قوله تعالى : { أمن خلق السموات والأرض } معناه آلهتكم خير أم الذي خلق السموات والأرض ، { وأنزل لكم من السماء ماءً } يعني المطر ، { فأنبتنا به حدائق } بساتين جمع حديقة ، قال الفراء : الحديقة البستان المحاط عليه ، فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة ، { ذات بهجة } أي : منظر حسن ، والبهجة : الحسن يبتهج به من يراه ، { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } أي : ما ينبغي لكم ، لأنكم لا تقدرون عليها . { أإله مع الله } استفهام على طريق الإنكار ، أي : هل معه معبود سواه يعينه على صنعه بل ليس معه إله . { بل هم قوم } يعني كفار مكة ، { يعدلون } يشركون .
ثم ذكر تفاصيل ما به يعرف ويتعين أنه الإله المعبود وأن عبادته هي الحق وعبادة [ ما ] سواه هي الباطل فقال : { 60 } { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ }
أي : أمن خلق السماوات وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والملائكة والأرض وما فيها من جبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك .
ثم ساق - سبحانه - خمس آيات ، وكل آية فيها ما يدل على كمال قدرته وعلمه ، وختم كل آية بقوله : { أإله مَّعَ الله } ؟ فقال - تعالى - { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض . . } و ( أم ) هنا منقطعة بمعنى بل الإضرابية والاستفهام للإنكار والتوبيخ .
أى : بل قالوا لنا - إن كنتم تعقلون أيها الضالون - من الذى خلق السموات والأرض ، وأوجدهما على هذا النحو البديع ، والتركيب المحكم .
{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً } وهو المطر ، الذى لا غنى لكم عنه فى شئون حياتكم .
{ فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } والحدائق : جمع حديقة ، وهى فى الأصل اسم البستان المحاط بالأسوار ، من أحدث بالشىء إذا أحاط به ، ثم توسع فيها فصارت تطلق على كل بستان سواء أكان مسورا بسور أم لا .
أى : وأنزل - سبحانه - بقدرته من السماء ماء مباركا ، فأنبتنا لكم بسبب هذا الماء حدائق وبساتين وجنات ذات منظر حسن ، يشرح الصدور ، ويدخل السرور على النفوس .
وقال - سبحانه - : { فَأَنبَتْنَا . . } بصيغة الالتفات من الغيبة إلى التكلم . لتأكيد أن القادر على هذا الإنبات هو الله - تعالى - وحده ، وللإيذان بأن إنبات هذه الحدائق مع اختلاف ألوانها ، وأشجارها ، وطعومها . لا يقدر عليه إلا هو - سبحانه - .
ولذا أتبع - عز وجل - هذه الجملة بقوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } أى : ما كان فى إمكانكم - أيها الناس - بحال من الأحوال ، أن تنبتوا أشجار هذه الحدائق ، فضلا عن إيجاد ثمارها ، وإخراجها من العدم إلى الوجود .
قال الإمام الرازى : يقال : ما حكمة الالتفات فى قوله : { فَأَنبَتْنَا . . } والجواب : أنه لا شبهة فى أن خالق السموات والأرض ، ومنزل الماء من السماء ، ليس إلا الله - تعالى - .
ولكن ربما عرضت الشبهة فى أن منبت الشجرة هو الإنسان ، فإن الإنسان قد يقول : أنا الذى ألقى البذر فى الأرض ، وأسقيها الماء . . . وفاعل السبب ، فاعل للمسبب ، فأنا المنبت للشجرة .
فلما كان هذا الاحتمال قائما . لا جرم أزال - سبحانه - هذا الاحتمال . لأن الإنسان قد يأتى بالبذر والسقى . . . ولا يأتى الزرع على وفق مراده . . . فلهذه النكتة جاء الالتفات . . .
وقوله - تعالى - : { أإله مَّعَ الله } أى : أإله آخر كائن مع الله - تعالى - هو الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء . . . كلا . لا شريك مع الله - تعالى - فى خلقه وقدرته ، وإيجاده لهذه الكائنات { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } .
أى : بل إن هؤلاء المشركين قوم يعدلون عمدا عن الحق الواضح وهو التوحيد ، إلى الباطل البين وهو الشرك .
فقوله : { يَعْدِلُونَ } مأخوذ من العدول بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل . أو من العدل والمساواة ، فيكون المعنى : بل هم قوم - لجهلهم - يساوون بالله - تعالى - غيره من آلهتهم .
والجملة الكريمة : انتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب ، إلى توبيخهم ، وتجهيلهم ، وبيان سوء تفكيرهم ، وانطماس بصائرهم .
ومن ثم يعدل عنه إلى سؤال آخر ، مستمد من واقع هذا الكون حولهم ، ومن مشاهده التي يرونها بأعينهم :
( أم من خلق السماوات والأرض ، وأنزل لكم من السماء ماء ، فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ? أإله مع الله ? بل هم قوم يعدلون ) . .
والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها ، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها . . وهي أصنام أو أوثان ، أو ملائكة وشياطين ، أو شمس أو قمر . . فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء . ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه ، مخلوق بذاته ، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة ! فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض ، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها ، كفيلا بإلزام الحجة ، ودحض الشرك ، وإفحام المشركين . وما يزال هذا السؤال قائما فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد ، ويتضح فيه التدبير ، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة ، ملجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد ، الذي تتضح وحدانيته بآثاره . ناطق بأن هناك تصميما واحدا متناسقا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه . فلا بد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة . إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير .
( أم من خلق السماوات والأرض ) . . ( وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ? ) . .
والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر ، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر ، بهذا القدر ، الذي توجد به الحياة ، على النحو الذي وجدت به ، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة ، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق ، وبهذا التقدير المضبوط . المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان . هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله : ( وأنزل لكم . . . )والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم ، منظورا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم . يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية القائمة حيالهم وهم عنها غافلون :
( فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ) . .
حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة . . ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية . وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب . وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب . وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر . وان تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث . فضلا على معجزة الحياة النامية في الشجر - وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر - : ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها )وسر الحياة كان وما يزال مستغلقا على الناس . سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الأنسان . فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول : كيف جاءت هذه الحياة ، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان . ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور .
وعندما يصل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير ، يهجم عليهم بسؤال :
ولا مجال لمثل هذا الادعاء ؛ ولا مفر من الإقرار والإذعان . . وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا ، وهم يسوون آلهتهم المدعاة بالله ، فيعبدونها عبادة الله : ( بل هم قوم يعدلون ) . .
ويعدلون . إما أن يكون معناها يسوون . أي يسوون آلهتهم بالله في العبادة . وإما أن يكون معناها : يحيدون . أي يحيدون عن الحق الواضح المبين . بإشراك أحد مع الله في العبادة ؛ وهو وحده الخالق الذي لم يشاركه أحد في الخلق . وكلا الأمرين تصرف عجيب لا يليق !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلََهٌ مّعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قُرَيش : أعبادة ما تعبدون من أوثانكم التي لا تضرّ ولا تنفع خير ، أم عبادة من خلق السموات والأرض ؟ وأنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السّماءِ ماء يعني مطرا ، وقد يجوز أن يكون مريدا به العيون التي فجّرها في الأرض ، لأن كل ذلك من خلقه فَأنْبَتْنا بِهِ يعني بالماء الذي أنزل من السماء حَدَائِقَ وهي جمع حديقة ، والحديقة : البستان عليه حائط محوّط ، وإن لم يكن عليه حائط لم يكن حديقة . وقوله : ذَاتَ بَهْجَةٍ يقول : ذات منظر حسن . وقيل ذات بالتوحيد . وقد قيل حدائق ، كما قال : وَلِلّهِ الأسْماءُ الحُسْنَى ، وقد بيّنت ذلك فيما مضى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ قال : البهجة : الفُقّاح مما يأكل الناس والأنعام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ قال : من كلّ شيء تأكله الناس والأنعام .
وقوله : ما كانَ لَكُمْ أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها يقول تعالى ذكره : أنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء لكم هذه الحدائق إذا لم يكن لكم - لولا أنه أنزل عليكم الماء من السماء - طاقة أن تنبتوا شجر هذه الحدائق ، ولم تكونوا قادرين على ذهاب ذلك ، لأنه لا يصلح ذلك إلا بالماء . وقوله : أءِلَهٌ مَعَ اللّهِ يقول تعالى ذكره : أمعبود مع الله - أيها الجهلة - الذي خلق ذلك ، وأنزل من السماء الماء ، فأنبت به لكم الحدائق ؟ فقوله : أءله مردود على تأويل : أمع الله إله . بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يقول جلّ ثناؤه : بل هؤلاء المشركون قوم ضلال ، يعدلون عن الحقّ ، ويجورون عليه ، على عمد منهم لذلك ، مع علمهم بأنهم على خطأ وضلال ولم يعدلوا عن جهل منهم ، بأن من لا يقدر على نفع ولا ضرّ ، خير ممن خلق السموات والأرض ، وفعل هذه الأفعال ، ولكنهم عدلوا على علم منهم ومعرفة ، اقتفاء منهم سنة من مضى قبلهم من آبائهم .
{ أمن } بل أمن . { خلق السماوات والأرض } التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع . وقرأ أمن بالتخفيف على انه بدل من الله . { وأنزل لكم } لأجلكم . { من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة } عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته ، والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما أشار اليه بقوله : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } شجر الحدائق وهي البساتين من الإحداق وهو الإحاطة . { أإله مع الله } أغيره يقرن به ويجعل له شريكا ، وهو المنفرد بالخلق والتكوين . وقرئ " أإلها " بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة الهمزتين وإخراج الثانية بين بين . { بل هم قوم يعدلون } عن الحق الذي هو التوحيد .
وقوله تعالى . { أمن خلق } وما بعدها من التوقيفات ، توبيخ لهم وتقرير على ما لا مندوحة لهم عن الإقرار به ، وقرأ الجمهور «أمّن » بشد الميم وهي «أم » دخلت على «من » ، وقرأ الأعمش «أمَن » بفتح الميم مسهلة وتحتمل هذه القراءة أن تكون «أمن » استفهاماً فتكون في معنى «أم من » المتقدمة ، ويحتمل أن تكون الألف للاستفهام ومن ابتداء وتقدير الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا من المعنى{[9043]} ، و «الحدائق » مجتمع الشجر من الأعناب والنخيل وغير ذلك ، قال قوم لا يقال حديقة إلا لما عليه جدار قد أحدق به ، وقال قوم يقال ذلك كان جداراً أو لم يكن لأن البياض محدق بالأشجار والبهجة الجمال والنضرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات بهَجة » بجمع «ذات » وفتح الهاء من «بهجة » ، ثم أخبر على جهة التوقيف أنه { ما كان } للبشر أي ما يتهيأ لهم ولا يقع تحت قدرهم أن ينبتوا شجرها ، لأن ذلك بإخراج شيء من العدم إلى الوجود ، وقد تقدم ترتيب القراءة في الهمزتين من قوله «أئن{[9044]} .
«أئنك لأنت يوسف »{[9045]} ، وقوله [ أإله ]{[9046]} قال أبو حاتم القراءة باجتماع الهمزتين محدثة . لا توجد في كلام العرب ولا قرأ بها قارىء عتيق ، و { يعدلون } يجوز أن يراد به يعدلون عن طريق الحق أن يجورون في فعلهم ، ويجوز أن يراد يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق} يعني: حيطان النخل والشجر {ذات بهجة} يعني: ذات حسن {ما كان لكم} يعني" ما ينبغي لكم {أن تنبتوا شجرها} فتجعلوا للآلهة نصيبا مما أخرج الله عز وجل لكم من الأرض بالمطر.
ثم قال سبحانه استفهام: {أإله مع الله} يعينه على صنعه جل جلاله، ثم قال تعالى: {بل هم قوم يعدلون} يعني: يشركون، يعني: كفار مكة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمشركين به من قُرَيش: أعبادة ما تعبدون من أوثانكم التي لا تضرّ ولا تنفع خير، أم عبادة من خلق السموات والأرض؟ "وأنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السّماءِ ماء "يعني: مطرا، وقد يجوز أن يكون مريدا به العيون التي فجّرها في الأرض، لأن كل ذلك من خلقه، "فَأنْبَتْنا بِهِ" يعني: بالماء الذي أنزل من السماء "حَدَائِقَ" وهي جمع حديقة، والحديقة: البستان عليه حائط محوّط، وإن لم يكن عليه حائط لم يكن حديقة. وقوله: "ذَاتَ بَهْجَةٍ" يقول: ذات منظر حسن... عن مجاهد، قوله: "حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" قال: من كلّ شيء تأكله الناس والأنعام.
وقوله: "ما كانَ لَكُمْ أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها" يقول تعالى ذكره: أنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء لكم هذه الحدائق إذ لم يكن لكم -لولا أنه أنزل عليكم الماء من السماء- طاقة أن تنبتوا شجر هذه الحدائق، ولم تكونوا قادرين على ذهاب ذلك، لأنه لا يصلح ذلك إلا بالماء.
وقوله: "أإلَهٌ مَعَ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: أمعبود مع الله -أيها الجهلة- الذي خلق ذلك، وأنزل من السماء الماء، فأنبت به لكم الحدائق؟... "بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ" يقول جلّ ثناؤه: بل هؤلاء المشركون قوم ضلال، يعدلون عن الحقّ، ويجورون عليه، على عمد منهم لذلك، مع علمهم بأنهم على خطأ وضلال، ولم يعدلوا عن جهل منهم بأن من لا يقدر على نفع ولا ضرّ، خير ممن خلق السموات والأرض وفعل هذه الأفعال، ولكنهم عدلوا على علم منهم ومعرفة، اقتفاء منهم سنة من مضى قبلهم من آبائهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: قدرته وسلطانه في خلق ما ذكر من السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات النبات من الأرض وإخراجه على أفرادهم أن الله خالق ذلك كله، فكيف أشركتم غيره، مَن لا يملك ذلك ولا يقدر، في تسمية الإلهية والعبادة؟
والثاني: يخبر عن اتساق الأمور والتدبير فيهما جميعا واتصال منافع أحدهما بالآخر على تباعد ما بينهما ليعلم أن منشئهما ومدبرهما واحد لا عدد. فإن عرفتم ذلك فكيف أشركتم غيره فيها؟ وهو كقوله {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22]...
{ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} أي ما تقدرون أنتم أن تنبتوا شجرها فمن هو دونكم أشد وأبعد، فكيف أشركتم في العبادة وتسمية الإلهية من دونكم في كل شيء؟
{أإله مع الله} أي: لا إله مع الله، {بل هم قوم يعدلون} هذا يحتمل وجهين: أحدهما: {يعدلون} أي يجعلون من لا يملك ما ذكر عديلا لله.
والثاني: {يعدلون} أي يعدلون عن الله ويميلون إلى غيره من العدول، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ذَاتَ بَهْجَةٍ} فيها قولان: أحدهما: ذات غضارة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما الفرق بين أم وأم في {أَمْ مَا تُشْرِكُونَ} و {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات}؟ قلت: تلك متصلة؛ لأنّ المعنى: أيهما خير. وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة، لما قال تعالى: آلله خير أم الآلهة؟ قال: بل أمّن خلق السموات والأرض خير؟ تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء...
فإن قلت: أي نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله فَأَنْبَتْنَا؟ قلت: تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد، لا يقدر عليه إلا هو وحده، ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} ومعنى الكينونة: الانبغاء. أراد أن تأتِّيَ ذلك محال من غيره، وكذلك قوله: {بَلْ هُمْ} بعد الخطاب: أبلغ في تخطئة رأيهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أمن خلق} وما بعدها من التوقيفات، توبيخ لهم وتقرير على ما لا مندوحة لهم عن الإقرار به... {ما كان} للبشر، أي: ما يتهيأ لهم ولا يقع تحت قدرهم أن ينبتوا شجرها، لأن ذلك بإخراج شيء من العدم إلى الوجود.
يقال ما حكمة الالتفات في قوله: {فأنبتنا}؟ جوابه: أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السماوات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى، وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان، فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقي البذر في الأرض الحرة وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها، وفاعل السبب فاعل للمسبب، فإذن أنا المنبت للشجرة، فلما كان هذا الاحتمال قائما، لا جرم أزال هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله: {فأنبتنا} وقال: {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والكرب والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده، والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلا بطبعه ومقداره وكيفيته، فكيف يكون فاعلا لها، فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما ذكر الله خيراً، عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله، كما عدّدها في غير موضع من كتابه، توقيفاً لهم على ما أبدع من المخلوقات، وأنهم لا يجدون بداً من الإقرار بذلك لله تعالى.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق، المستقل بذلك المتفرد به، دون ما سواه من الأصنام والأنداد، كما يعترف به هؤلاء المشركون، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] أي: هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق، وإنما يستحق أن يُفرَدَ بالعبادة مَن هو المتفرد بالخلق والرزق؛ ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: أإله مع الله يعبد. وقد تبين لكم، ولكل ذي لب مما يعرفون به أيضًا أنه الخالق الرازق. ومن المفسرين من يقول: معنى قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [أي: أإله مع الله] فعل هذا. وهو يرجع إلى معنى الأول؛ لأن تقدير الجواب أنهم يقولون: ليس ثَمَّ أحدٌ فعل هذا معه، بل هو المتفرد به. فيقال: فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والتدبير؟ كما قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17]. وقوله هاهنا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ}: {أمن} في هذه الآيات [كلها] تقديره: أمن يفعل هذه الأشياء كَمَنْ لا يقدر على شيء منها؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر؛ لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك، وقد قال: {آلله خير أما يشركون}. ثم قال في آخر الآية: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي: يجعلون لله عدلا ونظيرًا. وهكذا قال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] أي: أمن هو هكذا كَمَنْ ليس كذلك؟ ولهذا قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} [الزمر: 9]، {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، وقال {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] أي: أمَنْ هو شهيد على أفعال الخلق، حركاتهم وسكناتهم، يعلم الغيب جليله وحقيره، كَمَنْ هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها؟ ولهذا قال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33]، وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أإله مَّعَ الله} أي أإلهٌ آخرُ كائنٌ مع الله الذي ذُكرَ بعضُ أفعالِه التي لا يكادُ يقدرُ عليها غيرُه حتَّى يتوهَّم جعلَه شريكاً له تعالَى في العبادةِ، وهذا تبكيتٌ لهم بنفي الألوهيةِ عمَّا يُشركونه به تعالى في ضمنِ النَّفي الكليِّ على الطريقةِ البُرهانيةِ، بعد تبكيتِهم بنفي الخيريةِ عنْهُ بما ذكرَ من التَّرديدِ، فإنَّ أحداً ممَّن له تمييزٌ في الجُملةِ كما لا يقدرُ على إنكارِ انتفاءِ الخيريةِ عنه بالمرةِ لا يكادُ يقدرُ على إنكارِ انتفاءِ الألوهيةِ عنه رأساً لاسيَّما بعد ملاحظةِ انتفاءِ أحكامِها عمَّا سواهُ تعالى، وهكذا الحالُ في المواقعِ الأربعةِ الآتيةِ. وقيل: المرادُ نفي أنْ يكونَ معه تعالى إلهٌ آخرُ فيما ذكرَ من الخلقِ وما عطف عليه، لكن لا على أنَّ التبكيتَ بنفس ذلك النفي فقط كيفَ لا وهم لا يُنكرونَه حسبما ينطقُ به قولُه تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَّيَقُولَنَّ الله} [سورة لقمان، الآية25 وسورة الزمر، الآية38] بل بإشراكِهم به تعالى في العبادةِ ما يعترفون بعدمِ مشاركتِه له تعالى فيما ذكرَ من لوازمِ الألوهيَّةِ، كأنَّه قيلَ أإلهٌ آخرُ مع الله في خواصِّ الأُلوهيةِ حتَّى يجعلَ شريكاً له تعالى في العبادةِ. وقيل المعنى أغيرُه يُقرن به ويجعلُ له شريكاً في العبادةِ مع تفرُّده تعالى بالخلقِ والتَّكوينِ. فالإنكارُ للتوبيخِ والتبكيتِ مع تحقيقِ المنكرِ دون النفي كما في الوجهينِ السابقينِ والأولُ هو الأظهرُ الموافقُ لقولِه تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله} [سورة المؤمنون، الآية91] والأوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه نفي وجودِ إلهٍ آخرَ معه تعالى رأساً لا نفيَ معيَّته في الخلقِ وفروعِه فقط.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم يعدل عنه إلى سؤال آخر، مستمد من واقع هذا الكون حولهم، ومن مشاهده التي يرونها بأعينهم: (أم من خلق السماوات والأرض، وأنزل لكم من السماء ماء، فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها؟ أإله مع الله؟ بل هم قوم يعدلون).. والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها.. وهي أصنام أو أوثان، أو ملائكة وشياطين، أو شمس أو قمر.. فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء. ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه، مخلوق بذاته، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة! فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها، كفيلا بإلزام الحجة، ودحض الشرك، وإفحام المشركين. وما يزال هذا السؤال قائما فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد، ويتضح فيه التدبير، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة، ملجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد، الذي تتضح وحدانيته بآثاره. ناطق بأن هناك تصميما واحدا متناسقا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه. فلا بد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة. إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير. (أم من خلق السماوات والأرض).. (وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها؟).. والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر، بهذا القدر، الذي توجد به الحياة، على النحو الذي وجدت به، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق، وبهذا التقدير المضبوط. المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان. هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله: (وأنزل لكم...) والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم، منظورا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم. يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية القائمة حيالهم وهم عنها غافلون: (فأنبتنا به حدائق ذات بهجة).. حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة.. ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية. وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب. وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب. وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر. وان تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث. فضلا على معجزة الحياة النامية في الشجر -وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر -: (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) وسر الحياة كان وما يزال مستغلقا على الناس. سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الأنسان. فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول: كيف جاءت هذه الحياة، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان. ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور. وعندما يصل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير، يهجم عليهم بسؤال: (أإله مع الله؟).. ولا مجال لمثل هذا الادعاء؛ ولا مفر من الإقرار والإذعان.. وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا، وهم يسوون آلهتهم المدعاة بالله، فيعبدونها عبادة الله: (بل هم قوم يعدلون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وذكر إنزال الماء لأنه من جملة ما خلقه الله، ولقطع شبهة أن يقولوا: إن المنبت للشجر الذي فيه رزقنا هو الماء، اغتراراً بالسبب فبودروا بالتذكير بأن الله خلق الأسباب وهو خالق المسببات بإزالة الموانع والعوارض العارضة لتأثير الأسباب وبتوفير القوى الحاصلة في الأسباب، وتقدير المقادير المناسبة للانتفاع بالأسباب، فقد ينزل الماء بإفراط فيجرف الزرع والشجر أو يقتلهما، ولذلك جمع بين قوله {وأنزل} وقوله {فأنبتنا} تنبيهاً على إزالة الشبهة. ونون الجمع في {أنبتنا} التفات من الغيبة إلى الحضور. ومن لطائفه هنا التنصيص على أن المقصود إسناد الإنبات إليه لئلا ينصرف ضمير الغائب إلى الماء لأن التذكير بالمنبت الحقيقي الذي خلق الأسباب أليق بمقام التوبيخ على عدم رعايتهم نعمه...
ومعنى {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} ليس في ملككم أن تنبتوا شجر تلك الحدائق، فاللام في {لكم} للملك و {أن تنبتوا} اسم {كان} و {لكم} خبرها. وقدم الخبر على الاسم للاهتمام بنفي ملك ذلك. وجملة {أإله مع الله} استئناف هو كالنتيجة للجملة قبلها لأن إثبات الخلق والرزق والإنعام لله تعالى بدليل لا يسعهم إلا الإقرار به ينتج أنه لا إله معه. والاستفهام إنكاري. و {بل} للإضراب عن الاستفهام الإنكاري تفيد معنى (لكن) باعتبار ما تضمنه الإنكار من انتفاء أن يكون مع الله إله فكان حق الناس أن لا يشركوا معه في الإلهية غيره فجيء بالاستدراك لأن المخاطبين بقوله {وأنزل لكم} وقوله {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} لم ينتفعوا بالدليل مع أنه دليل ظاهر مكشوف، فهم مكابرون في إعراضهم عن الاهتداء بهذا الدليل...
فإن قلت: نحن نعتبر الآن الحدائق الجميلة من باب الكماليات، وليس بها مقومات حياتنا. نقول: نعم هي كذلك الآن، لكن في الماضي كانوا يسمون كل أرض زراعية محوطة بسور: حديقة، أو حائط. وقال {ذات بهجة} مع أنك لو نظرت إلى القمح مثلا وهو عصب القوت لوجدته أقل جمالا من الورد والياسمين والفل مثلا، وكأن ربك- عز وجل- يقول لك: لقد تكفلت بالكماليات وبالجماليات، فمن باب أولى أوفر لك الضروريات. والحق- تبارك وتعالى- يريد أن يرتقي بذوق عباده وبمشاعرهم، واقرأ مثلا قوله تعالى: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه.. 99} (الأنعام) يعني: قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في جمالها ومنظرها البديع، وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صنع الله. ألا ترى أن الله تعالى أباح لك النظر إلى كل الثمار لتشاهد جمالها، ولم يبح لك الأكل إلا مما تملك؟ لذلك قال: {انظروا إلى ثمره... 99} (الأنعام) فإن لم تكونوا تملكونه، فكفاكم التمتع بالنظر إليه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أفرأيتم هذا الماء الذي يهطل من السماء، هل فكرتم في حقيقته وما هي عناصره ومكوّناته؟ وما هي الأسباب والقوانين التي حركته من مواقعه وأنزلته إلى الأرض في مواسم معينة، فتفاعل مع ترابها وبذورها، فأعطاها الحيوية والنموّ والحياة، حيث تحوّلت إلى حدائق وبساتين تبهج النفس وتسحر النظر؟ وهل كنتم تستطيعون أن تقوموا بذلك بجهدكم الخاص بعيداً عما هي القوانين الطبيعية التي أودعها الله في الأشياء؟ وهل يمكنكم أن تنبتوا شجرها؟ وماذا تملكون من قدرات ذاتية في ذلك كله؟ هل هناك إلا الله وحده الذي أبدع ذلك كله كما أبدع كل شيءٍ في الوجود؟ {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} ليكون شريكاً له في الألوهية وفي العبادة؟ وكيف يكون ذلك، فيمن لا يملك من مواقع القدرة وعناصر القوّة، في أيّ شيء، إلا ما أقدره الله عليه؟ وهل هو افتراض معقول؟