الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} (191)

قوله تعالى : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ } : فيه خمسة أوجه ، أولها : أنه نعت ل " أُولِي " ، فهو مجرورٌ . وثانِيها : أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : هم الذين . وثالثها : أنه منصوبٌ بإضمار " أعني " ، وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع ، وقد تقدم ذلك مراراً . الرابع : أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره : يقولون : ربَّنا . قاله أبو البقاء . وخامسها : أنه بدلٌ من " أُولي " ذكره مكي . وأول الوجوه هو الأحسن .

و { قِيَاماً وَقُعُوداً } حالان من فاعل " يَذْكُرون " . و { وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } حالٌ أيضاً فيتعلَّقُ بمحذوف ، والمعنى : يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين ، فَعَطَفَ الحالَ المؤولة على الصريحة ، عكسَ الآية الأخرى وهي قوله : { دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] ، حيث عطف الصريحةَ على المؤولة . و " قياماً " و " قعوداً " جمعان ل " قائم " و " قاعد " . وأُجيز أن يكونا مصدرين ، وحينئذ يتأوَّلان على معنى ذوي قيام وقعود ، ولا حاجةَ إلى هذا .

قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } فيه وجهان ، أظهرُها : أنها عطف على الصلةِ فلا محلَّ لها . والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال عطفاً على " قياماً " أي : يذكرونه متفكرين . فإنْ قيل : هذا مضارعٌ مثبت فكيف دخلت عليه الواوُ ؟ فالجوابُ أن هذه واوُ العطف ، والممنوعُ إنما هو واو الحال .

و " خَلْق " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ على أصله أي : يتفكرون في صنعة هذه المخلوقات العجيبة ، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله . والثاني : أنه بمعنى المفعول أي : في مخلوق السماوات والأرض ، وتكون إضافتُه في المعنى إلى الظرف أي : يتفكرون فيما أودع الله هذين الظرفين من الكواكب وغيرِها . وقال أبو البقاء : " وأن يكون بمعنى المخلوق ؛ ويكون من إضافةِ الشيءِ إلى ما هو في المعنى " وهذا كلامٌ متهافتٌ إذ لا يُضاف الشيءُ إلى نفسِه ، وما أَوْهم ذلك يُؤَوَّل .

قوله : " ربَّنا " هذه الجملة في محلِّ نصب بقول محذوف تقديره : يقولون . والجملةُ القولية فيها وجهان ، أظهرهما : أنها حال من فاعل " يتفكرون " أي : يتفكرون قائلين : ربنا ، وإذا أعربنا " يتفكرون " حالاً كما تقدم فتكونُ الحالان متداخلتين . والوجه الثاني : أنها في محلِّ رفعٍ خبراً ل " الذين " على قولِنا بأنه مبتدأ ، كما تقدَّم نَقْلُه عن أبي البقاء .

و " هذا " في قوله : { مَا خَلَقْتَ هَذا } إشارةٌ إلى الخَلْق إن أريد به المخلوق . وأجاز أبو البقاء حالَ الإِشارة إليه ب " هذا " أن يكون مصدراً على حالِه لا بمعنى المخلوق . وفيه نظرٌ ، أو إلى السماوات والأرض ، وإنْ كانا شيئين كلٌّ منهما جَمْعٌ ، لأنهما بتأويل : هذا المخلوق العجيب ، أو لأنهما في معنى الجمع فأُشير إليهما كما يشار إلى لفظ الجمع .

قوله : { بَاطِلاً } في نصبه خمسةُ أوجه ، أحدها : نعت لمصدر محذوف أي : خلقاً باطلاً ، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثلَ هذا حالاً من ضميرِ ذلك المصدر . الثاني : أنه حالٌ من المفعول به وهو " هذا " . الثالث : أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ وهو الباء ، والمعنى : ما خلتقهما بباطلٍ بل بحقٍّ وقُدرةٍ . الرابع : أنه مفعول من أجله ، و " فاعِل " قد يجيء مصدراً كالعاقبةِ والعافيةِ . الخامس : أنه مفعول ثاني ب " خَلَق " قالوا : و " خلق " إذا كانت بمعنى جعل التي تتعدى لاثنين تعدَّت لاثنين ، وهذا غير معروف عند أهل العربية ، بل المعروف أنَّ " جَعَلَ " إذا كانت بمعنى " خَلَقَ " تعدَّتْ لواحد فقط . وأحسنُ هذه الأعاريبِ أن يكونَ حالاً من " هذا " ، وهي حالُ لا يُسْتغنى عنها ، لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ ، وهي كقوله :

{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] .

و { سُبْحَانَكَ } تقدم إعرابه وهو معترضٌ بين قوله : " ربنا " وبين قوله : " فَقِنا " ، وقال أبو البقاء : " دخلت الفاء لمعنى الجزاء ، والتقدير : إذا نَزَّهناك أو وحَّدْناك فَقِنا " . وهذا لا حاجةَ إليه ، بل التسبُّبُ فيها ظاهر ، تسبَّب عن قولهم : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ } طَلَبُهُمْ وقايةَ النار . وقيل : هي لترتيب السؤال على ما تضمَّنه " سبحان " من معنى الفعل أي : سبحانك فقِنا ، وأبعدَ مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيبِ على ما تضمَّنه النداء .