قوله تعالى : { خلق الإنسان من عجل } اختلفوا فيه ، فقال قوم : معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع ، كما قال الله تعالى : ( وكان الإنسان عجولاً ) قال سعيد بن جبير ، والسدي : لما دخلت الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قائما قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة ، فوقع فقيل : خلق الإنسان من عجل والمراد بالإنسان آدم وأورث أولاده العجلة ، والعرب تقول : للذي يكثر منه الشيء : خلقت منه ، كما يقول خلقت من تعب ، وخلقت من غضب تريد المبالغة في وصفه بذلك ، يدل على هذا قوله تعالى : { وكان الإنسان عجولا } وقال قوم : معناه خلق الإنسان يعني آدم من تعجيل في خلق الله إياه ، لأن خلقه كان بعد خلق كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة ، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس . وقال مجاهد : فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس . وقيل : بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة وغيرها . وقال قوم : من عجل ، أي : من طين ، قال الشاعر :
والنبع في الصخرة الصماء منبتة *** والنخل ينبت بين الماء والعجل
{ سأريكم آياتي فلا تستعجلون } هذا خطاب للمشركين . نزل هذا في المشركين كانوا يستعجلون العذاب ، ويقولون : أمطر علينا حجارة من السماء ، وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ، فقال تعالى : ( سأريكم آياتي ) أي : مواعيدي ( فلا تستعجلون ) أي فلا تطلبوا العذاب من قبل وقته ، فأراهم يوم بدر ، وقيل : كانوا يستعجلون القيامة .
{ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ْ } أي : خلق عجولا ، يبادر الأشياء ، ويستعجل بوقوعها ، فالمؤمنون ، يستعجلون عقوبة الله للكافرين ، ويتباطئونها ، والكافرون يتولون{[530]} ويستعجلون بالعذاب ، تكذيبا وعنادا ،
ثم بين - سبحانه - ما جبل عليه الإنسان من تسرع وتعجل فقال : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } .
والعجَل : طلب الشىء وتحريه قبل أوانه ، وهو ضد البطء .
والمعنى : خلق جنس الإنسان مجبولا على العجلة والتسرع فتراه يستعجل حدوث الأشياء قبل وقتها المحدد لها ، مع أن ذلك قد يؤدى إلى ضرره .
فالمراد من الآية الكريمة وصف الإنسان بالمبالغة فى تعجل الأمور قبل وقتها ، حتى لكأنه مخلوق من نفس التعجل . والعرب تقول : فلان خلق من كذا ، يعنون بذلك المبالغة فى اتصاف هذا الإنسان بما وصف به ، ومنه قولهم خلق فلان من كرم ، وخلقت فلانة من الجمال .
وقوله : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } تهديد وزجر لأولئك الكافرين الذين كانوا يستعجلون العذاب .
أى : سأريكم عقابى وانتقامى منكم - أيها المشركون - فلا تتعجلوا ذلك فإنه آت لا ريب فيه .
قال ابن كثير : والحكمة فى ذكر عجلة الإنسان هنا : أنه - سبحانه - لما ذكر المستهزئين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وقع فى النفوس سرعة الانتقام منهم . فقال - سبحانه - : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } لأنه - تعالى - يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، ويُنْظِر ثم لا يؤخر ، ولهذا قال : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } أى : نقمى واقتدارى على من عصانى { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } .
وقال الآلوسى : " والنهى عن استعجالهم إياه - تعالى - مع أن نفوسهم جبلت على العجلة ، ليمنعوها عما تريده وليس هذا من التكليف بما لا يطاق . لأنه - سبحانه - أعطاهم من الأسباب ما يستطيعون به كف النفس عن مقتضاها ، ويرجع هذا النهى إلى الأمر بالصبر " .
ثم هم يستعجلون بما ينذرهم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من عذاب ؛ ويحذرهم من عاقبته . والإنسان بطبعه عجول :
( خلق الإنسان من عجل . سأريكم آياتي فلا تستعجلون . ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ! ) . .
( خلق الإنسان من عجل ) . . فالعجلة في طبعه وتكوينه . وهو يمد ببصره دائما إلى ما وراء اللحظة الحاضرة يريد ليتناوله بيده ، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله ، ويريد أن يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه . ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن ، ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه . والإيمان ثقة وصبر واطمئنان .
القول في تأويل قوله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَىَ هََذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره : خُلِقَ الإنْسانُ يعني آدم مِنْ عَجَلٍ .
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : من عَجَل في بنيته وخلقته كان من العجلة ، وعلى العجلة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد في قوله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال : لما نفخ فيه الروح في ركبتيه ذهب لينهض ، فقال الله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما نُفخ فيه يعني في آدم الروح ، فدخل في رأسه عطس ، فقالت الملائكة : قل الحمد لله فقال : الحمد لله . فقال الله له : رحمك ربك فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ يقول : خلق الإنسان عجولاً .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال : خلق عجولاً .
وقال آخرون : معناه : خلق الإنسان من عجل ، أي من تعجيل في خلق الله إياه ومن سرعة فيه وعلى عجل . وقالوا : خلقه الله في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس على عجل في خلقه إياه قبل مغيبها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال : قول آدم حين خُلق بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق ، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم تبلغ أسفله ، قال : يا ربّ استعجل بخلقي قبل غروب بالشمس .
حدثني الحارث ، قال حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال آدم حين خُلق بعد كلّ شيء ثم ذكر نحوه ، غير أنه قال في حديثه : استعجلْ بخلقي فقد غربت الشمس .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ قال : على عجل آدم آخر ذلك اليوم من ذينك اليومين ، يريد يوم الجمعة ، وخلقه على عجل ، وجعله عجولاً .
وقال بعض أهل العربية من أهل البصرة ممن قال نحو هذه المقالة : إنما قال : خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ وهو يعني أنه خلقه من تعجيل من الأمر ، لأنه قال : إنّمَا قَوْلُنا لِشَيْء إذَا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قال : فهذا العجل . وقوله : فَلا تَسْتَعْجِلُونِ إنّي سأُرِيكُمْ آياتي .
وعلى قول صاحب هذه المقالة ، يجب أن يكون كلّ خلق الله خُلق على عجل ، لأن كل ذلك خلق بأن قيل له كن فكان .
فإذا كان ذلك كذلك ، فما وجه خصوص الإنسان إذا بذكر أنه خُلق من عجل دون الأشياء كلها وكلها مخلوق من عجل ؟ وفي خصوص الله تعالى ذكره الإنسان بذلك الدليل الواضح ، على أن القول في ذلك غير الذي قاله صاحب هذه المقالة .
وقال آخرون منهم : هذا من المقلوب ، وإنما خُلق العَجَل من الإنسان ، وخُلقت العجلة من الإنسان . وقالوا : ذلك مثل قوله : ما إنّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعُصْبَةِ أُولي القُوّةِ إنما هو : لَتنوء العصبة بها متثاقلة . وقالوا : هذا وما أشبهه في كلام العرب كثير مشهور . قالوا : وإنما كلم القوم بما يعقلون . قالوا : وذلك مثل قولهم : عرَضتُ الناقة ، وكقولهم : إذا طلعت الشعرى واستوت العود على الحِرْباء أي استوت الحرباء على العود ، كقول الشاعر :
وتَرْكَبُ خَيْلاً لا هَوَادَة بَيْنَها *** وَتَشْقَى الرماحُ بالضياطِرَةِ الحُمْرِ
حَسَرْتُ كَفّي عَنِ السّرْبالِ آخُذُهُ *** فَرْدا يُجَرّ عَلى أيْدِي المُفَدّينا
يريد : حسرت السربال عن كفّي ، ونحو ذلك من المقلوب . وفي إجماع أهل التأويل على خلاف هذا القول ، الكفاية المغنية عن الاستشهاد على فساده بغيره .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في تأويل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه : خُلق الإنسان من عجل في خلقه أيْ على عجل وسرعة في ذلك . وإنما قيل ذلك كذلك ، لأنه بُودر بخلقه مغيب الشمس في آخر ساعة من نهار يوم الجمعة ، وفي ذلك الوقت نفخ فيه الروح .
وإنما قلنا أولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب ، لدلالة قوله تعالى : سأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونَ عليّ ذلك ، وأن أبا كريب :
حدثنا قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ فِي الجُمُعَةِ لَساعَةً » يُقَلّلُها ، قال : «لا يَوَافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسأَلُ اللّهَ فِيها خَيْرا إلاّ آتاهُ اللّهُ إيّاهُ » فقال عبد الله بن سلام : قد علمت أيّ ساعة هي ، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة . قال الله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونَ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي وعبدة بن سليمان وأسير بن عمرو ، عن محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وذكر كلام عبد الله بن سلام بنحوه .
فتأويل الكلام إذا كان الصواب في تأويل ذلك ما قلنا بما به استشهدنا خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ، ولذلك يستعجل ربه بالعذاب . سأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أيها المستعجلون ربهم بالاَيات القائلون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : بل هو شاعر ، فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون آياتي ، كما أريتها من قبلكم من الأمم التي أهلكناها بتكذيبها الرسل ، إذا أتتها الاَيات : فلا تَسْتَعْجِلُونِ يقول : فلا تستعجلوا ربكم ، فإنا سنأتيكم بها ونريكموها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فقرأته عامة قرّاء الأمصار : خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ بضمّ الخاء على مذهب ما لم يسِمّ فاعله . وقرأه حُميد الأعرج : «خَلَقَ » بفتحها ، بمعنى : خلق الله الإنسان . والقراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، هي القراءة التي لا أستجيز خلافها .
{ خلق الإنسان من عجل } كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته كقولك : خلق زيد من الكرم ، جعل ما طبع عليه بمنزلة المطبوع وهو منه مبالغة في لزومه له ولذلك قيل : إنه على القلب ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجال الوعيد . روي أنها نزلت في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب . { سأريكم آياتي نقماتي في الدنيا كوقعة بدر وفي الآخرة عذاب النار . { فلا تستعجلون } بالإتيان بها ، والنهي عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها .
وقوله تعالى : { خلق الإنسان من عجل } ، توطئة للرد عليهم في استعجالهم العذاب وطلبهم آية مقترحة وهي مقرونة بعذاب مجهز إن كفروا بعد ذلك ، ووصف تعالى الإنسان الذي هو اسم الجنس بأنه «خلق من عجل » وهذا على جهة المبالغة كما تقول للرجل البطال أنت من لعب ولهو وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لست من دد ولا دد مني »{[8223]} ، وهذا نحو قول الشاعر :
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة . . . على رأسه تلقي اللسان على الفم{[8224]}
كأنه مما كانوا أهل ضرب الهام ، وملازمة الضرب قال إنهم من الضرب ع وهذا التأويل يتم به معنى الآية المقصود في أن ذمت عجلتهم وقيل لهم على جهة الوعيد إن الآيات ستأتي { فلا تستعجلون } وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : { خلق الإنسان من عجل } إنه على المقلوب كأنه أراد خلق العجل من الإنسان على معنى أنه جعل طبيعة من طبائعه وجزءاً من أخلاقه ع وهذا التأويل ليس فيه مبالغة وإنما هو إخبار مجرد وإنما حمل قائليه عليه عدمهم وجه التجوز والاستعارة في أن يبقى الكلام على ترتيبه ونظير هذا القلب الذي قالوه قول العرب : إذا طلعت الشعرى استوى العود على الحرباء ، وكما قالوا عرضت الناقة على الحوض{[8225]} وكما قال الشاعر : [ البسيط ]
حسرت كفي على السربال آخذه . . . فرداً يخر على أيدي المفدينا{[8226]}
وأما المعنى في تأويل من رأى الكلام من المقلوب فكالمعنى الذي قدمناه ، وقالت فرقة من المفسرين قوله { خلق الإنسان من عجل } إنما أراد أن آدم عليه السلام خلقه الله تعالى في آخر ساعة من يوم الجمعة فتعجل به قبل مغيب الشمس ، وروى بعضهم أن آدم عليه السلام قال يا رب أكمل خلقي فإن الشمس على الغروب أو غربت ع وهذا قول ضعيف ومعناه لا يناسب معنى الآية ، وقالت فرقة العجل الطين والمعنى خلق آدم من طين .
وأنشد النقاش : والنخل ينبت بين الماء والعجل{[8227]} . وهذا أيضاً ضعيف ومعناه مباين لمعنى الآية ، وقالت فرقة معنى قوله { خلق الإنسان من عجل } أي بقوله كن فهو حال عجله وهذا أيضاً ضعيف وفيه تخصيص ابن آدم بشيء كل مخلوق يشاركه فيه ، وليس في هذه الأقوال ما يصح معناه ويلتئم مع الآية إلا القول الأول ، وقرأت فرقة «خُلق » على بناء الفعل للمفعول ، وقرأت فرقة «خَلَق الإنسانَ » على معنى خلق الله الإنسان ، فمعنى الآية بجملتها خلق الإنسان من عجل على معنى التعجب ، من تعجل هؤلاء المقصودين بالرد ، ثم توعدهم بقوله { سأوريكم آياتي } أي سآتي ما يسوءكم إذا دمتم على كفركم ، يريد يوم بدر وغيره .
جملة { خُلِق الإنسان من عَجَل } معترضة بين جملة { وإذا رآك الذين كفروا } [ الأنبياء : 36 ] وبين جملة { سأُريكم آياتي } ، جعلت مقدمة لجملة { سَأُريكم آياتي } . أمّا جملة { سَأُريكم آياتي } فهي معترضة بين جملة { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخِذونك إلاّ هزُؤاً } [ الأنبياء : 36 ] وبين جملة { ويقولون متى هذا الوعد } [ الأنبياء : 38 ] ، لأن قوله تعالى : { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً } [ الأنبياء : 36 ] يثير في نفوس المسلمين تساؤلاً عن مدى إمهال المشركين ، فكان قوله تعالى : { سأريكم آياتي فلا تستعجلون } استئنافاً بيانياً جاء معترضاً بين الجُمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها . فالخطاب إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد الله تعالى به المكذبين .
ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم يُهيج حنق المسلمين عليهم فيوَدُّوا أن ينزِل بالمكذبين الوعيد عاجلاً فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين . وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام . والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيداً للثانية .
والعَجَل : السرعة . وخَلْق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جِبلّة الإنسانية . شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه ، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية . فإذا فَكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة ، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية ، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين ، فلا جرَم كان الإنسان عَجولاً بالطبع فكأنه مخلوق من العَجْلة . ونحوه قوله تعالى : { وكان الإنسان عَجولاً } [ الإسراء : 11 ] وقوله تعالى : { إن الإنسان خلق هلوعاً } [ المعارج : 19 ] . ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه . وأما من فسر العَجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد .
وجملة { سأُريكم آياتي } هي المقصود من الاعتراض . وهي مستأنفة .
والمعنى : وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين ، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أيمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين .
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل ، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله ، ولكل أجل كتاب . فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد .
وحذفت ياء المتكلم من كلمة { تستعجلونِ } تخفيفاً مع بقاء حركتها فإذا وُقف عليه حذفت الحركة من النوننِ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{خلق الإنسان} يعني: آدم أبو البشر {من عجل} وذلك أن كفار قريش استعجلوا بالعذاب في الدنيا من قبل أن يأتيهم تكذيبا به... يقول الله عز وجل، لكفار مكة: ف {سأوريكم ءاياتي} يعني: عذابي القتل {فلا تستعجلون}...، يقول: فلا تعجلوا بالعذاب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{خلق الإنسان من عجل} كقوله في آية أخرى: {وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11]. قال الحسن: {عجولا} أي ضعيفا، وضُعفه هو أن يضيق صدره، ويحرج عند إصابته بأدنى شيء حتى يحمله ضيق صدره على أن يدعو على نفسه وعلى مجيئه الهلاك لضيق صدره، وذلك لضعف فيه.
وعندنا أنه خلقه عجولا حتى لا يصبر على حالة واحدة، وإن كانت الحالة نعمة ورخاء حتى يمل منها، ويسأم، ويريد التحول إلى حالة هي دون تلك الحالة، ويرضى بشيء دونه. لكنه، وإن خلقه على ما أخبر، جعل في وسعه رياضة نفسه حتى يصير صبورا حليما،... وليست المحنة إلا بالرياضة والعادة. فأمره أن يروض نفسه، ويعودها بالقيام بجميع ما أمره الله، ويكفها عن جميع ما نهى عنه، فيعتاد اتباع أمره والانتهاء عن نهيه، والله الموفق.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
[العجلة] تقديم الشيء قبل وقته، والسرعة تقديمه في أول أوقاته.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقال المبرد: خلق على صفة من شأنه أن يعجل في الأمور... والاستعجال طلب الشيء قبل وقته الذي حقه أن يكون فيه دون غيره. والعجول: الكثير الطلب للشيء قبل وقته. والعجلة: تقديم الشيء قبل وقته، وهو مذموم. والسرعة: تقديم الشيء في أقرب أوقاته، وهو محمود...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
العَجلَةُ مذمومةٌ والمُسَارَعَةُ محمودةٌ؛ فالمسارعة البِدارُ إلى الشيء في أول وقته، والعَجَلَةُ استقباله قبل وقته، والعجلةُ نتيجةُ وسوسة الشيطان، والمسارعةُ قضية التوفيق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا يستعجلون عذاب الله ونزول آياته الملجئة إلى العلم والإقرار {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد}، فأراد نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم، كأنه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا، فإنكم مجبولون على ذلك، وهو طبعكم وسجيتكم...
فإن قلت: لم نهاهم عن الاستعجال مع قوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} وقوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] أليس هذا من تكليف ما لا يطاق؟ قلت: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها. لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {خلق الإنسان من عجل}، توطئة للرد عليهم في استعجالهم العذاب وطلبهم آية مقترحة وهي مقرونة بعذاب مجهز إن كفروا بعد ذلك، ووصف تعالى الإنسان الذي هو اسم الجنس بأنه «خلق من عجل» وهذا على جهة المبالغة كما تقول للرجل البطال أنت من لعب ولهو..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من آيات الأولين التي طلبوها العذاب بأنواع الهول، وكانوا هم أيضاً قد طلبوا ذلك واستعجلوا به {عجل لنا قطنا} [ص: 26] ونحو ذلك، وكان الذي جرأهم على هذا حلم الله عنهم بإمهاله لهم، قال معللاً لذلك: {خلق} وبناه للمفعول لأن المقصود بيان ما جبل عليه والخالق معروف {الإنسان} أي هذا النوع.
ولما كان مطبوعاً على العجلة قال: {من عجل} فلذا يكفر، لأنه إذا خولف بادر إلى الانتقام عند القدرة فظن بجهله أن خالقه كذلك، وأن التأخير ما هو إلا عن عجز أو عن رضى؛ ثم قال تعالى مهدداً للمكذبين: {سأوريكم} حقاً {ءاياتي} القاصمة والعاصمة، بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن عندكم من أتباعه المستضعفين وخلافتهم بين أيديكم وجعلهم شجاً في حلوقكم حتى يتلاشى ما أنتم عليه وغيره ذلك من العظائم {فلا تستعجلون} أي تطلبوا أن أوجد العجلة بالعذاب أو غيره، فإني منزه عن العجلة التي هي من جملة نقائصكم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} جُعل لفرْطِ استعجالِه وقلة صبره كأنه مخلوقٌ منه... ومن عجلته مبادرتُه إلى الكفر واستعجالُه بالوعيد... {سَأَريكُمْ آياتي} تلوينٌ للخطاب وصرفٌ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستعجِلين بطريق التهديدِ والوعيد.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ْ} أي: خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون، يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطؤونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(خلق الإنسان من عجل).. فالعجلة في طبعه وتكوينه. وهو يمد ببصره دائما إلى ما وراء اللحظة الحاضرة يريد ليتناوله بيده، ويريد ليحقق كل ما يخطر له بمجرد أن يخطر بباله، ويريد أن يستحضر كل ما يوعد به ولو كان في ذلك ضرره وإيذاؤه. ذلك إلا أن يتصل بالله فيثبت ويطمئن، ويكل الأمر لله فلا يتعجل قضاءه. والإيمان ثقة وصبر واطمئنان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {خُلِق الإنسان من عَجَل} معترضة بين جملة {وإذا رآك الذين كفروا} [الأنبياء: 36] وبين جملة {سأُريكم آياتي}، جعلت مقدمة لجملة {سَأُريكم آياتي}. أمّا جملة {سَأُريكم آياتي} فهي معترضة بين جملة {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخِذونك إلاّ هزُؤاً} [الأنبياء: 36] وبين جملة {ويقولون متى هذا الوعد} [الأنبياء: 38]، لأن قوله تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤاً} [الأنبياء: 36] يثير في نفوس المسلمين تساؤلاً عن مدى إمهال المشركين، فكان قوله تعالى: {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} استئنافاً بيانياً جاء معترضاً بين الجُمل التي تحكي أقوال المشركين وما تفرع عليها. فالخطاب إلى المسلمين الذين كانوا يستبطئون حلول الوعيد الذي توعد الله تعالى به المكذبين.
ومناسبة موقع الجملتين أن ذكر استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم يُهيج حنق المسلمين عليهم فيوَدُّوا أن ينزِل بالمكذبين الوعيد عاجلاً فخوطبوا بالتريث وأن لا يستعجلوا ربهم لأنه أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت حلول الوعيد وما في تأخير نزوله من المصالح للدين. وأهمها مصلحة إمهال القوم حتى يدخل منهم كثير في الإسلام. والوجه أن تكون الجملة الأولى تمهيداً للثانية.
والعَجَل: السرعة. وخَلْق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جِبلّة الإنسانية. شبهت شدة ملازمة الوصف بكونه مادة لتكوين موصوفه، لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فَكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين، فلا جرَم كان الإنسان عَجولاً بالطبع فكأنه مخلوق من العَجْلة. ونحوه قوله تعالى: {وكان الإنسان عَجولاً} [الإسراء: 11] وقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعاً} [المعارج: 19]. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه. وأما من فسر العَجل بالطين وزعم أنها كلمة حميرية فقد أبعد وما أسعد.
وجملة {سأُريكم آياتي} هي المقصود من الاعتراض. وهي مستأنفة.
والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلك أيمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين.
وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب. فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد.