ( بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال : أشهد أنّ لك رباً وخالقاً اللهمّ اغفر لي فنظر الله تعالى إليه فغفر له ) رواه الثعلبيّ بسند فيه من لا يعرف قال البيضاوي : وهذا دليل واضح على شرف علم أصول الدين وفضل أهله وقوله تعالى : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } على إرادة القول أي : يتفكرون قائلين ذلك ، وهذا إشارة إلى الخلق بمعنى المخلوق من السماوات والأرض أو إلى السماوات والأرض ؛ لأنهما في معنى المخلوق والمعنى ما خلقته عبثاً وضائعاً من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك لينال الحياة الأبدية والسعادة السرمدية في جوارك .

تنبيه : نصب باطلاً على الحال من هذا وهي حال لا يستغنى عنها لو حذفت لاختل الكلام وهي كقوله تعالى : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } ( الدخان ، 38 ) وقيل : على إسقاط حرف الخفض وهو الباء والمعنى ما خلقتهما بباطل بل بحق وقدرة { سبحانك } أي : تنزيهاً لك عن العبث وهو معترض بين قوله { ربنا } وبين قوله { فقنا عذاب النار } أي : للاختلال بالنظر في خلق السماوات والأرض والقيام بما يقتضيه قال أبو البقاء : ودخلت الفاء لمعنى الجزاء والتقدير إذا نزهناك أو وحدناك فقنا قال ابن عادل : ولا حاجة إليه بل التسبب فيها ظاهر تسبب عن قولهم { ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك } طلبهم وقاية النار .