قوله تعالى : { واتبعوا } . يعني اليهود .
قوله تعالى : { ما تتلوا الشياطين } . أي : ما تلت ، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي ، والماضي موضع المستقبل ، وقيل : ما كنت تتلو أي تقرأ ، قال ابن عباس رضي الله عنه : تتبع وتعمل به ، وقال عطاء تحدث وتكلم به .
قوله تعالى : { على ملك سليمان } . أي : ملكه وعهده . وقصة الآية : أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك ، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس : إنما ملكهم سليمان بهذا فتعلموها فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان ، وأما السفلة ، فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعلمه ، ورفضوا كتب أنبيائهم ، وفشت الملامة على سليمان ، فلم يزل هذا حالهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان ، هذا قول الكلبي . وقال السدي : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره ، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعوا في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها ، فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس ، وجمع تلك الكتب ، وجعلها في صندوق ، ودفنه تحت كرسيه وقال : لا أسمع أحداً يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه ، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب ، وخلف بعدهم من خلف ، تمثل الشيطان على صورة إنسان ، فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال : أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً قالوا : نعم قال : فاحفروا تحت الكرسي ، وذهب معهم المكان وقام ناحية فقالوا : ادن قال : لا ولكن هاهنا فإن لم تجدوه فاقتلوني ، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين . يدنو من الكرسي إلا احترق ، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب ، فقال الشيطان : إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا ، ثم طار الشيطان عنهم ، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً ، وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك ، وأنزل في عذر سليمان :
قوله تعالى : { وما كفر سليمان } . بالسحر ، وقيل : لم يكن سليمان كافراً بالسحر ويعمل به .
قوله تعالى : { ولكن الشياطين كفروا } . قرأ ابن عباس رضي الله عنه ، والكسائي وحمزة ، ولكن خفيفة النون ، والشياطين رفع ، وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون ، والشياطين نصب وكذلك { ولكن الله ولكن الله رمى } ومعنى لكن : نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل . يعلمون الناس قيل : معنى السحر العلم ، والحذق بالشيء قال الله تعالى :{ وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك } أي العالم ، والصحيح : أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل ، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة ، وعليه أكثر الأمم ، ولكن العمل به كفر ، حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال : السحر يخيل ويمرض وقد يقتل ، حتى أوجب القصاص على من قتل به ، فهو من عمل الشيطان ، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه ، فإذا تلقاه منه بتعليمه إياه استعمله في غيره ، وقيل : إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب ، والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالى : ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون ، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس ، وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه ، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان .
قوله تعالى : { وما أنزل على الملكين ببابل } . أي ويعملون الذي أنزل على الملكين ، أي إلهاماً وعلماً ، فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم ، وقيل : واتبعوا ما أنزل على الملكين ، وقرأ ابن عباس و الحسن الملكين بكسر اللام ، وقال ابن عباس : هما رجلان ساحران كانا ببابل ، وقال الحسن : علجان لأن الملائكة لا يعلمون السحر . وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها ، قال ابن مسعود : بابل أرض الكوفة ، وقيل جبل نهاوند ، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتح ، فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة ؟ قيل : له تأويلان : أحدهما ، أنهما لا يتعمدان التعليم ، لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه ، والتعليم بمعنى الإعلام ، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما . والتأويل الثاني : وهو الأصح : أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى يتعلم السحر منهما فيكفر به ، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان ، ويزداد المعلمان بالتعليم عذاباًن ففيه ابتلاء للمعلم والمتعلم ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، فله الأمر والحكم .
قوله تعالى : { هاروت وماروت } . اسمان سريانيان ، وهما في محل الخفض على تفسير الملكين ، إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما ، وكانت قصتهما على ما ذكر ابن عباس والمفسرون : أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام ، فعيروهم وقالوا : هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك . فقال الله تعالى : لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لارتكبتم مثل ما ارتكبوا فقالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك ، قال الله تعالى : فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم ، وقال الكلبي : قال الله تعالى لهم : اختاروا ثلاثة فاختاروا عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت ، غير اسمهما لما قارفا الذنب وعزائيل ، فركب الله فيهم الشهوة ، وأهبطهم إلى الأرض ، وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ، ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق ، والزنا وشرب الخمر ، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء ، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه ، ولم يزل بعد ذلك مطأطئاً رأسه حياء من الله تعالى . وأما الآخران : فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما ، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا به إلى السماء ، قال قتادة : فما مر عليهما شهر حتى افتتنا . قالوا جميعاً وذلك أنه اختصم إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها ، فأبت وانصرفوا ، ثم عادت في اليوم الثاني ، ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت : لا إلا أن تعبدا ما أعبد ، وتصليا لهذا الصنم ، وتقتلا النفس ، وتشربا الخمر فقالا : لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها ، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر ، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها ، فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا : الصلاة لغير الله عظيم ، وقتل النفس عظيم ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة ، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه ، قال الربيع بن أنس : وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكباً وقال بعضهم : جاءتهم امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجا فقال أحدهما للآخر : هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي قال : نعم فقال : وهل لك أن تقضي لها على زوجها فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب فقال له صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها عن نفسها ، فقالت : لا إلا أن تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها ، ثم سألاها نفسها فقالت : لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما : أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب فقال صاحبه : أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها ، فقالت : لا إلا أن لنا صنماً نعبده ، إن أنتما صليتما معي عنده فعلت ، فقال : أحدهما لصاحبه مثل القول الأول وقال صاحبه مثله ، فصليا معها له فمسخت شهاباً .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والكلبي والسدي : إنها قالت لهما : لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا : باسم الله الأكبر ، قالت : فما أنتم بمدركي حتى تعلمانيه ، فقال أحدهما لصاحبه : علمها فقال : إني أخاف الله ، قال الآخر : فأين رحمة الله تعالى ، فعلماها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً ، فذهب بعضهم إلى أنها هي الزهرة بعينها ، وأنكر الآخرون هذا وقالوا : إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال : { فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس } والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها ، فلما بغت مسخها الله تعالى شهاباً ، قالوا : فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب ، هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما ، فعلما ما حل بهما ، فقصدا إدريس النبي عليه السلام ، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل وقالا له : إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض ، فاستشفع لنا ، إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان . واختلفوا في كيفية عذابهما . فقال عبد الله بن مسعود : هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة ، وقال عطاء بن أبي رباح : رؤوسهما مصوبة تحت أجنحتهما ، وقال قتادة : كبلا من أقداهما إلى أصول أفخاذهما ، وقال مجاهد : جعلا في جب ملئ ناراً ، وقال عمر بن سعد : منكوسان يضربان بسياط الحديد . وروي أن رجلاً قصد هاروت وماروت لتعلم السحر . فوجدهما معلقين بأرجلهما ، مزرقة أعينهما ، مسودة جلودهما ، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع ، وهما يعذبان بالعطش ، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال : لا إله الله ، فلما سمعا كلامه قالا له : من أنت ؟ قال : رجل من الناس ، قالا : من أي أمة ؟ قال : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا : أو قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم قال : نعم . قالا : الحمد لله وأظهرا الاستبشار فقال الرجل : وبم استبشاركما قالا : إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا .
قوله تعالى : { وما يعلمان من أحد } . أي أحداً " ومن " صلة .
قوله تعالى : { حتى } . ينصحاه أولاً .
قوله تعالى : { يقولا إنما نحن فتنة } . ابتلاء ومحنة .
قوله تعالى : { فلا تكفر } . أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر ، وأصل الفتنة : الاختبار والامتحان ، من قولهم : فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار ، ليتميز الجيد من الرديء ، وإنما وحد الفتنة وهما اثنان ، لأن الفتنة مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ، وقيل : إنهما يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرات . قال عطاء والسدي : فإن أبى إلا التعلم قالا له : " ائت هذا الرماد وأقبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة ، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى " ، قال مجاهد : إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ، ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة .
قوله تعالى : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } . وهو أن يؤخذ كل واحد عن صاحبه ، ويبغض كل واحد إلى صاحبه .
قوله تعالى : { وما هم } . قيل أي : السحرة وقيل : الشياطين .
قوله تعالى : { بضارين به } . أي بالسحر .
قوله تعالى : { من أحد } . أي أحداً .
قوله تعالى : { إلا بإذن الله } . أي : بعلمه وتكوينه ، فالساحر يسحر والله يكون . قال سفيان الثوري : معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته .
قوله تعالى : { ويتعلمون ما يضرهم } . يعني : أن السحر يضرهم .
قوله تعالى : { ولا ينفعهم ولقد علموا } . يعني اليهود .
قوله تعالى : { لمن اشتراه } . أي اختار السحر .
قوله تعالى : { ما له في الآخرة } . أي في الجنة .
قوله تعالى : { من خلاق } . من نصيب .
قوله تعالى : { ولبئس ما شروا به } . باعوا به .
قوله تعالى : { أنفسهم } . حظ أنفسهم ، حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق .
قوله تعالى : { لو كانوا يعلمون } . فإن قيل : أليس قد قال ولقد علموا لمن اشتراه ؟ فما معنى قوله تعالى :{ لو كانوا يعلمون } ؟ بعدما أخبر أنهم علموا ؟ قيل : أراد بقوله ولقد علموا يعني الشياطين ، وقوله : لو كانوا يعلمون يعني اليهود ، وقيل : كلاهما في اليهود ولكنهم لما لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا .
ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه ، وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفع ، ابتلي بالاشتغال بما يضره ، فمن ترك عبادة الرحمن ، ابتلي بعبادة الأوثان ، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه ، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه ، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان ، ومن ترك الذل لربه ، ابتلي بالذل للعبيد ، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل .
كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر ، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم .
وهم كذبة في ذلك ، فلم يستعمله سليمان ، بل نزهه الصادق في قيله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي : بتعلم السحر ، فلم يتعلمه ، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } بذلك .
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم ، وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق ، أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلاء من الله لعباده فيعلمانهم السحر .
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى } ينصحاه ، و { يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } أي : لا تتعلم السحر فإنه كفر ، فينهيانه عن السحر ، ويخبرانه عن مرتبته ، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال ، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام ، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة .
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين ، والسحر الذي يعلمه الملكان ، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين ، وكل يصبو إلى ما يناسبه .
ثم ذكر مفاسد السحر فقال : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما ، لأن الله قال في حقهما : { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة ، وأنه يضر بإذن الله ، أي : بإرادة الله ، والإذن نوعان : إذن قدري ، وهو المتعلق بمشيئة الله ، كما في هذه الآية ، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير ، فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير ، ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد ، زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة ، فأخرجوها عن قدرة الله ، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين .
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة ، ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي ، كما قال تعالى في الخمر والميسر : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فهذا السحر مضرة محضة ، فليس له داع أصلا ، فالمنهيات كلها إما مضرة محضة ، أو شرها أكبر من خيرها .
كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها .
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } أي : اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي : رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة .
{ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي : نصيب ، بل هو موجب للعقوبة ، فلم يكن فعلهم إياه جهلا ، ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة .
{ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } علما يثمر العمل ما فعلوه .
ثم حكى - سبحانه - لوناً آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم على نبذهم لكتابه فقال تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } .
اتبعوا : من الاتباع وهو الاقتداء ، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم .
وتتلو : من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة ، وقال الراغب : تلا عليه كذب عليه .
والشياطين : جمع شيطان ، وهو كائن حي خلق من النار ، ويطلق على الممتلئ شراً من الأنس .
والمعنى : إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله ، واتبعوا الذي كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان ، وفي زمانه ، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر ، وأنه ارتد في أواخر حياته ، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه والوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ألصقوها به - عليه السلام - وهو برئ منها .
قال صاحب الكشاف : وقوله تعالى : { على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي على عهد ملكه وفي زمانه ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة ، وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها للناس ، وفشا ذلك في زمان سليمان - عليه السلام - حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب ، وكانوا يقولون : ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإِنس والجن والريح التي تجري بأمره .
وقوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } معناه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم ، وصرفهم عن عبادة - الله - تعالى - إلى عبادة غيره من المخلوقات .
ففي الجملة الكريمة تنزيه لسليمان - عليه السلام - عن الردة والشرك وتبرئه له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زوراً وبهتاناً ، ودلالة على أن ذلك السحر الذي نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر .
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان ، وأنه ارتد في آخر عمره ، وعبد الأصنام وبني لها المعابد ، وكانوا عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان بين الأنبياء يقولون : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحراً يركب الريح .
فإن قال قائل : ما الحكمة في نفي الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحداً نسب إليه ذلك .
فالجواب : أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله ، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا هذا السحر إلى سليمان ، وقالوا إنه كان يسخر به الجن والإِنس والريح ، فأكذبهم الله - تعالى - بقوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } كما بينا .
وللضمير في قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } : وجهان :
أحدهما : أنه متصل بقوله تعالى : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } أي : أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر .
والثاني : وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى { كَفَرُواْ } وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهوراً في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم ، أي أن فريقاً من اليهود نبذوا كتاب الله اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه ؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } .
ونفي الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض ، فعلم أيضاً - أنهم اتبعوا الشياطين بهذه القرية ، وإنما كان القصد إلى صوف اليهود بتعلم السحر ، لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها ، ويضرون بها الناس خداعاً وتمويها وتلبساً .
وإنما أضاف الله - تعالى - إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفاً قبل سليمان - عليه السلام - كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون ، وإنما أضاف ذلك إليهم ، لأن هذا كان هو الواقع منهم ، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان ، كان مدوناً في صحف اليهود من قديم ، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن صول إلى من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم منهم ولأن سليمان - عليه السلام - أعطاه الله تعالى ملكاً واسعاً وسخر له الإِنس والجن والريح ، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر .
و { مَآ } في قوله تعالى : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } موصولة ، وهي معطوفة على السحر في قوله تعالى : { يُعَلِّمُونَ الناس السحر } أي يعلمون الناس السحر ، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين .
والذي أنزل عليهما هو وصف السحر وما هيته وكيفية الاحتيال به . ليعرفاه الناس فيجتنبوه على حد قول الشاعر :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه . . . ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
فالشياطين عرفوه فعملوا به ، وعلموه للناس ليستعملوه في الشرر والمآثم بينما المؤمنون عرفوه واستفادوا من الاطلاع عليه فتجنبوه .
هذا ، واختصت بابل بالإِنزال ، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر ، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم ، وعمت الأباطيل فألهم الله - تعالى - هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه ، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم ، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم .
واللام في { الملكين } مفتوحة في القراءات العشر المتواترة ، وقرئ شاذاً { الملكين } بكسر اللام .
قال بعض المفسرين : المراد بالملكين - بفتح اللام - رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التي كانت تفعلها السحرة ، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين ، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما ، ويؤيد هذا الرأي قراءة الملكين - بكسر اللام - وإن كانت شاذة :
وقال جمهور المفسرين : إنما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله - تعالى - ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم ، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا ، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله ، { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر ، وهما بدل أو عطف بيان للملكين .
وقوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } بيان لما كان ينصح به الملكان من يريد تعلم السحر منهما . والجملة حالية من هاروت وماروت .
والفتنة ، المراد هنا الابتلاء والاختبار ، تقول : فتنت الذهب في النار ، أي : اختبرته لتعرف جودته ورداءته .
والمعنى : أن الملكين لا يعلمان أحداً من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الابتلاء والاختبار لتمييز المطيع من العاصي . فمن عمل به ضل وقوي ، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله ، ولإِظهار الفرق بين المعجزة والسحر . فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين : كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات .
فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر ، فضح أمر السحرة الذين كثروا في تلك الأيام ، وادعو ما لم يأذن به الله ، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك ، وإنما هم أفاكون ، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة في الإقرار بأنهما لا يملكان نفعاً ولا ضراً لأحد ، وإنما هما فتنة محضة ، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصي .
ثم بين - سبحانه - لوناً من السحر البغيض الذي استعمله أولئك السحرة في الأذى فقال تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } أي فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه .
فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } لأنه يقتضي أن التعليم حاصل ، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه في التفريق بين الزوجين .
وخصص سبحانه ها اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده . وعلى شناعة ذنب من يقوم به . لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة .
والضمير في قوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ } راجع لأحد ، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد ، لوقوعه في سياق النفي ، والنكرة إذا وردت بعد نفي كانت في معنى أفراد كثيرة ، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك .
ثم نفى - سبحانه - أن يكون السحر مؤثراً بذاته فقال تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحداً بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته ، فالسحر سبب عادي لما ينشأ عنه من الأضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك .
والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضراً بذاته ، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر .
والمراد { بِإِذْنِ الله } هنا . تخليته - سبحانه - بين السحور وضرر السحر ، أي : إن شاء حصل الضرر بسبب السحر ، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شيء من الأذى .
وعبر - سبحانه - عن هذا المعنى بطريق القصر ، مبالغة في نفي أي تأثير للسحر بذاته ، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوي غيبية سوى الأسباب التي ربط الله بها المسببات ، وإرشاداً لهم إلى حسن الاعتقاد ، وسلامة اليقين .
ثم بين - سبحانه - أن أولئك المتعليمن السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، فقال تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي : أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم ، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل ، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم ، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذي يضرهم ولا ينفعهم ، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر .
وفي هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة في تجهيل المصدقين لهم ، لأن الساحر - مهما بلغت براعته - فلن يستطيع أن يمنع شيئاً أراده الله ، ولا أن يأتي بشيء منعه الله ما دام الأمر كذلك فالمشتغل به ، والمصدق له كلاهما وقع في ضلال مبين .
وقد أفادت الجملة الكريمة يجمعهها بين إثبات الضر ونفي النفع مفاد الحصر فكأنه - سبحانه - يقول : ويتعلمون ما ليس إلا ضرراً بحتاً .
ثم بين - سبحانه - مآل أولئك اليهود التاركين للحق ، والمتبعين للباطل فقال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } أي : ولقد علم أولئك اليهود الذين بنذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر ، أن من استبدل السحر بكتاب الله بكتاب الله ليس له من حظ في الجنة ، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى ، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر ، وشددت العقوبة على مرتكبه ، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان .
فالضمير في { عَلِمُواْ } يعود إلى أولئك اليهود الذي تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر .
والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره ، والمراد أنهم اكتسبوا السحر الذي تتلوه الشياطين بعد أن بذلوا في سبيل ذلك إيمانهم ونصيبهم من الجنة ، وغدوا مفلسين من حظوظ الآخرة ، لإقبالهم على التمويه والكذب ، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير .
وأكد - سبحانه - علمهم بضرر السحر بقوله { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } للإِشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره ، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة .
ثم قال تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
شروا : بمعنى باعوا ، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة . ونعيمها .
والمعنى : ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به ، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك .
وأثبت لهم العلم في قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } ثم نفاه عنه في قوله تعالى : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جرياً على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفي عنه العلم كما ينفي عن الجاهلين .
وإلأى هذا المعنى الذي قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله .
فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه } على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه عنهم في قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
قلت : معناه لو كانوا يعملون بعلمهم . جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسخلون عنه .
ثم ماذا ؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم ؟ ؟ ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه ؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه ؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه ؟ كلا . . لا شيء من هذا كله . إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة .
( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وما كفر سليمان ، ولكن الشياطين كفروا . يعلمون الناس السحر ، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . وما يعلمان من أحد حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر . فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه - وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله - ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ) . .
لقد تركوا ما أنزل الله مصدقا لما معهم ؛ وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان ، وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان ، إذ يقولون : إنه كان ساحرا ، وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه .
والقرآن ينفي عن سليمان - عليه السلام - أنه كان ساحرا ، فيقول :
فكأنه يعد السحر واستخدامه كفرا ينفيه عن سليمان - عليه السلام - ويثبته للشياطين :
( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . .
ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين : هاروت وماروت . اللذين كان مقرهما بابل :
( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . .
ويبدو أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما ، وكان اليهود أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر ويعلمانه للناس ، ويزعمان أن هذا السحر أنزل عليهما ! فنفى القرآن هذه الفرية أيضا . فرية تنزيل السحر على الملكين .
ثم يبين الحقيقة ، وهي أن هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة . وأنهما كانا يقولان لكل من يجيء اليهما ، طالبا منهما أن يعلماه السحر :
( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) . .
ومرة أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه واستخدامه كفرا ؛ ويذكر هذا على لسان الملكين : هاروتوماروت .
وقد كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما ، على الرغم من تحذيره وتبصيره . وعندئذ تحق الفتنة على بعض المفتونين :
( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) . .
وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان . .
وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية ، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله :
( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) . .
فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشىء آثارها وتحقق نتائجها . . وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما . وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام ، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق . ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله . فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها ؛ كما وقع لإبراهيم - عليه السلام - وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ، ينشىء هذا الأثر بإذن الله . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها . . وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار . . كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله ، فهو يعمل بهذا الإذن ، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء . .
ثم يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون ، وما يفرقون به بين المرء وزوجه . . إنه شر عليهم هم أنفسهم لا خير :
( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) . .
ويكفي أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضرا خالصا لا نفع فيه !
( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) . .
ولقد علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة ، فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة وكل نصيب . .
فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة :
وقال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان ارتد فِئَامٌ من الجن والإنس واتبعوا الشهوات ، فلما رجع{[2292]} اللهُ إلى سليمان ملكَه ، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان ، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه ، وتوفي سليمان ، عليه السلام ، حدثان ذلك ، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل{[2293]} على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا . فأنزل الله : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } واتبعوا الشهوات ،
[ أي ] :{[2294]} التي كانت [ تتلو الشياطين ]{[2295]} وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم " الأعظم " ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجه{[2296]} الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل بها{[2297]} . قال : فأكفره جُهَّالُ الناس وسبّوه ، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه ، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }{[2298]} .
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب سلم{[2299]} بن جنادة السوائي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان سليمان ، عليه السلام ، إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئًا من نسائه ، أعطى الجرادة - وهي امرأة - خاتمه . فلما أراد الله أن يبتلي سليمان ، عليه السلام ، بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتَمه ، فجاء {[2300]} الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي . فأخذه فلبسه . فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس . قال : فجاءها سليمان ، فقال : هاتي خاتمي فقالت : كذبت ، لست سليمان . قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر . ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها وقرؤوها{[2301]} على الناس ، وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب . قال : فبرئ الناس من سليمان ، عليه السلام ، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران ، وهو ابن الحارث قال : بينا نحن عند ابن عباس - رضي الله عنهما{[2302]} - إذ جاء{[2303]} رجل فقال له : مِنْ أين جئت ؟ قال : من العراق . قال : من أيِّه ؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر ؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم . ففزع ثم قال : ما تقول ؟ لا أبا لك ! لو شعرنا ما نكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه ، أما إني سأحدثكم{[2304]} عن ذلك : إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء ، فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا جُرِّبَ منه صدق كذب معها سبعين كذْبة ، قال : فَتَشْرَبُها قلوب الناس . فأطلع الله عليها سليمان . عليه السلام ، فدفنها تحت كرسيه . فلما توفي سليمان ، عليه السلام ، قام شيطانُ الطريق ، فقال : أفلا أدلكم على كنزه الممنَّع{[2305]} الذي لا كنز له مثله ؟ تحت الكرسي . فأخرجوه ، فقالوا هذا سحره {[2306]}فتناسخا الأمم - حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق - وأنزل الله عز وجل{[2307]} { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن أبي زكريا العَنْبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن جرير ، به{[2308]} .
وقال السدي في قوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي : على عهد سليمان . قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون في الأرض من موت أو غيب{[2309]} أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم . فتحدِّث الكهنة الناسَ فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم . وأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة ، فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب ، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب . فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق . ثم دفنها تحت كرسيه . ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق . وقال : لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه . فلما مات سليمان ، عليه السلام ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف من بعد ذلك خَلْف تمثل شيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل ، فقال لهم : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدًا ؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي . وذهب معهم وأراهم المكان ، وقام ناحية ، فقالوا له : فَادْنُ . قال{[2310]} لا ولكنني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني . فحفروا فوجدوا تلك الكتب . فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين{[2311]} والطير بهذا السحر . ثم طار وذهب . وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا . واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها{[2312]} ؛ فذلك حين يقول الله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال الربيع بن أنس : إن اليهود سألوا محمدًا صلى الله عليه وسلم زمانًا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله تعالى عليه ما سألوه عنه ، فيخصمهم{[2313]} ، فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا . وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله عز وجل : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } وإن الشياطين عَمَدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان [ سليمان ]{[2314]} عليه السلام ، لا يعلم الغيب . فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس ، وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد{[2315]} الناس عليه . فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا ، وأدحض الله حجتهم .
وقال مجاهد في قوله : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } قال : كانت الشياطين تستمع{[2316]} الوحي فما سمعوا من كلمة [ إلا ]{[2317]} زادوا فيها مائتين مثلها . فأرسِل سليمان ، عليه السلام ، إلى ما كتبوا من ذلك . فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس [ به ]{[2318]} وهو السحر .
وقال سعيد بن جبير : كان سليمان ، عليه السلام ، يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم ، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم يقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدبَّت{[2319]} إلى الإنس ، فقالوا لهم : أتدرون ما العلم{[2320]} الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك ؟ قالوا : نعم . قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه . فاستثار به{[2321]} الإنسُ واستخرجوه فعملوا{[2322]} بها . فقال أهل الحجا : كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر . فأنزل الله تعالى على [ لسان ]{[2323]} نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام ، فقال : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا }
وقال محمد بن إسحاق بن يسار{[2324]} عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود ، عليه السلام{[2325]} فكتبوا أصناف السحر : " من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا " . حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب . ثم ختموا بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عُنْوانه : " هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود ، عليهما السلام{[2326]} من ذخائر كنوز العلم " . ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته{[2327]} بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا . فلما عثروا عليه قالوا : والله ما كان سليمان بن داود إلا بهذا . فأفشوا السحر في الناس [ وتعلموه وعلموه ]{[2328]} . وليس هو في أحد أكثر{[2329]} منه في اليهود لعنهم الله . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله ، سليمان بن داود ، وعده فيمن عَدَّه من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من يهود : ألا تعجبون من محمد ! يزعم أن ابن داود كان نبيًا ، والله ما كان إلا ساحرًا . وأنزل الله [ في ]{[2330]} ذلك من قولهم : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } الآية .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثنا الحجاج{[2331]} عن أبي بكر ، عن شَهْر بن حَوشب ، قال : لما سلب سليمان ، عليه السلام ، ملكه ، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان . فكتبت : " من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس ، وليقل كذا وكذا{[2332]} ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا . فكتبته وجعلت عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [ بن داود ]{[2333]} من ذخائر كنوز العلم " . ثم دفنته تحت كرسيه . فلما مات سليمان ، عليه السلام ، قام إبليس ، لعنه الله ، خطيبًا ، [ ثم ]{[2334]} قال : يا أيها الناس ، إن سليمان لم يكن نَبيًّا ، إنما كان ساحرًا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته . ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه . فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرًا ! هذا {[2335]} سحره ، بهذا تَعَبدنا ، وبهذا قهرنا . وقال المؤمنون : بل كان نبيًا مؤمنًا . فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان . فقالت اليهود [ لعنهم الله ] {[2336]}انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل . يذكر سليمان مع الأنبياء . إنما كان ساحرًا يركب الريح ، فأنزل الله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حُدَير ، عن أبي مِجْلَز ، قال : أخذ سليمان ، عليه السلام ، من كل دابة عهدًا ، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد ، خلى عنه . فزاد الناس السجع والسحر ، وقالوا : هذا يعمل به
سليمان . فقال الله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }{[2337]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن رَوّاد ، حدثنا آدم ، حدثنا المسعودي ، عن زياد مولى ابن مصعب ، عن الحسن : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ } قال : ثلث الشعر ، وثلث السحر ، وثلث الكهانة .
وقال : حدثنا الحسن بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي ، حدثني سُرور بن المغيرة ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن :
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } واتبعته اليهود على ملكه . وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان .
فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام ، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها ، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم ، والله الهادي . وقوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي : واتبعت اليهود - الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم ما تتلوه{[2338]} الشياطين ، أي : ما ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان . وعداه بعلى ؛ لأنه تضمن تتلو : تكذب . وقال ابن جرير : " على " {[2339]} هاهنا بمعنى " في " ، أي : تتلو في ملك سليمان . ونقله عن ابن جُرَيج ، وابن إسحاق .
قلت : والتضمن أحسن وأولى ، والله أعلم .
وقول الحسن البصري ، رحمه الله : " قد كان السحر قبل زمان{[2340]} سليمان بن داود " صحيح لا شك فيه ؛ لأن السحرة كانوا في زمان{[2341]} موسى ، عليه السلام ، وسليمان بن داود بعده ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [ البقرة : 246 ] ، ثم ذكر القصة بعدها ، وفيها : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ }
[ البقرة : 251 ] . وقال قوم صالح - وهم قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، لنبيهم صالح : { إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [ الشعراء : 153 ] أي :
[ من ]{[2342]} المسحورين على المشهور .
وقوله تعالى : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } اختلف الناس في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى أن " ما " نافية ، أعني التي في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال القرطبي : " ما " نافية ومعطوفة على قوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ثم قال : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ } أي : السحر
{ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } وذلك أن اليهود - لعنهم الله - كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } بدلا من : { الشياطين } قال : وصح ذلك ، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [ النساء : 11 ] أو يكون لهما أتباع ، أو ذكرا من بينهم لتمردهما ، فتقدير الكلام عنده : تعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت . ثم قال : وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه .
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } يقول : لم ينزل الله السحر . وبإسناده ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال : ما أنزل الله عليهما السحر .
قال ابن جرير : فتأويل الآية على هذا : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ، هاروت وماروت . فيكون قوله : { بِبَابِلَ هَارُوتَ [ وَمَارُوت{[2343]} ] } من المؤخر الذي معناه المقدم . قال : فإن قال لنا قائل : وكيف وجه تقديم ذلك ؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } - " من السحر " - { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } وما أنزل الله " السحر " على الملكين ، { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين : جبريل وميكائيل ، عليهما السلام ؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان ، عليه السلام ، مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان ، اسم أحدهما هاروت ، واسم الآخر ماروت ، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ، وردًا عليهم .
هذا لفظه بحروفه{[2344]} .
وقد قال ابن أبي حاتم : حُدّثت عن عُبَيد الله بن موسى ، أخبرنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } قال : ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر .
حدثنا{[2345]} الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا يعلى - يعني ابن أسد - حدثنا بكر{[2346]} - يعني ابن مصعب - حدثنا الحسن بن أبي جعفر : أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها : " وما أنزل على الملكين داود وسليمان " .
وقال أبو العالية : لم ينزل عليهما السحر ، يقول : علما الإيمان والكفر ، فالسحر من الكفر ، فهما ينهيان عنه أشد النهي . رواه ابن أبي حاتم .
ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول ، وأن " ما " بمعنى الذي ، وأطال القول في ذلك ، وادعى{[2347]} أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض ، وأذن لهما في تعليم السحر اختبارًا لعباده وامتحانًا ، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل ، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك ؛ لأنهما امتثلا ما أمرا به .
وهذا الذي سلكه غريب جدًا ! وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن [ كما زعمه ابن حزم ]{[2348]} !
وروى ابن أبي حاتم بإسناده . عن الضحاك بن مزاحم : أنه كان يقرؤها : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } ويقول : هما علجان من أهل بابل .
وَوَجَّه أصحابُ هذا القول الإنزال بمعنى الخَلْق ، لا بمعنى الإيحاء ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } كما قال تعالى : { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] ، { وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [ الحديد : 25 ] ، { وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا } [ غافر : 13 ] . وفي الحديث : " ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء " . وكما يقال : أنزل الله الخير والشر .
[ وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والضحاك والحسن البصري : أنهم قرؤوا : " وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ " بكسر اللام . قال ابن أبزى : وهما داود وسليمان . قال القرطبي : فعلى هذا تكون " ما " نافية أيضًا ]{[2349]} .
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [ و " ما " نافية ]{[2350]} قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل عن قول الله تعالى : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } قال الرجل : يعلمان الناس السحر ، ما أنزل عليهما{[2351]} أو يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما ؟ فقال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت .
ثم روى عن يونس ، عن أنس بن عياض ، عن بعض أصحابه : أن القاسم قال في هذه القصة : لا أبالي أيّ ذلك كان ، إني آمنت به .
وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء ، وأنهما أنزلا إلى الأرض ، فكان من أمرهما ما كان . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء الله تعالى . وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا ، فيكون تخصيصًا لهما ، فلا تعارض حينئذ ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق ، وفي قول : إنه كان من الملائكة ، لقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى } [ طه : 116 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك . مع أن شأن هاروت وماروت - على ما ذكر - أخف مما وقع من إبليس لعنه الله .
[ وقد حكاه القرطبي عن على ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، وكعب الأحبار ، والسدي ، والكلبي ]{[2352]} .
ذكر الحديث الوارد في ذلك - إن صح سنده ورفعه - وبيان الكلام عليه :
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا يحيى بن [ أبي ]{[2353]} بكير ، حدثنا زهير بن محمد ، عن موسى بن جبير ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر : أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن آدم - عليه السلام - لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة : أي رب{[2354]} { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ، قالوا : ربنا ، نحن أطوع لك من بني آدم . قال الله تعالى للملائكة : هَلُموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض ، فننظر كيف يعملان ؟ قالوا : برَبِّنا ، هاروتَ وماروتَ . فأهبطا إلى الأرض ومثُلت لهما{[2355]} الزُّهَرة امرأة من أحسن البشر ، فجاءتهما ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك . فقالا والله{[2356]} لا نشرك بالله شيئًا أبدًا . فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبي . فقالا لا والله لا نقتله أبدًا . ثم ذهبت فرجعت{[2357]} بقَدَح خَمْر تحمله ، فسألاها نفسها . فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر . فشربا فسكرا ، فوقعا عليها ، وقتلا الصبي . فلما أفاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إلا قد{[2358]} فعلتماه حين سكرتما . فخيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا " .
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن الحسن عن سفيان ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن بكير ، به{[2359]} .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين ، إلا موسى بن جبير هذا ، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء ، رَوَى عن ابن عباس وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ، ونافع ، وعبد الله بن كعب بن مالك . وروى عنه ابنه عبد السلام ، وبكر بن مضر ، وزهير بن محمد ، وسعيد بن سلمة ، وعبد الله بن لَهِيعة ، وعمرو بن الحارث ، ويحيى بن أيوب . وروى له أبو داود ، وابن ماجه ، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ، ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا ، فهو مستور الحال{[2360]} وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي له متابع من وجه آخر عن نافع ، كما قال ابن مَرْدُويه : حدثنا دَعْلَجُ بن أحمد ، حدثنا هشام [ بن علي بن هشام ]{[2361]} حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا سعيد بن سلمة ، حدثنا موسى بن سَرْجِس ، عن نافع ، عن ابن عمر : سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول . فذكره بطوله .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين - وهو سنيد بن داود صاحب التفسير - حدثنا الفرج بن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن نافع ، قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع ، انظر ، طلعت الحمراء ؟ قلت : لا - مرتين أو ثلاثًا - ثم قلت : قد طلعت . قال : لا مرحبًا بها ولا أهلا ؟ قلت : سبحان الله ! نجم مسخر سامع مطيع . قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " إن الملائكة قالت : يا رب ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا{[2362]} والذنوب ؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم . قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك . قال : فاختاروا ملكين منكم . قال : فلم يألوا جهدًا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت وماروت " {[2363]} .
وهذان - أيضاً - غريبان جدًّا . وأقرب ما في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر ، عن كعب الأحبار ، لا عن النبي{[2364]} صلى الله عليه وسلم ، كما قال عبد الرزاق في تفسيره ، عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب ، قال{[2365]} ذكرت الملائكة أعمال بني آدم ، وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين ، فاختاروا هاروت وماروت . فقال{[2366]} لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئًا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر . قال كعب : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه .
ورواه ابن جرير من طريقين ، عن عبد الرزاق ، به{[2367]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن عصام ، عن مُؤَمَّل ، عن سفيان الثوري ، به{[2368]} .
ورواه ابن جرير أيضًا : حدثني المثنى ، حدثنا المعلى - وهو ابن أسد - حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن موسى بن عقبة ، حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث ، عن كعب الأحبار ، فذكره{[2369]} .
فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين ، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع . فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار ، عن كتب بني إسرائيل ، والله أعلم .
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين :
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج{[2370]} حدثنا حماد ، عن خالد الحذاء ، عن عمير بن سعيد ، قال : سمعت عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : كانت الزُّهَرة امرأة جميلة من أهل فارس ، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت ، فراوداها{[2371]} عن نفسها ، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكَلَّم [ المتكلم ]{[2372]} به يُعْرج به إلى السماء . فعلماها فتكلمت به فعرجت إلى السماء . فمسخت كوكبًا !
وهذا الإسناد [ جيد و ]{[2373]} رجاله ثقات ، وهو غريب جداً .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الفضل بن شاذان ، حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا أبو معاوية ، عن [ ابن أبي ]{[2374]} خالد ، عن عمير بن سعيد ، عن علي قال : هما ملكان من ملائكة السماء . يعني : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ }{[2375]} .
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره بسنده ، عن مغيث ، عن مولاه جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي - مرفوعًا . وهذا لا يثبت من هذا الوجه .
ثم رواه من طريقين آخرين ، عن جابر ، عن أبي الطفيل ، عن علي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الزّهَرة ، فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت " . وهذا أيضًا لا يصح{[2376]} وهو منكر جدًا . والله أعلم .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعًا : لما كثر{[2377]} بنو آدم وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لا تهلكهم{[2378]} فأوحى الله إلى الملائكة : إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا . قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم . فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت الزُّهَرة إليهما في صورة{[2379]} امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت . قال : فوقعا بالخطيَّة{[2380]} . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ] .
فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختاروا{[2381]} عذاب الدنيا{[2382]} .
وقال : ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، أخبرنا عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن زيد بن أبي أنيسة ، عن المِنْهال بن عمرو ويونس بن خباب ، عن مجاهد ، قال : كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر ، فلما كان{[2383]} ذات ليلة قال لغلامه : انظر ، هل طلعت الحمراء ، لا مرحبًا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين . قالت الملائكة : يا رب ، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض ! قال : إني ابتليتهم ، فعلَّ{[2384]} إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون . قالوا : لا . قال : فاختاروا من خياركم اثنين . فاختاروا هاروت وماروت . فقال لهما : إني مهبطكما إلى الأرض ، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا . فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشَّبَق ، وأهبطت لهما الزُّهرة في أحسن صورة امرأة ، فتعرضت لهما ، فراوداها{[2385]} عن نفسها . فقالت : إني على دين لا يصح{[2386]} لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله . قالا وما دينك ؟ قالت : المجوسية . قالا الشرك ! هذا شيء لا نقر به . فمكثت عنهما ما شاء الله . ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها . فقالت : ما شئتما ، غير أن لي زوجًا ، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح ، فإن أقررتما لي بديني ، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت . فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ، ثم صعدا بها إلى السماء . فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما ، وقطعت أجنحتهما{[2387]} فوقعا خائفين نادمين يبكيان ، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين ، فإذا كان يوم الجمعة أجيب . فقالا لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب{[2388]} لنا التوبة فأتياه ، فقال : رحمكما الله{[2389]} كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء ! قالا إنا قد ابتلينا . قال : ائتياني{[2390]} يوم الجمعة . فأتياه ، فقال : ما أجبت فيكما بشيء ، ائتياني في الجمعة الثانية . فأتياه ، فقال : اختارا ، فقد خيرتما ، إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة ، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله . فقال أحدهما : إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل . وقال الآخر : ويحك ؟ إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن ، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى . وإننا يوم القيامة على حكم الله ، فأخاف أن يعذبنا . قال : لا إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا . قال : فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا في بكرات من حديد في قَلِيب مملوءة من نار ، عَاليهُمَا سافلَهما{[2391]}
وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر . وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح ، عن نافع ، عنه رفعه . وهذا أثبت وأصح إسنادًا . ثم هو - والله أعلم - من رواية ابن عمر عن كعب ، كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه . وقوله : إن الزُّهَرة نزلت في صورة امرأة حسناء ، وكذا في المروي عن علي ، فيه غرابة جدًّا .
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم : حدثنا عصام بن روّاد ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، حدثنا الربيع بن أنس ، عن قيس بن عباد ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما{[2392]} قال : لما وقع الناس من بعد آدم ، عليه السلام ، فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : يا رب ، هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام ، والزنا والسرقة وشرب الخمر . فجعلوا يدعون عليهم ، ولا يعذرونهم ، فقيل : إنهم في غَيْب . فلم يعذروهم . فقيل لهم : اختاروا منكم من أفضلكم ملكين ، آمرهما وأنهاهما . فاختاروا هاروت وماروت . فأهبطا إلى الأرض ، وجعل لهما شهوات بني آدم ، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام ، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر . فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس عليه السلام . وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزُّهرة في سائر الكواكب ، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها ، فسألاها{[2393]} عن دينها ، فأخرجت لهما صنمًا فقالت : هذا أعبده . فقالا لا حاجة لنا في عبادة هذا . فذهبا فغَبَرا ما شاء الله . ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها ، ففعلت مثل ذلك . فذهبا ، ثم أتيا عليها فراوداها{[2394]} على نفسها ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا هذا الصنم ، وإما أن تقتلا هذه النفس ، وإما أن تشربا هذا الخمر . فقالا كل هذا لا ينبغي ، وأهون هذا شرب الخمر . فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا{[2395]} المرأة ، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه{[2396]} فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ، وحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه ، فعجبوا كل العجب ، وعَرَفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية ، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض ، فنزل في ذلك : { وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ } [ الشورى : 5 ] فقيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له . فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان{[2397]} .
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري ، عن محمد بن عبد السلام ، عن إسحاق بن راهويه ، عن حكام بن سلم{[2398]} الرازي ، وكان ثقة ، عن أبي جعفر الرازي ، به . ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . فهذا أقرب ما روي في شأن الزُّهرة ، والله أعلم{[2399]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم ، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني{[2400]} حدثنا يزيد - يعني الفارسي - عن ابن عباس
[ قال ]{[2401]} أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي{[2402]} فقالوا : يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي ! فقال الله : أنتم معي ، وهم غُيَّب عني . فقيل لهم : اختاروا منكم ثلاثة ، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض ، على أن يحكموا بين أهل الأرض ، وجعل فيهم شهوة الآدميين ، فأمروا ألا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا نفسا ، ولا يزنوا ، ولا يسجدوا لوثن . فاستقال منهم واحد ، فأقيل . فأهبط اثنان إلى الأرض ، فأتتهما امرأة من أحسن الناس{[2403]} يقال لها : مناهية{[2404]} . فَهَويَاها جميعًا ، ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها ، فأراداها فقالت لهما : لا حتى تشربا خمري ، وتقتلا ابن جاري ، وتسجدا لوثني . فقالا لا نسجد . ثم شربا من الخمر ، ثم قتلا ثم سجدا . فأشرف أهل السماء عليهما . فقالت{[2405]} لهما : أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما . فأخبراها فطارت فمسخت جمرة . وهي هذه الزهَرة . وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فاختارا عذاب الدنيا . فهما مناطان بين السماء والأرض{[2406]} .
وهذا السياق فيه زيادات كثيرة وإغراب ونكارة ، والله أعلم بالصواب .
وقال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : قال قتادة والزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله : { وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } كانا ملكين من الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس . وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم ، فحاكمت إليهما امرأة ، فحافا لها . ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . وقال مَعْمَر : قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ }{[2407]} .
وقال أسباط عن السدي أنه قال : كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت بني آدم عشرًا من الشهوات ، فبها{[2408]} يعصونني . قال هاروت وماروت : ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل . فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس . فنزلا ببابل دَنْباوَند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا ، فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما{[2409]} حسنها - واسمها بالعربية " الزّهَرة " ، وبالنبطية " بيذخت " وبالفارسية " أناهيد " - فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني . قال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك . فقال الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها ؟ قال : نعم ولكن كيف لنا بعذاب الله ؟ قال الآخر : إنا لنرجو رحمة الله . فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي . فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خَربة من الخَرِب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك . فلما أراد الذي يواقعها قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها ؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله ما تنزل به ، فبقيت{[2410]} مكانها ، وجعلها{[2411]} الله كوكبًا . فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها ، فقال : هذه التي فتنت هاروت وماروت ، فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا ، فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فاختارا عذاب الدنيا ، فعلقا ببابل ، وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر .
وقال ابن أبي نَجِيح عن مجاهد : أما شأن هاروت وماروت ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم ، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات ، فقال لهم ربهم تعالى : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا فلم يألوا [ إلا ]{[2412]} هاروت وماروت ، فقال لهما حين أنزلهما : أعجبتما{[2413]} من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب [ والبينات ]{[2414]} من وَرَاء وَرَاء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا ، فأمرهما بأمر ونهاهما ، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما ، فحكما فعدلا . فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم ، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تُخَاصم ، فقضيا عليها . فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدتَ مثل الذي وجدتُ ؟ قال : نعم . فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك . فلما رجعت قالا وقضيا لها ، فأتتهما فتكشفا لها عن عورتيهما ، وإنما كانت شهوتهما{[2415]} في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها . فلما بلغا ذلك واستحلا افتُتنا ، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت . فلما أمسيا عَرَجا فزُجرا فلم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما . فاستغاثا برجل من بني آدم
فأتياه ، فقالا ادع لنا ربك . فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء ؟ قالا سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء . فوعدهما يومًا ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما ، فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقال : ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، وفي الدنيا تسع مرات مثلها ؟ فأمرا أن ينزلا ببابل ، فثَمَّ عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان بأجنحتهما .
وقد روى في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين ، كمجاهد والسدي والحسن [ البصري ]{[2416]} وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم ، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال .
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه ، قال : الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد ، حدثني هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [ رضي الله عنها وعن أبيها ]{[2417]} أنها قالت : قدمت امرأة عليَّ من أهل دومة الجندل ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حَدَاثة ذلك ، تسأله عن شيء{[2418]} دخلت فيه من أمر السحر ، ولم تعمل به . قالت عائشة ، رضي الله عنها ، لعُرْوَة : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها كانت تبكي حتى إني لأرحمها ، وتقول : إني أخاف أن أكون قد هلكت . كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك . فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبتُ أحدهما{[2419]} وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما . فقالا ما جاء بك ؟ فقلتُ : أتعلم{[2420]} السحر . فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري ، فارجعي . فأبيت وقلت : لا . قالا فاذهبي{[2421]} إلى ذلك التنور ، فبولي فيه . فذهبت ففزعتُ ولم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا أفعلت ؟ فقلت : نعم . فقالا هل رأيت شيئًا ؟ فقلت : لم أر شيئًا . فقالا لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري [ فإنك على رأس أمري ]{[2422]} . فأرْبَبْت وأبيت{[2423]} . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت فاقشعررت [ وخفت ]{[2424]} ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت . فقالا فما رأيت ؟ فقلت : لم أر شيئًا . فقالا كذبت ، لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري{[2425]} ؛ فإنك على رأس أمرك . فأرببتُ وأبيتُ . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور ، فبولي فيه . فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسًا مقنعًا{[2426]} بحديد خَرَج مني ، فذهب في السماء وغاب [ عني ]{[2427]} حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت . فقالا فما رأيت ؟ قلت : رأيت فارسًا مقنعًا خرج مني فذهب في السماء ، حتى ما أراه . فقالا صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي . فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا . فقالت : بلى ، لم تريدي شيئًا إلا كان ، خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت : أطلعي{[2428]} فأطلعت{[2429]} وقلت : أحقلي فأحقلت {[2430]} ثم قلت : أفْركي فأفرَكَتْ . ثم قلت : أيبسي فأيبست{[2431]} . ثم قلت : أطحني فأطحنت{[2432]} . ثم قلت : أخبزي فأخبزت{[2433]} . فلما رأيتُ أني لا أريد شيئًا إلا كان ، سقط في يدي وندمت - والله - يا أم المؤمنين والله ما فعلت شيئًا قط ولا أفعله أبدًا{[2434]} .
ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان ، به مطولا كما تقدم{[2435]} . وزاد بعد قولها : ولا أفعله أبدًا : فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يومئذ متوافرون ، فما دَرَوا ما يقولون لها ، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه ، إلا أنه قد قال لها ابن عباس - أو بعض من كان عنده - : لو كان أبواك حيين أو أحدهما [ لكان يكفيانك ]{[2436]} .
قال هشام : فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان [ قال ]{[2437]} : قال ابن أبي الزناد : وكان هشام يقول : إنهم كانوا أهل الورع والخشية{[2438]} من الله . ثم يقول هشام : لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم .
فهذا إسناد جيد إلى عائشة ، رضي الله عنها .
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن{[2439]} الساحر له تمكن في قلب الأعيان ؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال .
وقال آخرون : بل ليس له قدرة إلا على التخييل ، كما قال [ الله ]{[2440]} تعالى : { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 116 ] وقال تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [ طه : 66 ] .
واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق ، لا بابل دُنْباوَنْد{[2441]} كما قاله السدي وغيره . ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال{[2442]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثني ابن وهب ، حدثني ابن لَهِيعة ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه [ مر ببابل وهو يسير ، فجاء المؤذن يُؤْذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ ] قال : إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي [ بأرض المقبرة ، ونهاني أن أصلي ] ببابل فإنها ملعونة{[2443]} .
وقال أبو داود : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن لَهِيعة ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري : أن عليا مر ببابل ، وهو يسير ، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر ، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال : إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة ، ونهاني أن أصلي بأرض بابل ، فإنها ملعونة .
حدثنا أحمد بن صالح : حدثنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة ، عن الحجاج بن شداد ، عن أبي صالح الغفاري ، عن علي ، بمعنى حديث سليمان بن داود ، قال : فلما " خرج " مكان " برز " {[2444]} .
وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود ، لأنه رواه وسكت عنه{[2445]} ؛ ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل ، كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم ، إلا أن يكونوا باكين .
قال أصحاب الهيئة : وبُعْدُ ما بين بابل ، وهي من إقليم العراق ، عن البحر المحيط الغربي ، ويقال له : أوْقيانُوس{[2446]} سبعون درجة ، ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب ، وهو المسامت لخط الاستواء ، اثنان{[2447]} وثلاثون درجة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن قيس{[2448]} بن عباد ، عن ابن عباس ، قال : فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي ، وقالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان ، فعرفا أن السحر من الكفر{[2449]} . [ قال ]{[2450]} فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا ، فإذا أتاه عاين الشيطان فَعلمه ، فإذا تعلم خرج منه النور ، فنظر{[2451]} إليه ساطعًا في السماء ، فيقول : يا حسرتاه ! يا ويله ! ماذا أصنع{[2452]}
وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم ، أنزل الملكان بالسحر ، ليعلما{[2453]} الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس ، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } رواه ابن أبي حاتم ، وقال قتادة : كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدًا حتى يقولا { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } - أي : بلاء ابتلينا به - { فَلا تَكْفُرْ }
وقال [ قتادة و ]{[2454]} السدي : إذا أتاهما إنسان يريد السحر ، وعظاه ، وقالا له : لا تكفر ، إنما نحن فتنة . فإذا أبى قالا له : ائت هذا الرماد ، فبُلْ عليه . فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء ، وذلك الإيمان . وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه وكلِّ شيء [ منه ]{[2455]} . وذلك غضب الله . فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر ، فذلك قول الله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ } الآية .
وقال سُنَيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج في هذه الآية : لا يجترئ على السحر إلا كافر .
وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار ، ومنه قول الشاعر :
وقد فُتن النَّاسُ في دينهم *** وخَلَّى ابنُ عفان شرًا طويلا{[2456]} وكذلك{[2457]} قولُه تعالى إخبارًا عن موسى ، عليه السلام ، حيث قال : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ } أي : ابتلاؤك واختبارك وامتحانك { تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } [ الأعراف : 155 ]{[2458]} .
وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر ، ويُستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ، عن عبد الله ، قال : من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا إسناد جيد{[2459]} وله شواهد أخر .
وقوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي : فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة ، ما إنهم ليفَرِّقُون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف . وهذا من صنيع الشياطين ، كما رواه مسلم في صحيحه ، من حديث الأعمش ، عن أبي سفيان طلحة بن نافع ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه{[2460]} عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه في الناس ، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا . فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئًا . ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله{[2461]} قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ، ويقول : نِعْم أنت{[2462]} .
وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر : ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر ، أو خلق أو نحو ذلك أو عَقد أو بَغْضه ، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة .
والمرء عبارة عن الرجل ، وتأنيثه امرأة ، ويثنى كل منهما ولا يجمعان ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال سفيان الثوري : إلا بقضاء الله . وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد . وقال الحسن البصري : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } قال : نَعَم ، من شاء الله سلطهم عليه ، ومن لم يشأ الله لم يسلط ، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله ، كما قال الله تعالى ، وفي رواية عن الحسن أنه قال : لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه .
وقوله تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ } أي : يضرهم في دينهم ، وليس له نفع يوازي ضرره .
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي : ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول{[2463]} صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك ، أنه ما له في الآخرة من خلاق .
قال ابن عباس ومجاهد والسدي : من نصيب . وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : ما له في الآخرة من جهة عند الله{[2464]} وقال : وقال الحسن : ليس له دين .
وقال سعد{[2465]} عن قتادة : { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } قال : ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة .
وقوله تعالى : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
يقول تعالى : { ولبئس } البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان ، ومتابعة الرسل{[2466]} لو كان لهم علم بما وعظوا به/خ103