في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡۚ وَلَقَدۡ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖۚ وَلَبِئۡسَ مَا شَرَوۡاْ بِهِۦٓ أَنفُسَهُمۡۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (102)

75

ثم ماذا ؟ ماذا بعد أن نبذوا كتاب الله المصدق لما معهم ؟ ؟ ألعلهم قد لاذوا بما هو خير منه ؟ ألعلهم قد لجأوا إلى حق لا شبهة فيه ؟ ألعلهم قد استمسكوا بكتابهم الذي جاء القرآن يصدقه ؟ كلا . . لا شيء من هذا كله . إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ليجروا خلف أساطير غامضة لا تستند إلى حقيقة ثابتة .

( واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، وما كفر سليمان ، ولكن الشياطين كفروا . يعلمون الناس السحر ، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . وما يعلمان من أحد حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر . فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه - وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله - ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم . ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون . ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ) . .

لقد تركوا ما أنزل الله مصدقا لما معهم ؛ وراحوا يتتبعون ما يقصه الشياطين عن عهد سليمان ، وما يضللون به الناس من دعاوى مكذوبة عن سليمان ، إذ يقولون : إنه كان ساحرا ، وإنه سخر ما سخر عن طريق السحر الذي كان يعلمه ويستخدمه .

والقرآن ينفي عن سليمان - عليه السلام - أنه كان ساحرا ، فيقول :

( وما كفر سليمان ) .

فكأنه يعد السحر واستخدامه كفرا ينفيه عن سليمان - عليه السلام - ويثبته للشياطين :

( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . .

ثم ينفي أن السحر منزل من عند الله على الملكين : هاروت وماروت . اللذين كان مقرهما بابل :

( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) . .

ويبدو أنه كانت هناك قصة معروفة عنهما ، وكان اليهود أو الشياطين يدعون أنهما كانا يعرفان السحر ويعلمانه للناس ، ويزعمان أن هذا السحر أنزل عليهما ! فنفى القرآن هذه الفرية أيضا . فرية تنزيل السحر على الملكين .

ثم يبين الحقيقة ، وهي أن هذين الملكين كانا هناك فتنة وابتلاء للناس لحكمة مغيبة . وأنهما كانا يقولان لكل من يجيء اليهما ، طالبا منهما أن يعلماه السحر :

( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ) . .

ومرة أخرى نجد القرآن يعتبر السحر وتعلمه واستخدامه كفرا ؛ ويذكر هذا على لسان الملكين : هاروتوماروت .

وقد كان بعض الناس يصر على تعلم السحر منهما ، على الرغم من تحذيره وتبصيره . وعندئذ تحق الفتنة على بعض المفتونين :

( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) . .

وهو الأذى والشر الذي حذرهم منه الملكان . .

وهنا يبادر القرآن فيقرر كلية التصور الإسلامي الأساسية ، وهي أنه لا يقع شيء في هذا الوجود إلا بإذن الله :

( وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ) . .

فبإذن الله تفعل الأسباب فعلها وتنشىء آثارها وتحقق نتائجها . . وهذه قاعدة كلية في التصور لا بد من وضوحها في ضمير المؤمن تماما . وأقرب ما يمثل هذه القاعدة في مثل هذا المقام ، أنك إذا عرضت يدك للنار فإنها تحترق . ولكن هذا الاحتراق لا يكون إلا بإذن الله . فالله هو الذي أودع النار خاصية الحرق وأودع يدك خاصية الاحتراق بها . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها ؛ كما وقع لإبراهيم - عليه السلام - وكذلك هذا السحر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه ، ينشىء هذا الأثر بإذن الله . وهو قادر على أن يوقف هذه الخاصية فيه حين لا يأذن لحكمة خاصة يريدها . . وهكذا بقية ما نتعارف عليه بأنه مؤثرات وآثار . . كل مؤثر مودع خاصية التأثير بإذن الله ، فهو يعمل بهذا الإذن ، ويمكن أن يوقف مفعوله كما أعطاه هذا المفعول حين يشاء . .

ثم يقرر القرآن حقيقة ما يتعلمون ، وما يفرقون به بين المرء وزوجه . . إنه شر عليهم هم أنفسهم لا خير :

( ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ) . .

ويكفي أن يكون هذا الشر هو الكفر ليكون ضرا خالصا لا نفع فيه !

( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) . .

ولقد علموا أن الذي يشتريه لا نصيب له في الآخرة ، فهو حين يختاره ويشتريه يفقد كل رصيد له في الآخرة وكل نصيب . .

فما أسوأ ما باعوا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة الصفقة :

( ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ) . .

/خ103