{ واتبعوا مَا تَتْلُو الشياطين } ، أي ما كتبت الشياطين ويقال : ما ألقت الشياطين ويقال : ما افتعلته الشياطين { على مُلْكِ سليمان } ، أي على عهد ملك سليمان . ويقال : { على } بمعنى في ، أي في ملك سليمان . ويقال : في وقت ذهاب ملك سليمان . ويقال : هذا منسوق على الأول ، فكأنّه قال : نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلو الشياطين ، أي تركوا سنة أنبياء الله واتبعوا السحر . ويقال : تركوا شيئين واتبعوا شيئين : تركوا اتباع الكتب واتباع الرسل والعمل بذلك ، واتبعوا ما تتلو الشياطين أي ترويه الشياطين { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هاروت وماروت } .
واختلفوا في سبب ذلك ، فقال بعضهم إن سليمان عليه السلام أمر بأن لا يتزوج المرأة من غير بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل يقال لها : ضبنة بنت صابورا ، فعاقبه الله تعالى بأن أجلس مكانه شيطاناً ؛ وكان الناس يظنون أنه سليمان وأشكل عليهم أمره ، فجاؤوا إلى آصف بن برخيا ، وكان معلم سليمان بن داود في حال صغره وكان وزيره في حال كبره وملكه فقالوا له : إن قضاياه لا تشبه قضايا سليمان . فقام آصف ودخل على نساء سليمان فسألهن عن ذلك فقلن : إن كان هذا سليمان فقد هلكتم والله ما يعتزل منا حائضاً ، وما يغتسل من جنابة . هكذا ذكر في رواية الكلبي .
وقال بعضهم : هذا خطأ لأن نساء الأنبياء معافيات معصومات عن الفواحش ، فلا يجوز أن يظن بهن أن الشيطان يقربهن . وقال بعضهم : كان هذا على وجه الخيال لا على وجه الحقيقة ، لأن الشيطان روحاني وليس له جسم ، فلا يجوز أن تقع بينه وبين آدمي شهوة ولكن كان يريهن ذلك على وجه الخيال . فلما عرف الشيطان أن الناس علموا بحاله ، كتب سحراً كثيراً وجعله تحت كرسيه وألقى خاتم سليمان في البحر وهرب . وكان سليمان عليه السلام خرج إلى ساحل البحر وأجَّر نفسه للملاحين كل يوم بسمكتين ، فلما أعطوه أجره ، باع إحداهما واشترى به الخبز وشق بطن الأخرى ، فوجد الخاتم في بطنها فرجع إلى ملكه ؛ فلما توفي سليمان جاء الشيطان على صورة آدمي وقال : إن أردتم أن تعلموا علم سليمان بن داود عليهما السلام فانظروا تحت كرسيه . فنظروا وحفروا ذلك الموضع وأخرجوا كتباً كثيرة فوجدوا فيها السحر والكفر ، فقال العلماء منهم : لا يجوز أن يكون هذا من علم سليمان ، وقال السفهاء منهم : بل هذا من علم سليمان واتبعوه ، فنزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء عذراً لسليمان عليه السلام .
ثم قال تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان وَمَا كَفَرَ سليمان } ، أي ما كان ساحراً .
وفي الآية دليل أن الساحر كافر لأنه سمى السحر كفراً . وروي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى جزء بن معاوية وهو عم الأحنف بن قيس ، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . ثم قال تعالى : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } ، أي هم الذين كتبوا السحر . قرأ حمزة والكسائي { ولكن الشياطين } بكسر النون من غير تشديد ورفع النون في { الشياطينُ } وقرأ الباقون بتشديد النون مع النصب { ولكن الشياطين } وبفتح النون في { الشياطين } . وهذا هو الأصل في اللغة ، أن كلمتي إن ولكن إذا كانا مشددين ينصب ما بعدهما ، وإن لم يكونا مشددين يرفع ما بعدهما .
وقال بعضهم لنزول هذه الآية سبب آخر ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويعلمون الناس السحر والنيرنجات ، فكان سليمان يأخذ ذلك منهم ويدفنه تحت الأرض ، فلما مات سليمان قالت الشياطين للناس : إن علم سليمان مدفون في موضع كذا وكذا ، فحفروا ذلك الموضع وأخرجوا منه كتباً كثيرة . وقال بعضهم : معناه أن سليمان كان إذا أصبح كل يوم ، رأى نباتاً بين يديه فيقول له : لأي دواء أنت ؟ فيقول : إني دواء لكذا وكذا ، وإن اسمي كذا كذا . فكان سليمان يكتب ذلك ويدفنه ، فنبت يوماً من الأيام نبات بين يديه فقال له سليمان : ما اسمك ؟ فقال : خرنوب . فقال له : لأي دواء أنت ؟ فقال : إني لخراب المسجد . فعلم سليمان أنه قد جاء أجله ، لأنه علم أن المسجد لا يخرب في حياته ، وكان له صحيفة فيها يكتب أسماء الأدوية ويضعها في الخزانة ، فكتبت الشياطين سحراً ووضعوه في ذلك الموضع ، فلما مات سليمان وجدوا ذلك في كتبه فاتبعه بعض الناس فذلك قوله : { وَمَا كَفَرَ سليمان ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ الناس السحر } .
ثم قال : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } ، أي واتبعوا الذي أنزل على الملكين { بِبَابِلَ هاروت وماروت } . وقال القاضي الخليل بن أحمد قال : حدثنا الماسرجي فقال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا حكام بن سلم الرازي قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن قيس بن عباد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين ببابل هاروت وماروت } . قال : إن الناس بعد آدم وقعوا في الشرك ، واتخذوا هذه الأصنام ، وعبدوا غير الله تعالى ، فجعلت الملائكة يدعون عليهم ويقولون : ربنا خلقت عبادك فأحسنت خلقهم ، ورزقتهم فأحسنت رزقهم ، فعصوك وعبدوا غيرك . فقال لهم الرب عز وجل : إنهم في عذر ، وقيل : في عيب فجعلوا لا يعذرونهم ولا يقبلون ويدعون عليهم . فقال لهم الرب : اختاروا منكم اثنين . فأهبطهما إلى الأرض فآمرهما وأنهاهما ، فاختاروا هاروت وماروت ؛ فأهبطهما الله تعالى إلى الأرض فأمرهما ونهاهما عن الزنى وقتل النفس وشرب الخمر ، فمكثا زماناً في الأرض يحكمان بالحق . وكان في ذلك الزمان امرأة فضِّلت بالحسن على سائر النساء ، فأتيا عليها فخضعا لها بالقول وراوداها عن نفسها فقالت : لا حتى تصليا لهذا الصنم ، أو تقتلا هذه النفس ، أو تشربا هذه الخمر .
فقالا : أهون الثلاثة شرب الخمر . فلما شربا الخمر سجدا للصنم وفعلا بالمرأة وقتلا النفس ، فكشف الغطاء فيما بينهما وبين الملائكة ، فنظروا إليهما وما يفعلان ، فجعلت الملائكة يعذرون بني آدم أهل الأرض ويستغفرون لمن فيها فقيل لهاروت وماروت : اختارا إما عذاب الدنيا وإما عذاب الآخرة . فقالا : عذاب الدنيا يذهب وينقطع وعذاب الآخرة لا انقطاع له ثم اختاروا عذاب الدنيا . فهما يعذبان إلى يوم القيامة .
وروي في الخبر أن المرأة تعلمت منهما اسم الله الأعظم ، فصعدت به إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكباً . ويقال : هو الكوكب الذي يقال له الزهرة . وروي عن ابن عمر أنه كان إذا نظر إلى الزهرة لعنها ويقول : هي التي فتنت هاروت وماروت . وروي عن علي رضي الله عنه هذا . وقال بعضهم : هذا لا يصح ، لأن هذا الكوكب قد كان خلقه في الأصل حين خلق النجوم ، وجعل مقادير الأشياء على سبع من الكواكب ، وجعل لكل كوكب سلطاناً ، وجعل سلطان الزهرة الرطوبة . وقال بعضهم : إن كوكب الزهرة قد كان ، ولكن الله تعالى مسخ هذه المرأة على شبه الكوكب فهي تعذب هناك . وقال بعضهم : قد صارت إلى النار ، كما أن سائر الأشياء التي مسخت لم يبق منها أثر فذلك قوله تعالى : { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } ، يعني اليهود اتبعوا { ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } .
{ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى } ، قال بعضهم : هذا الحرف أعني { مَا } للنفي ، فكأنه يقول : ولم ينزل على الملكين السحر . وقال بعضهم : إن إبليس لعنه الله قد جاء بالسحر ووضعه عند أقدامهما ، وهما معلقان بالسلة فتذهب اليهود تتعلم السحر من تلك الكتب والملكين . { يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } ، أي فلا تتعلم السحر ، لأنه لا يجوز للملكين أن يعلِّما الكفر . وقال بعضهم : ويبينان أن عمل السحر كفر ، وينهيان عن التعلم ويبيِّنان كيفية السحر وهو بمنزلة رجل قال لآخر : علِّمني ما الزنى أو علمني ما السرقة فيقول : إن الزنى كذا وكذا ، وهو حرام فلا تفعل وإن السرقة كذا وكذا هي حرام فلا تفعل . كذلك هاهنا الملكان يقولان : السحر كذا وكذا ، وهو كفر فلا تكفر . وقرأ بعضم { وَمَا أُنزِلَ عَلَى الملكين } بكسر اللام وهي قراءة شاذة ، يعني كانا ملكين في بني إسرائيل فمسخهما الله تعالى . وقوله : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فلا تكفر } أي اختبار وابتلاء . وأصل الفتنة الاختبار .
قوله : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } أي من الملكين : { مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } ، أي فيتعلمون منهما من السحر ما يفرقون به بين الرجل وزوجته ، يؤخذ الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على الجماع .
ثم قال تعالى : { وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ، أي بإرادة الله تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } ، أي ما يضر في الدنيا ولا ينفعهم في الآخرة ، يعني السحر . { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } ، يعني اليهود علموا في التوراة أن من اختار السحر { ما له في الآخرة من خلاق } يعني نصيب . والخلاق في اللغة : هو النصيب الوافر . { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، أي باعوا به ، يعني بئسما باعوا به أنفهسم . ويقال : بئس ما اختاروا لأنفسهم السحر على كتاب الله تعالى وسنن أنبيائه لو كانوا يعلمون ، ولكنهم لا يعلمون . فإن قيل : ذكر في الآية الأولى : { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } وفي هذه الآية يقول : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فمرة يقول : يعلمون ، ومرة يقول : لا يعلمون . فالجواب أن يقال : إنهم يعلمون ولكن لا منفعة لهم في علمهم ، وكل عالم لا يعمل بعلمه فليس بعالم ، لأنه يتعلم العلم لكي ينتفع به ، فإذا لم ينتفع به فكأنه لم يتعلم ، فكذلك ها هنا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، لو كانوا يعرفون للعلم حقه .