الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{خُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ مِنۡ عَجَلٖۚ سَأُوْرِيكُمۡ ءَايَٰتِي فَلَا تَسۡتَعۡجِلُونِ} (37)

قوله : { مِنْ عَجَلٍ } : فيه قولان ، أحدهما : أنه من بابِ القلبِ . والأصلُ : خُلِقَ العَجَلُ من الإِنسانِ لشدةِ صدورِه منه وملازَمتِه له . وإلى هذا ذهب أبو عمروِ . وقد يتأيَّد هذا بقراءةِ عبدِ الله " خُلِقَ العَجَلُ من الإِنسانِ " والقلبُ موجودٌ . قال الشاعر :

حَسَرْتُ كَفِّيْ عن السِّربالِ آخُذُه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد : حسرت السِّرْبالَ عن كفي . ومثلُه في الكلامِ : " إذا طَلَعَت الشِّعْرى استَوَى العُوْدُ على الحِرْباء " وقالوا : عَرَضْتُ الناقةَ على الحَوْضِ . وقد قَدَّمْتُ منه أمثلةً غيرَ هذه . إلاَّ أن بعضَهم يَخُصُّه بالضرورةِ ، وقد قَدَّمْتُ فيه مذاهبَ ثلاثةً .

والثاني : أنه لا قلبَ فيه وفيه تأويلاتٌ ، أحسنُها : أن ذلك على المبالغةِ ، جَعَلَ ذاتَ الإِنسانِ كأنها خُلِقَتْ من نفسِ العَجَلة ، دلالةً على شدةِ اتصاف الإِنسانِ بها ، وأنها مادتُه التي أُخِذ منها . ومثلُه في المبالغة من جانب النفي قولُه عليه السلام : " لستُ من الدَّدِ ، ولا الدَّدُ مني " والدَّدُ : اللِّعِبُ . وفيه لغاتٌ : " دَدٌ " محذوفُ اللامِ و " ددا " مَقْصوراً ك " عصا " و " دَدَن " بالنون . وألفه في إحدى لغاتِه مجهولةُ الأصل لا ندري : أهي عن ياءٍ أو واوٍ ؟ .

وقيل : العَجَلُ : الطين بلغة حمير ، أنشد أبو عبيدة على ذلك لشاعرٍ منهم :

النَّبْعُ في الصَّخْرةِ الصَّمَّاء مَنْبِتُه *** والنَّخْلُ مَنْبِتُه في الماءِ والعَجَلِ

قال الزمخشري بعد إنشادِه عَجُزَ هذا البيتِ : واللهُ أعلمُ بصحتِه " وهو معذورٌ .

وهذا الجارُّ يحتملُ تَعَلُّقُه ب " خُلِقَ " على المجاز أو الحقيقةِ المتقدِّمَيْن ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ كأنه قيل : خُلِق الإِنسانُ عَجِلاً . كذا قال أبو البقاء . والأولُ أَوْلى .

وقرأ العامَّة " خُلِق " مبنياً للمفعول . " الإِنسانُ " مرفوعاً لقيامِه مقامَ الفاعلَ . وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم " خَلَقَ " مبنياً للفاعل . " الإِنسانَ " نصباً مفعولاً به .