{ قل هو الذي ذراكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين . قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين* فلما رأوه } يعني : العذاب في الآخرة -على قول أكثر المفسرين- وقال مجاهد : يعني العذاب ببدر ، { زلفةً } أي قريباً ، وهو اسم يوصف به المصدر ، ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والاثنان والجميع ، { سيئت وجوه الذين كفروا } اسودت وعلتها الكآبة ، فالمعنى قبحت وجوههم بالسواد ، يقال : ساء الشيء يسوء فهو سيء إذا قبح ، وسيء يساء إذا قبح ، { وقيل } لهو الذي قال لهم الخزنة ، { هذا } أي هذا العذاب ، { الذي كنتم به تدعون } تفتعلون من الدعاء ، أي : أن تدعوه وتتمنوه أن يعجل لكم ، وقرأ يعقوب { تدعون } بالتخفيف ، وهي قراءة قتادة ، ومعناهما واحد ، مثل تذكرون وتذكرون .
{ 27 - 30 } { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ }
يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا ، فإذا كان يوم الجزاء ، ورأوا العذاب منهم { زُلْفَةً } أي : قريبًا ، ساءهم ذلك وأفظعهم ، وقلقل أفئدتهم ، فتغيرت لذلك وجوههم ، ووبخوا على تكذيبهم ، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون ، فاليوم رأيتموه عيانًا ، وانجلى لكم الأمر ، وتقطعت بكم الأسباب ولم يبق إلا مباشرة العذاب .
ثم حكى - سبحانه - حالهم عندما يرون العذاب الذي استعجلوه فقال : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } .
والفاء في قوله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً . . . } هي الفصيحة ، و { لما } ظرف بمعنى حين .
و { رأوه } مستعمل في المستقبل ، وجئ به بصيغة الماضي لتحقق الوقوع ، كما في قوله - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } و { زُلْفَةً } اسم مصدر لأزلف إزلافا ، بمعنى القرب . ومنه قوله - تعالى - : { وَأُزْلِفَتِ الجنة . . . } أي : قربت للمتقين ، وهو حال من مفعول { رَأَوْهُ } .
والمعنى : لقد حل بالكافرين العذاب الذي كانوا يستعجلونه ويقولون : متى هذا الوعد ، فحين رأوه نازلا بهم ، وقريبا منهم { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } أي : ساءت رؤيته وجوههم ، وحلت عليها غبرة ترهقها قترة .
{ وَقِيلَ } لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب { هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } أي : هذا هو العذاب الذي كنتم تتعجلون وقوعه في الدنيا ، وتستهزئون بمن يحذركم منه .
فقوله : { تَدَّعُونَ } من الدعاء ، بمعنى الطلب ، أو من الدعوى .
{ سِيئَتْ } فعل مبني للمجهول . وأسند - سبحانه - حصول السوء إلى الوجوه ، لتضمينه معنى كلحت وقبحت واسودت ، لأن الخوف من العذاب قد ظهرت آثاره على وجوههم .
وقال - سبحانه - { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } بالإظهار ، ولم يقل وجوههم ، لذمهم بصفة الكفر ، التي كانت السبب في هلاكهم .
ومفعول { تَدَّعُونَ } محذوف ، والتقدير : وقيل لهم هذا الذي كنتم تدعون عدم وقوعه قد وقع ، وها أنتم تشاهدونه أمام أعينكم .
والجار والمجرور في قوله { بِهِ } متعلق بتدعون ، لأنه مضمن معنى تكذبون .
والقائل لهم هذا القول : هم خزنة النار ، على سبيل التبكيت لهم .
وبينما هم يسألون في شك ويجابون في جزم ، يخيل السياق القرآني كأن هذا اليوم الذي يسألون عنه قد جاء ، والموعد الذي يشكون فيه قد حان ؛ وكأنما هم واجهوه الآن . فكان فيه ما كان :
( فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ، وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون ) !
فقد رأوه قريبا مواجها لهم حاضرا أمامهم دون توقع ودون تمهيد . فسيئت وجوههم ، وبدا فيها الاستياء . ووجه إليهم التأنيب : ( وقيل : هذا الذي كنتم به تدعون ) . . هذا هو حاضرا قريبا . وهو الذي كنتم تدعون أنه لن يكون !
وهذه الطريقة في عرض ما سيكون تتكرر في القرآن ، لمواجهة حالة التكذيب أو الشك بمفاجأة شعورية تصويرية تقف المكذب أو الشاك وجها لوجه مع مشهد حاضر لما يكذب به أو يشك فيه .
ثم هي في الوقت ذاته تصور حقيقة . فهذا اليوم كائن في علم الله ؛ أما خط الزمن بينه وبين البشر فهو قائم بالقياس إلى البشر . وهي مسألة نسبية لا تمثل الحقيقة المجردة كما هي في حساب الله . ولو أذن الله لرأوه اللحظة كما هو في علم الله . فهذا الانتقال المفاجئ لهم من الدنيا إلى الآخرة ، ومن موقف الشك والارتياب إلى موقف المواجهة والمفاجأة ، يشير إلى حقيقة قائمة لو أذن الله بها لانكشفت لهم . في الوقت الذي يصور لهم هذه الحقيقة تصويرا يهز مشاعرهم .
قال الله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ، ورأوا أن الأمر كان قريبا ؛ لأن كل ما هو آتٍ آتٍ وإن طال زمنه ، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك ، لما يعلمون ما لهم هناك من الشر ، أي : فأحاط بهم ذلك ، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب ، { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا{[29120]} وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الزمر : 47 ، 48 ] ؛ ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ : { هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } أي : تستعجلون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.