صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف  
{وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (102)

{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ } أقبل اليهود لما نبذوا التوراة على كتب السحرة من أهل بابل ، التي كانت تخبرها الشياطين الكهنة في عهد سليمان ، وزعموا أنها علم سليمان ، وأنه كان ساحرا ولم يتم له الملك والسلطان على الإنس والجن والطير والريح إلا به ، فأكذبهم بهذه الآية . فالتلاوة بمعنى الإخبار والتحديث . ولتضمن الفعل معنى الكذب عدى بعلى .

{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } الضمير للشياطين أو لليهود . وقد ذكر العلامة ابن خلدون في مقدمته : أن السحر والطلمسات علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثير في عالم العناصر بغير آلة ولا معين . أو بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد وبعض الموجودات . فالنفوس الساحرة تؤثر بالهمة والتوجه في الأشياء فإن كان بغير معين وآلة فهو السحر ، وإن كان بمعين فهو الطلسم . وأن هذه العلوم كانت شائعة في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين ، وفي أهل مصر من القبط وغيرهم قبل بعثة موسى عليه السلام . وكان لها في زمن بعثته أسواق نافقة ، ولهذا كانت معجزته من جنس ما يدعون ويتنازعون فيه .

وهناك نوع ثالث من التاثير ، وهو تأثير النفوس في القوى المتخيلة بإلقاء أنواع من الخيالات والمحاكاة والصور فيها ، حتى ترى كأنها واقعية وليست إلا خيالا ، وهو المسمى بالشعوذة . وأن خلاف العلماء في أن السحر حقيقة أو تخييل خلاف لفظي . فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى النوعين الأولين ، والقائلون بأنه تخييل نظروا إلى النوع الثالث . والشريعة لم تفرق بين السحر والطلمسات وحرمتها جميعا لما فيها من الضرر .

وأما النوع الثالث فقد قال ابن خلدون : إنه ملحق بهذه ين النوعين في التحريم ، لما فيه من الضرر والحق أن لا يحرم منه إلا ما فيه مضرة ، وأما ما ليس فيه مضرة فلا بحرم ، وإنما ينبغي تركه لأنه لا يعني الجادين ، و ( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ) . وما جاء في الحديث من عد السحر من الكبائر وعده كفرا ، إذا كان الساحر يتجه في رياضته بالتعظيم والعبادة والخضوع والتذلل لغير الله تعالى ، فهو محمول على النوعين الأولين .

ثم ذكر الفرق بين المعجزة والسحر بأنه راجع إلى التحدي ، وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما ادعاه ، وأن الساحر مصروف عن مثل هذا التحدي ، فلا يصح منه . ووقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور ، فراجعه . وفي الآية إشارة إلى أن السحر موجب للكفر .

{ وما أنزل على الملكين ببابل } أي ويعلمون ما أنزل على المالكين : هاروت وماروت ، ببابل ، أي ما ألهماه وعلماه من السحر . وعطفه على ما قبله لتنزيل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات ، وكان نزولهما لتعليم السحر ابتلاء من الله تعالى

وامتحانا للناس . فمن تعلمه وعمل به كفر ، من تعلمه وتوقي العمل به ثبت على الإيمان ، والله تعالى وامتحانا للناس ، كما امتحن قوم طالوت بالنهر ، وكانا يحذران الناس أشد التحذير من العمل به ، فلا بصفاته لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال فيه حتى يبذلا له النصيحة فيقولا له : { إنما نحن فتنة فلا تكفر } .

وكذلك كان للتمييز بين السحر والمعجزة ، حيث كثر في ذلك الزمان ، وأظهر السحرة من الشبه ، ويميطا الأذى عن الطريق .

والطاهر أنهما نزلا بصورة آدمية ، ولا بعد في ذلك ، فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بصورة دحية الكلبي وغيرة .

وما يروه المفسرون في قصة هاروت وماروت لا أصل له ، وهومن أكاذيب الإسرائيليين فلا يعول عليه .

وقد أنكره من الأئمة : القاضي عياض والإمام الرازي والشهاب العراقي وابن كثير والآلوسي .

{ إنما نحن فتنة } ابتلاء من الله ، واختبار للناس ، أيتبعون النصح ولا يعملون السحر ، أم يخالفونه ويعملون السحر . من الفتن ، إدخال الذهب النار لتظهر جودته من ردائته . ثم استعمل في الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد ، وبالمنح واللطائف ، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة . وأكثر ما تستعمل في الفتنة : الامتحان بالمحن . وعليه يحمل تفسير بعضهم الفتنة بالمحنة .

وابتلاء الله العباد ، ليس ليعلم أحوالهم ، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لانهاية له على سبيل التفصيل من الأزل ، ولكن ليعلم العباد أحوالهم من ظهور جودة ورداءة ، وهي الأحوال التي يعلمها الله تعالى أزلا .

{ خلاق } نصيب من الخير ، هو ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة وتخلق به . وفسر الخلاق : بالقوام وبالقدر ، والمعاني متقاربة .