أي : هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده ؟ ومن يكشف السوء أي : البلاء والشر والنقمة إلا الله وحده ؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم أإله مع الله يفعل هذه الأفعال ؟ لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك حتى بإقراركم أيها المشركون ، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه وإزالته ، { قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } أي : قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادَّكرتم ورجعتم إلى الهدى ، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم فلذلك ما ارعويتم ولا اهتديتم .
ثم تنتقل السورة - للمرة الثالثة - إلى لفت أنظارهم إلى الحقيقة التى هم يحسونها فى خاصة أنفسهم ، وفى حنايا قلوبهم فتقول : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء } .
والمضطر : اسم مفعول من الاضطرار الذى هو افتعال من الضرورة .
والمراد به : الإنسان الذى نزلت به شدة من الشدائد . جعلته يرفع أكف الضراعة إلى الله - تعالى - لكى يكشفها عنه .
أى : وقولوا لنا - أيها المشركون - : من الذين يجيب دعوة الداعى المكروب الذى نزلت به المصائب والرزايا ؟ ومن الذى يكشف عنه وعن غيره السوء والبلاء ؟ إنه الله وحده ، هو الذى يجيب دعاء من التجأ إليه ، وهو وحده - سبحانه - الذى يكشف السوء عن عباده ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته .
وقولوا لنا - أيضا - : من الذى { يَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض } أى : من الذى يجعلكم يخلف بعضكم بعضا . قرنا بع قرن وجيلا بعد جيل { أإله مَّعَ الله } هو الذى فعل ذلك .
كلا ، بل الله وحده - عز وجل - هو الذى يجيب المضطر ، وهو الذى يكشف السوء ، وهو الذي يجعلكم خلفاء الأرض ، ولكنكم { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أى : ولكنكم زمانا قليلا هو الذى تتذكرون فيه نعم الله - تعالى - عليكم ، ورحمته بكم .
وختم - سبحانه - هذه الآية بتلك الجملة الحكيمة ، لأن الإنسان من شأنه - إلا من عصم الله - أنه يذكر الله - تعالى - عند الشدائد ، وينساه عند الرخاء .
وصدق الله إذ يقول : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ }
ثم ينتقل بهم من مشاهد الكون إلى خاصة أنفسهم :
( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، ويجعلكم خلفاء الأرض ? أإله مع الله ? قليلا ما تذكرون ) . .
فيلمس وجدانهم وهو يذكرهم بخوالج أنفسهم ، وواقع أحوالهم .
فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة ، وتشتد الخنقة ، وتتخاذل القوى ، وتتهاوى الأسناد ؛ وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص . لا قوته ، ولا قوة في الأرض تنجده . وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى ؛ وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى . . في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة ، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء . فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه . هو وحده دون سواه . يجيبه ويكشف عنه السوء ، ويرده إلى الأمن والسلامة ، وينجييه من الضيقة الآخذة بالخناق .
والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء ، وفترات الغفلة . يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة . فأما حين تلجئهم الشدة ، ويضطرهم الكرب ، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة ، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين .
والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم ، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل . حقائق خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، وإنبات الحدائق البهيجة ، وجعل الأرض قرارا ، والجبال رواسي ، وإجراء الأنهار ، والحاجز بين البحرين . فالتجاء المضطر إلى الله ، واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق . هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء .
ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) . .
فمن يجعل الناس خلفاء الأرض ? أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا . ثم جعلهم قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء ?
أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض ، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها ، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى . النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا ؛ والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروفالمساعدة للحياة . ولو اختل شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلا .
وأخيرا أليس هو الله الذي قدر الموت والحياة ، واستخلف جيلا بعد جيل ؛ ولو عاش الأولون لضاقت الأرض بهم وبالآخرين ؛ ولأبطأ سير الحياة والحضارة والتفكير ، لأن تجدد الأجيال هو الذي يسمح بتجدد الأفكار والتجارب والمحاولات ، وتجدد أنماط الحياة ، بغير تصادم بين القدامى والمحدثين إلا في عالم الفكر والشعور . فأما لو كان القدامى أحياء لتضخم التصادم والاعتراض ! ولتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام !
إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق . فمن الذي حقق وجودها وأنشأها ? من ?
إنهم لينسون ويغفلون هذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس ، مشهودة في واقع الحياة :
ولو تذكر الإنسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الأولى . ولما غفل عن ربه ، ولا أشرك به أحدا .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوَءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرْضِ أَإِلََهٌ مّعَ اللّهِ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أم ما تُشركون بالله خير ، أم الذي يجيب المضطّر إذا دعاه ، ويكشف السوء النازل به عنه ؟ كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَيَكْشِفُ السّوءَ قال : الضرّ .
وقوله : { ويجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأرْضِ }يقول : ويستخلف بعد أمرائكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم . وقوله : أءِلَهٌ مَعَ اللّهِ يقول : أءِلَهٌ مع الله سواه يفعل هذه الأشياء بكم ، وينعم عليكم هذه النعم ؟ وقوله : قَلِيلاً ما تَذَكّرُونَ يقول : تذكّرا قليلاً من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا ، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته .
{ أمن يجيب المضطر إذا دعاه } المضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجوء إلى الله تعالى من الاضطرار ، وهو افتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر . { ويكشف السوء } ويدفع عن الإنسان ما يسوءه . { ويجعلكم خلفاء الأرض } خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم . { أإله مع الله } الذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة . { قليلا ما تذكرون } أي تذكرون آلاءه تذكرا قليلا ، وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة . وقرأ أبو عمرو وهشام وروح بالياء وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال .
وقفهم في هذه الآية على المعاني التي تبين لكل عاقل أنه لا مدخل لصنم ولا لوثن فيها وهي عبر ونعم ، فالحجة قائمة بها من الوجهين ، وقوله تعالى : { يجيب المضطر } معناه بشرط إن شاء على المعتقد في الإجابة ، لكن { المضطر } لا يجيبه متى أجيب إلا الله عز وجل ، و { السوء } عام في كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده ، وقرأ الحسن «ويجعلكم » بياء على صيغة المستقبل ورويت عنه بنون ، وكل قرن خليف للذي قبله{[9048]} .
وقرأ جمهور القراء «تذكرون » بالتاء على المخاطبة ، وقرأ أبو عمرو وحده{[9049]} والحسن والأعمش بالياء على الغيب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} يعني: الضر {ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله} يعينه على صنعه {قليلا ما تذكرون} يقول: ما أقل ما تذكرون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أم ما تُشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطّر إذا دعاه، ويكشف السوء النازل به عنه؟...
وقوله: {ويجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأرْضِ} يقول: ويستخلف بعد أمرائكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم.
وقوله:"أإلَهٌ مَعَ اللّهِ" يقول: أإلَهٌ مع الله سواه يفعل هذه الأشياء بكم، وينعم عليكم هذه النعم؟
وقوله: "قَلِيلاً ما تَذَكّرُونَ "يقول: تذكّرا قليلاً من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون، وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا، فلذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض} يخرج على الصلة بقوله {آلله خير أما يشركون} كأنه يقول: من يملك إجابة المضطر وكشف السوء عنه وجعلكم الخلفاء في الأرض خير أمن لا يملك من ذلك شيئا؟ فجواب ذلك أن يقولوا: بل الذي يملك ذلك خير ممن لا يملك ولا يقدر ذلك. أو يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما:
أحدهما: أنكم تعلمون أن الذي يجيب المضطر، ويكشف السوء، هو الله تعالى، لا الأصنام التي تعبدونها، فكيف أشركتموها في الإلهية والعبادة؟
والثاني: أنه إذا أجاب دعوة المضطر، وكشف السوء عنه، وجعلكم خلفاء الأرض بعد هلاك أوائلكم، فيدل ذلك أنه واحد لا عدد؛ إذ لو كان فعل عدد لكان إذا أجاب هذا، وكشف السوء، رد الآخر، ومنع. فدل بقاء ذلك كله واتساق الأمر أنه واحد، لا شريك له.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} أي المجهود، عن ابن عباس. وقال السدّي: المضطرّ الذي لا حول له ولا قوّة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} وإنما خص إجابة المضطر لأمرين:
أحدهما: لأن رغبته أقوى وسؤاله أخضع.
الثاني: لأن إجابته أعم وأعظم لأنها تتضمن كشف بلوى وإسداء نعمى.
{وَيَكْشِفُ السُّوءَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون عن المضطر بإجابته.
الثاني: عمن تولاه ألاَّ ينزل به. وفي {السُّوءَ} وجهان:
أحدهما: الضر. الثاني: الجور، قاله الكلبي.
{وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: خلفاً من بعد خلف، قاله قتادة. الثاني: أولادكم خلفاء منكم، حكاه النقاش...
{قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ} أي ما أقل تذكركم لنعمة الله عليكم!
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فَصَلَ بين الإجابة وبين كَشْفِ السوء؛ فالإجابةُ بالقَولِ، والكشفُ بالطَّوْلِ، الإجابة بالكلام والكشفُ بالإنعام. ودعاءُ المضطر لا حجابَ له، وكذلك دعاء المظلوم ولكن {لِكُلِّ أَجِلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]. ويقال: للجناية سِراية؛ فَمَنْ كان في الجناية مختاراً فليس تُسلَّم له دعوى الاضطرار عند سراية جُرْمِه الذي سَلَفَ منه وهو مختارٌ فيه، فأكثر الناس يتوهمون أنهم مضطرون، وذلك الاضطرار سراية ما بَدَرَ منهم في حال اختيارهم. وما دام العبدُ يتوهم من نفسه شيئاً من الحَوْلَ والحيلة، ويرى لنفسه شيئاً من الأسباب يعتمد عليه أو يستند إليه -فليس بمضطرٍ، فالمضطرُّ يرى نَفْسَه كالغريق في البحر، أو الضَّالِّ في المتاهة، وهو يرى عِنَانَه بيد سَيِّدِه، وزِمَامه في قبضته، فهو كالميت بين يدي غاسِله، وهو لا يرى لنفسه استحقاقاً للنجاة؛ لاعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط، ولا يقرأ اسمه إلا من ديوان الشقاوة. ولا ينبغي للمضطر أن يستعين بأحدٍ في أن يدعوَ له، لأنَّ اللَّهَ وَعَدَ الإجابة له... لا لمن يدعو له...
ثم قال: {أَإلَه مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} لأنَّ العبدَ إذا زَالَ عُسْرهُ، وكُشِفَ عنه ضُرُّه نَسِيَ ما كان فيه، وكما قال القائل:
كأنَّ الفتى لم يَعْرَ يوماً إذا اكتسى *** ولم يَكُ صعلوكاً إذا ما تَمَوَّلاَ
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الضرورة: الحالة المحوجة إلى اللجإ. والاضطرار: افتعال منها. يقال: اضطرّه إلى كذا، والفاعل والمفعول: مضطر. والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله...
وقيل: المذنب إذا استغفر. فإن قلت: قد عم المضطرين بقوله: {يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} وكم من مضطرّ يدعوه فلا يجاب؟ قلت؛ الإجابة موقوفة على أن يكون المدعوّ به مصلحة، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطاً فيه المصلحة. وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقاً، يصلح لكله ولبعضه، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل، وقد قام الدليل على البعض وهو الذي إجابته مصلحة، فبطل التناول على العموم...
وما مزيدة، أي: يذكرون تذكراً قليلاً. والمعنى: نفي التذكر، والقلة تستعمل في معنى النفي.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقفهم في هذه الآية على المعاني التي تبين لكل عاقل أنه لا مدخل لصنم ولا لوثن فيها وهي عبر ونعم، فالحجة قائمة بها من الوجهين، وقوله تعالى: {يجيب المضطر} معناه بشرط إن شاء على المعتقد في الإجابة، لكن {المضطر} لا يجيبه متى أجيب إلا الله عز وجل، و {السوء} عام في كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... ضمن الله تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجاء ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده سبحانه موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر؛ كما قال تعالى:"حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين" [يونس: 22] وقوله: "فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون "[العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم ووقوع إخلاصهم، مع علمه أنهم يعودون إلى شركهم وكفرهم. وقال تعالى: "فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين" فيجيب المضطر لموضع اضطراره وإخلاصه. وفي الحديث: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد على ولده) ذكره صاحب الشهاب، وهو حديث صحيح. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن (واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب)...
فالمظلوم مضطر، ويقرب منه المسافر؛ لأنه منقطع عن الأهل والوطن منفرد عن الصديق والحميم، لا يسكن قلبه إلى مُسعد ولا معين لغربته. فتصدق ضرورته إلى المولى، فيخلص إليه في اللجاء، وهو المجيب للمضطر إذا دعاه، وكذلك دعوة الوالد على ولده، لا تصدر منه مع ما يعلم من حنته عليه وشفقته، إلا عند تكامل عجزه عنه، وصدق ضرورته، وإياسه عن بر ولده، مع وجود أذيته، فيسرع الحق إلى إجابته..
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ويكشف}: هو كل ما يسوء، وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر، وهو خاص إلى أعم، وهو ما يسوء، سواء كان المكشوف عنه في حالة الاضطرار أو فيما دونها...
وقوله: {ويجعلكم خلفاء الأرض}: انتقال من حالة المضطر إلى رتبة مغايرة لحالة الاضطرار، وهي حالة الخلافة، فهما ظرفان. وكم رأينا في الدنيا ممن بلغ حالة الاضطرار ثم صار ملكاً متسلطاً.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} أي: أمة بعد أمة، وجيلا بعد جيل، وقومًا بعد قوم. ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد، ولم يجعل بعضَهم من ذرية بعض، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين، كما خلق آدم من تراب... {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} أي: يقدر على ذلك، أو إله مع الله يُعْبد، وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك {قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} أي: ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق، ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دلهم بآيات الآفاق، وكانت كلها من أحوال السراء، وكانت بمعرض الغفلة عن الإله، ذكرهم بما في أنفسهم مما يوجبه تغير الأحوال الدالة بمجردها على الإله، ويقتضي لكل عاقل صدق التوجه إليه، وإخلاص النية لديه، والإقبال عليه، على ذلك ركزت الطباع، وانعقد الإجماع، فلم يقع فيه نزاع، فقال: {أمن يجيب المضطر} أي جنس الملجأ إلى ما لا قبل له به، الصادق على القليل والكثير إذا أراد إجابته كما تشاهدون، وعبر فيه وفيما بعده بالمضارع لأنه مما يتجدد، بخلاف ما مضى من خلق السماوات وما بعده {إذا دعاه} أي حين ينسيكم الضر شركاءكم، ويلجئكم إلى من خلقكم ويذهل المعطل عن مذهبه ويغفله عن سوء أدبه عظيمُ إقباله على قضاء أربه. ولما كانت الإجابة ذات شقين، جلب السرور، ودفع الشرور، وكان النظر إلى الثاني أشد، خصه بادئاً به فقال: {ويكشف السوء} ثم أتبعه الأول على وجه أعم، فقال مشيراً إلى عظيم المنة عليهم بجعلهم مسلطين عالين على جميع من في الأرض وما في الأرض مشرفين بخلافته سبحانه، ولذلك أقبل عليهم، {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي فيما يخلف بعضكم بعضاً، لا يزال يجدد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة. ولما كان هذا أبين، كرر الإنكار فيه مبكتاً لهم بالنسيان فقال: {أإله} أي كائن أو موجود {مع الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له. ثم استأنف التبكيت تفظيعاً له ومواجهاً به في قراءة الجماعة لما يؤذن به كشف هذه الأزمات من القرب المقتضي للخطاب، ولذلك أكد بزيادة "ما "فقال: {قليلاً ما تذكرون} أي بأن من أنجاكم من ذلك وحده حين أخلصتم له التوجه عند اشتداد الأمر هو المالك لجميع أموركم في الرخاء كما كان مالكاً له في الشدة، وأن الأصنام لا تملك شيئاً بشفاعة ولا غيرها كما لم تملك شيئاً في اعتقادكم عند الأزمات، واشتداد الكربات، في الأمور المهمات، فإن هذا قياس ظاهر، ودليل باهر، ولكن من طبع الإنسان نسيان ما كان فيه من الضير، عند مجيء الخير، ومن قرأ بالتحتانية وهم أبو عمرو وهشام وروح، فللإيذان بالغضب الأليق بالكفران، مع عظيم الإحسان..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ينتقل بهم من مشاهد الكون إلى خاصة أنفسهم: (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض؟ أإله مع الله؟ قليلا ما تذكرون).. فيلمس وجدانهم وهو يذكرهم بخوالج أنفسهم، وواقع أحوالهم. فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد؛ وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص. لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده. وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى؛ وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى.. في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء. فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه. يجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق. والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، وفترات الغفلة. يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة. فأما حين تلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين. والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل. حقائق خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإنبات الحدائق البهيجة، وجعل الأرض قرارا، والجبال رواسي، وإجراء الأنهار، والحاجز بين البحرين. فالتجاء المضطر إلى الله، واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق. هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء. ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم: (ويجعلكم خلفاء الأرض).. فمن يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا. ثم جعلهم قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء؟ أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى. النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا؛ والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروف المساعدة للحياة. ولو اختل شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلا. وأخيرا أليس هو الله الذي قدر الموت والحياة، واستخلف جيلا بعد جيل؛ ولو عاش الأولون لضاقت الأرض بهم وبالآخرين؛ ولأبطأ سير الحياة والحضارة والتفكير، لأن تجدد الأجيال هو الذي يسمح بتجدد الأفكار والتجارب والمحاولات، وتجدد أنماط الحياة، بغير تصادم بين القدامى والمحدثين إلا في عالم الفكر والشعور. فأما لو كان القدامى أحياء لتضخم التصادم والاعتراض! ولتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام! إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق. فمن الذي حقق وجودها وأنشأها؟ من؟ (أإله مع الله؟).. إنهم لينسون ويغفلون هذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس، مشهودة في واقع الحياة: (قليلا ما تذكرون)! ولو تذكر الإنسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الأولى. ولما غفل عن ربه، ولا أشرك به أحدا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ارتقى الاستدلال من التذكير بالتصرف الرباني في ذوات المخلوقات إلى التذكير بتصرفه في أحوال الناس التي لا يخلو عنها أحد في بعض شؤون الحياة وذلك حال الاضطرار إلى تحصيل الخير، وحال انتياب السوء، وحال التصرف في الأرض ومنافعها. فهذه ثلاثة أنواع لأحوال البشر. وهي: حالة الاحتياج، وحالة البؤس، وحالة الانتفاع.
فالأولى: هي المضمنة في قوله {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} فالمضطر هو ذو الضرورة أي الحالة المحوجة إلى الأشياء العسرة الحصول... واللام في {المضطر} لتعريف الجنس المسمى بلام العهد الذهني، أي يجيب فرداً معهوداً في الذهن بحالة الاضطرار. والإجابة: إعطاء الأمر المسؤول. والمعنى: أن المضطر إذا دعا لتحصيل ما اضطر إليه فإنه لا يجيبه إلا الله بقطع النظر عن كونه يجيب بعضاً ويؤخر بعضاً...
وحالة البؤس: هي المشار إليها بقوله {ويكشف السوء...
والمعنى: إن الله يكشف السوء عن المسوء إذا دعاه أيضاً فحذف من الجملة المعطوفة لدلالة ما ذكر مع الجملة المعطوف عليها، أي يكشف السوء عن المستاء إذا دعاه...
وحالة الانتفاع: هي المشار إليها بقوله {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي يجعلكم تعمرون الأرض وتجتنون منافعها، فضمن الخلفاء معنى المالكين فأضيف إلى الأرض على تقدير: مالكين لها، والملك يستلزم الانتفاع بما ينتفع به منها. وأفاد خلفاء بطريق الالتزام معنى الوراثة لمن سبق، فكل حي هو خلف عن سلفه. والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلاً بعد جيل. وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} فهو الذي يرجع إليه المضطر إذا ضاقت به الأمور، واشتدت عليه الضغوط، وكثرت حوله التحديات، وتعقدت أمامه المشاكل حتى بدأ يحس بالاختناق، ويشعر بالحصار الذي يطوِّقه من جميع الجهات، فيرجع إلى ربه في إحساسٍ خفيٍّ بالحاجة إليه، وبأنه وحده الذي يملك التخفيف عنه، والإِجابة له، وكشف السوء عنه، من خلال الوسائل الطبيعية التي أعدّها الله في الكون والحياة، أو من خلال الوسائل غير الطبيعية التي يهيّئها له من غامض علمه، وخفايا قدرته. فقد تكفل الله لعباده باستجابة الدعاء، وأرادهم أن يتوجهوا إليه بذلك كلما وقعوا في الاضطرار، ووقعوا في قبضة السوء والبلاء. فمن هو القادر على ذلك كله، وهل يملك غيره ممن تدعونهم من دون الله، القدرة على تحقيق أماني العباد ومطالبهم واستجابة دعائهم في كل ذلك؟ وقد أراد الله لعباده أن يشعروا دائماً بالحاجة إليه في كل مواقع الضعف والشدّة والبلاء، وبالارتباط به في كل أوضاعهم الخاصة والعامة، وبالحقيقة الإيمانية التي توحي إليهم بأنه وحده هو سرّ الفرج والعافية والحياة، كما أراد لهم أن يتحسسوا ذلك في مشاعرهم، ويدركوه في عقولهم، ويعبروا عنه بألسنتهم، ويحركوه في حياتهم في وقوفهم بين يديه، وابتهالهم إليه بالدعاء، وركوعهم وسجودهم أمامه، في ما يثير في وجدانهم التواصل معه حتى في القضايا الصغيرة التي تمر بحياتهم. وقد وعدهم الله بالإجابة في رفع اضطرار المضطر وكشف السوء عن المبتلى، وتفريج كرب المكروب، وتنفيس غم المغموم، في ما ينزل عليهم من ألطافه، ويحركه في حياتهم من أسبابه، وفي ما يهيئ لهم من الوسائل الكفيلة بذلك من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، فهو يعرف شؤونهم، وعمق حياتهم، والمصلحة في ذلك كله، لأنهم قد يطلبون ما يرغبون فيه مما لا يتناسب مع مصلحتهم، وقد يحسبون ما لا خير فيه، خيراً لهم...
{وَيَجْعَلُكُمْ خلَفاءَ الأرض} في ما يمهّده لكم فيها من ساحات الحياة، ويمكنكم فيها من القدرات التي تستطيعون من خلالها أن تحرِّكوا كل عناصرها وتنظّموا أوضاعها، وتقودوا حركتها، وما يسخره لكم منها من قوى وقوانين، بحيث تخضع لكل ما تريدون وتحبون. وتلك هي الكرامة التي أكرمكم فيها الله من موقع إنسانيتكم، فجعل الأرض تحت تصرفكم واختياركم في ما أراده لكم من حركةٍ وخطة حياة، وحمّلكم من عبء المسؤوليّة في وعي الرسالة في امتداد الأرض وامتداد الزمن، بحيث جعل لكل جيل منكم مرحلةً يخلف فيها الجيل المتأخر الجيل المتقدم، لتبقى مسألة الخلافة في الأرض للإنسان، ساحةً للمسؤولية العامة، وحركةً في معنى الزمن الذي لا يعيش الفراغ في كل مواقعه من حركة الإنسان فيه، وبذلك كانت علاقة الإنسان بالله تنطلق في عمق الحاجة إليه، حيث يلجأ إليه ليكشف عنه السوء في كل ما يعرض له من مشاكل الحياة وآلامها عندما تضيق به الأمور، فلا يجد ملجأً إلا في رحاب الله، وفي ما يمهده له من خلافة الأرض، ما يجعل وجوده فيها وحركته في ساحتها خاضعاً لإرادته في كل شيء، فكيف يغفل الإنسان عن ذلك كله فينسى ربّه؟ وهل يملك لنفسه شيئاً بعيداً عن إرادة الله الذي يحيط بوجوده كله؟ {أإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أيّها الغافلون الذين يكفرون بالله، ويستغرقون في شهواتهم وملذاتهم وأوضاعهم اللاهية، فيعيشون في غيبوبة النسيان، ولا يدركون ما هناك من مسؤوليات وما ينتظرهم من النتائج الصعبة في يوم القيامة.