البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰمٗا وَقُعُودٗا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰطِلٗا سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} (191)

الجنوب : جمع جنب وهو معروف .

{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } الظاهر أن الذكر هو باللسان مع حضور القلب ، وأنه التحميد والتهليل والتكبير ، ونحو ذلك من الاذكار .

هذه الهيئات الثلاثة هي غالب ما يكون عليها المرء ، فاستعملت والمراد بها جميع الأحوال .

كما قالت عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه » وظاهر هذا الحديث والآية يدل على جواز ذكر الله على الخلاء .

وقال بجواز ذلك : عبد الله بن عمر ، وابن سيرين والنخعي .

وكرهه : ابن عباس ، وعطاء ، والشعبي .

وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكروا الله فقال بعضهم : أما قال الله تعالى : قياماً وقعوداً ؟ فقاموا يذكرون الله على أقدامهم .

وروي في الحديث : « من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله » وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه .

ذهب ابن جريج والجمهور : والذكر من أعظم العبادات ، والأحاديث فيه كثيرة .

وقال ابن عباس وجماعة : المراد بالذكر الصلوات ، ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم ، وسماها ذكراً لاشتمالها على الذكر .

وقيل : المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء .

وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع ، وخلاف الفقهاء في ذلك ، ودلائلهم .

وذلك مقرر في علم الفقه .

وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام ، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان ، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام ، لأن الإنسان لا يقعد غالباً إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها .

ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود ، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل .

ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زماناً ، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود ، ثم بالقعود إذ زمانه أطول ، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود .

ألا ترى أنَّ الليل جميعه هو زمان الاضطجاع ، وهو مقابل لزمان القعود والقيام ، وهو النهار ؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة ، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة .

فمن قدر على القيام لا يصلي قاعداً ، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعاً ، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل الأفضلية ، إذ الأفضل التنفل قائماً ثم قاعداً ثم مضطجعاً .

وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى : يذكرون الله قياماً بأوامره ، وقعوداً عن زواجره ، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه .

وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب ، وقريب من الباطنية .

وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب ، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال ، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم .

وفي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً عطف صريح الاسم على المجرور .

{ ويتفكرون في خلق السموات والأرض } الظاهر أنه معطوف على الصلة ، فلا موضع له من الإعراب .

وقيل : الجملة في موضع نصب على الحال ، عطفت على الحال قبلها .

ولما ذكر الذكر الذي محله اللسان ، ذكر الفكر الذي محله القلب .

ويحتمل خلق أن يراد به المصدر ، فإن الفكرة في الخلق لهذه المصنوعات الغريبة الشكل والقدرة على إنشاء هذه من العدم الصرف ، يدل على القدرة التامة والعلم والأحدية إلى سائر الصفات العلية .

وفي الفكر في ذلك ما يبهر العقول ، ويستغرق الخواطر .

ويحتمل أن يراد به المخلوق ، ويكون أضافه من حيث المعنى إلى الظرفين ، لا إلى المفعول ، والفكر في ما أودع الله في السموات من الكواكب النيرة والأفلاك التي جاء النصر فيها وما أودع في الأرض من الحيوانات والنبات والمعادن ، واختلاف أجناسها وأنواعها وأشخاصها أيضاً يبهر العقل ويكثر العبر

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد

ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال : « تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره » وقال بعض العلماء : المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء .

وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات وفي مخلوق الآخرة .

وفي الحديث : « لا عبادة كتفكر » وذكر المفسرون من كلام الناس في التفكر ومن أعيان المتفكرين كثيراً ، رأينا أن لا نطول كتابنا بنقلها { ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } هذه الجملة محكية بقول محذوف تقديره : يقولون .

وهذا الفعل في موضع نصب على الحال ، والإشارة بهذا إلى الخلق إن كان المراد المخلوق ، أو إلى السموات والأرض لأنها في معنى المخلوق .

أي : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً .

قيل : المعنى خلقاً باطلاً أي : لغير غاية ، بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه ، فيوحد ويعبد .

فمن فعل ذلك نعمته ، ومن ضل عن ذلك عذبته .

وقال الزمخشري : المعنى ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لداعي حكمة عظيمة وهو : أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك .

ولذلك وصل به قوله : فقنا عذاب النار ، ولأنه جزاء من عصى ولم يطع انتهى .

وفيه إشارات المعتزلة من قوله : بل خلقته لداعي حكمة عظيمة ، وعلى هذا فيكون انتصاب باطلاً على أنه نعت لمصدر محذوف .

وقيل : انتصب باطلاً على الحال من المفعول .

وقيل : انتصب على إسقاط الباء ، أي بباطل ، بل خلقته بقدرتك التي هي حق .

وقيل : على إسقاط اللام وهو مفعول من أجله ، وفاعل بمعنى المصدر أي بطولاً .

وقيل : على أنه مفعول ثان لخلق ، وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى اثنين ، وهذا عكس المنقول في النحو وهو : أنَّ جعل يكون بمعنى خلق ، فيتعدى لواحد .

أما أنّ خلق يكون بمعنى جعل فيتعدى لاثنين ، فلا أعلم أحداً ممن له معرفة ذهب إلى ذلك .

والباطل : الزائل الذاهب ومنه :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** والأحسن من أعاريبه انتصابه على الحال من هذا ، وهي حال لا يستغنى عنها نحو قوله : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } لا يجوز في هذه الحال أن تحذف لئلا يكون المعنى على النفي ، وهو لا يجوز .

ولما تضمنت هذه الجملة الإقرار بأنّ هذا الخلق البديع لم يكن باطلاً ، والتنبيه على أن هذا كلام أولي الألباب الذاكرين الله على جميع أحوالهم والمتفكرين في الخلق ، دلّ على أن غيرهم من أهل الغفلة والجهالة يذهبون إلى خلاف هذه المقالة ، فنزهوه تعالى عن ما يقول أولئك المبطلون من ما أشار إليه تعالى في قوله : لاعبين ، وفي قوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } واعترض بهذا التنزيه المتضمن براءة الله من جميع النقائص وأفعال المحدثين .

بين ذلك الإقرار وبين رغبتهم إلى ربهم بأن يقيهم عذاب النار ، ولم يكن لهم همّ في شيء من أحوال الدنيا ، ولا اكتراث بها ، إنما تضرّعوا في سؤال وقايتهم العذاب يوم القيامة .

وهذا السؤال هو نتيجة الذكر والفكر والإقرار والتنزيه .

والفاء في : فقنا للعطف ، وترتيب السؤال على الإقرار المذكور .

وقيل : لترتيب السؤال على ما تضمنه سبحان من الفعل ، أي : نزهناك عما يقول الجاهلون فقنا .

وأبعد من ذهب إلى أنه للترتيب على ما تضمن النداء .

/خ200