قوله تعالى : { ويسبح الرعد بحمده } ، أكثر المفسرين على أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب ، والصوت المسموع منه تسبيحه . قال ابن عباس : من سمع صوت الرعد فقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير ، فإن أصابته صاعقة فعلي ديته . وعن عبد الله بن الزبير : أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث . وقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . ويقول إن هذا لوعيد لأهل الأرض شديد . وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى : { لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد } وقال جوبير عن الضحاك عن ابن عباس : الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر ، وأن بحور الماء في نقرة إبهامه ، وأنه يسبح الله تعالى ، فإذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر . { والملائكة من خيفته } ، أي : تسبح الملائكة من خيفة الله عز وجل وخشيته . وقيل أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد ، جعل الله تعالى له أعوانا ، فهم خائفون خاضعون طائعون . قوله تعالى : { ويرسل الصواعق } ، جمع صاعقة ، وهي : العذاب المهلك ، ينزل من البرق فيحرق من يصيبه ، { فيصيب بها من يشاء } ، كما أصاب أربد بن ربيعة . وقال محمد بن علي الباقر : الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر . { وهم يجادلون } ، يخاصمون ، { في الله } ، نزلت في شأن أربد بن ربيعة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم مم ربك ؟ أمن در أم من ياقوت أم من ذهب ؟ فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته . وسئل الحسن عن قوله عز وجل : { يرسل الصواعق } الآية ، قال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله وإلى رسوله . فقال لهم : أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه مم هو ؟ من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه ! فقال : ارجعوا إليه ، فرجعوا إليه ، فجل يزيدهم على مثل مقالته الأولى ، وقال أأجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه ؟ فانصرفوا وقالوا : يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث . فقال ارجعوا إليه ، فرجعوا ، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه ، وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة ، فكانت فوق رؤوسهم ، فرعدت وبرقت ، ورمت بصاعقة ، فاحترق الكافر ، وهم جلوس ، فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستقبلهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لهم : احترق صاحبكم ، فقالوا : من أين علمتم فقالوا أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله } . { وهو شديد المحال } ، قال علي رضي الله عنه : شديد الأخذ . وقال ابن عباس : شديد الحول . وقال الحسن : شديد الحقد وقال مجاهد : شديد القوة . وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة . وقيل : شديد المكر . والمحال والمماحلة : المماكرة والمغالبة .
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد ، فهو خاضع لربه مسبح بحمده ، { و } تسبح { الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي : خشعا لربهم خائفين من سطوته ، { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ } وهي هذه النار التي تخرج من السحاب ، { فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } من عباده بحسب ما شاءه وأراده وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ أي : شديد الحول والقوة فلا يريد شيئا إلا فعله ، ولا يتعاصى عليه شيء ولا يفوته هارب .
فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب التي فيها مادة أرزاقهم ، وهو الذي يدبر الأمور ، وتخضع له المخلوقات العظام التي يخاف منها ، وتزعج العباد وهو شديد القوة - فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له .
ولهذا قال : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }
وقوله - سبحانه - { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته .
والرعد : اسم للصوت الهائل الذي يسمع إثر تفجير شحنة كهربية في طبقات الجو .
وعطف - سبحانه - الرعد على البرق والسحاب ، لأنه مقارن لهما في كثير من الأحوال . والتسبيح : مشتق من السبح وهو المرور السريع في الماء أو في الهواء وسمى الذاكر الله - تعالى - مسبحا ، لأنه مسرع في تنزيهه سبحانه عن كل نقص .
وتسبيح الرعد - وهو هذا الصوت الهائل - بحمد الله ، يجب أن نؤمن به ، ونفوض كيفيته إلى الله - تعالى - لأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا هو - سبحانه - وقد بين لنا - سبحانه - في كتابه أن كل شئ يسبح بحمده فقال : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } وقد فصل القول في معنى هذه الجملة الكريمة الإِمام الآلوسى فقال - رحمه الله - ما ملخصه :
وقوله : { وَيُسَبِّحُ الرعد } قيل هو اسم للصوت المعلوم ، والكلام على حذف مضاف أى : ويسبح سامعو الرعد بحمده - سبحانه - رجاء للمطر .
ثم قال : والذى اختاره أكثر المحدثين كون الإِسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب ، فقد أخرج أحمد والترمذى وصححه والنسائى وآخرون عن ابن عباس أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أخبرنا ما هذا الرعد ؟ فقال : " ملك من ملائكة الله - تعالى - موكّل بالسحاب ، بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله - تعالى - قالوا .
فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال صوته - قالوا : صدقت " .
ثم قال : واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره ، وقد نكر في سورة البقرة في قوله - تعالى - { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } وأجيب بأن له إطلاقين : ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت ، والتنكير على هذا الإطلاق . . .
والذى نراه أن تسبيح الرعد بحمد الله يجب الإِيمان به ، سواء أكان الرعد اسما لذلك الصوت المخصوص ؛ أم اسما لملك من الملائكة ، أما كيفية هذا التسبيح فمردها إلى الله .
قال الإِمام الشوكانى : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } أى يسبح الرعد نفسه بحمد الله . أى متلبسا بحمده ، وليس هذا بمستبعد ، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك .
وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك ، ويكون ذكره على الإِفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له . وعناية به
وقال الإِمام ابن كثير : قال الإِمام أحمد : حدثنا عفان . . عن سالم عن أبيه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع الرعد والصواعق قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق . . عن أبى هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع صوت الرعد قال : " سبحان من يسبح الرعد بحمده " .
وقوله - سبحانه - { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } نوع رابع من الأدلة الدالة على وحدانية الله وقدرته . أى ويسبح الرعد بحمد الله ، ويسبح الملائكة - أيضا - بحمد الله ، خوفا منه - تعالى - وإجلالا لمقامه وذاته .
و { من } في قوله - تعالى { مِنْ خِيفَتِهِ } للتعليل ، أى : يسبحون لأجل الخوف منه . وقوله { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } نوع خامس من الظواهر الكونية الدالة على كما قدرته - سبحانه - .
والصواعق جمع صاعقة ، وهى - كما يقول ابن جرير - كل أمر هائل رآه الرائى أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل . . .
والمراد بها هنا : النار النازلة من السماء .
أى ويرسل - سبحانه - الصواعق المهلكة فيصيب بها من يشاء إصابته من خلقه .
وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت في رجل من طواغيت العرب ، بعث النبى - صلى الله عليه وسلم - نفرا يدعونه إلى الإِسلام ، فقال لهم : أخبرونى عن رب محمد ما هو ، أمن فضه أم من حديد ؟
فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة فأهلكت الكافر وهم جلوس .
رجعوا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فاستقبلهم بعض الصحابة فقالوا لهم : احترق صاحبكم ؟ فقالوا : من أين علمتم ؟ قالوا : أوحى الله إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ }
وضمير الجماعة في قوله { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } يعود إلى أولئك الكافرين الذين سبق أن ساق القرآن بعض أقوالهم الباطلة ، والتى منها قولهم : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } والمجادلة : المخاصمة والمراجعة بالقول .
والمراد بمجادلتهم في الله : تكذيبهم للنبى - صلى الله عليه وسلم - فيما أمرهم به من وجوب إخلاص عبادتهم لله - تعالى - وإيمانهم بيوم القيامة وما فيه من ثواب وعقاب .
والمحال : الكيد والمكر ، والتدبير والقوة ، والعقاب . . يقال : محل فلان بفلان - بتثليث الحاء - محلا ومحالا ، إذا كاده وعرضه للهلاك .
قال القرطبى : قال ابن الأعرابى : المحال المكر وهو من الله - تعالى - التدبير بالحق أو إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر .
وقال الأزهرى : المحال : أى القوة والشدة .
وقال أبو عبيد : المحال : العقوبة والمكروه .
أى : أن هؤلاء الكافرين يجادلونك - أيها الرسول في ذات الله وفى صفاته ، وفى وحدانيته ، وفى شأن البعث ، وينكرون ما جئتهم به من بينات والحال أن الله - تعالى - { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ }
والرعد . . الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد . . هذا الصوت المقرقع المدوي . إنه أثر من آثار الناموس الكوني ، الذي صنعه الله - أيا كانت طبيعته وأسبابه - فهو رجع صنع الله في هذا الكون ، فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام . كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته من جمال وإتقان . . وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلا ، ويكون الرعد( يسبح )فعلا بحمد الله . فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا القليل !
وقد اختار التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق ، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله - كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن - والمشهد هنا مشهد أحياء في جو طبيعي . وفيه الملائكة تسبح من خيفته ، وفيه دعاء لله ، ودعاء للشركاء . وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه . . ففي وسط هذا المشهد الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء . .
ثم يكمل جو الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال . . بالصواعق يرسلها فيصيب بها من يشاء . والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال ؛ والله يصيب بها أحيانا من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم ، لعلمه أن لا خير في إمهالهم ، فاستحقوا الهلاك . .
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق ، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه . . في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال :
( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) !
وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق ، الناطقة كلها بوجود الله - الذي يجادلون فيه - وبوحدانيته واتجاه التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل ، ومن الملائكة الذين يسبحون من خيفته [ وللخوف إيقاعه في هذا المجال ] فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ? !
ومعنى قوله : وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ ويعظم الله الرعدُ ويمجده ، فيثنى عليه بصفاته ، وينزّهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد ، تعالى ربنا وتقدّس .
وقوله : مِنْ خِيفَتِهِ يقول : وتسبح الملائكة من خيفة الله ورهبته .
وأما قوله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فقد بيّنا معنى الصاعقة فيما مضى بما أغنى عن إعادته بما فيه الكفاية من الشواهد ، وذكرنا ما فيها من الرواية .
وقد اختلف فيمن أنزلت هذه الآية ، فقال بعضهم : نزلت في كافر من الكفار ذَكَرَ الله تعالى وتقدس بغير ما ينبغي ذكره ، فأرسل عليه صاعقة أهلكته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفانُ ، قال : حدثنا أبانُ بن يزيد ، قال : حدثنا أبو عمران الجونيّ ، عن عبد الرحمن بن صحُار العبديّ ، أنه بلغه أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جبّار يدعوه ، فقال : «أرأيتم ربكم ، أذهبٌ هو أم فضة هو أم لؤلؤ هو ؟ »قال : فبينما هو يجادلهم ، إذ بعث الله سحابة فرعدت ، فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقَحْف رأسه فأنزل الله هذه الآية : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : جاء يهودي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : أخبرني عن ربك من أيّ شيء هو ، من لؤلؤ أو من ياقوت ؟ فجاءت صاعقة فأخذته ، فأنزل الله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحمّاني ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي رَوق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد حدثني مَنْ هذا الذي تدعو إليه ، أياقوت هو ، أذهب هو ، أم ما هو ؟ قال : فنزلت على السائل الصاعقة فأحرقته ، فأنزل الله : وَيُرسِلُ الصّوَاعِقَ . . . الآية .
حدثنا محمد بن مرزوق ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، قال : ثني عليّ بن أبي سارة الشيبانيّ ، قال : حدثنا ثابت البُنَاني ، عن أنس بن مالك ، قال : بَعَث النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّة رجلاً إلى رجل من فراعنة العرب ، أن ادعه لي ، فقال : يا رسول الله ، إنه أعتى من ذلك ، قال : «اذْهَبْ إليه فادْعُهُ » قال : فأتاه ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك ، فقال : من رسول الله ، وما الله ؟ أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من نحاس ؟ قال : فأتى الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ارْجِعْ إلَيْهِ فادْعُهُ » قال : فأتاه فأعاد عليه وردّ عليه مثل الجواب الأوّل ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : «ارْجِعْ إلَيْهِ فادْعُهُ » قال : فرجع إليه . فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما ، إذ بعث الله سحابة بحِيال رأسه فرعدت ، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحْف رأسه ، فأنزل الله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
وقال آخرون : نزلت في رجل من الكفار أنكر القرآن وكذّب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن وكذّب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ ، وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ .
وقال آخرون : نزلت في أربَدَ أخي لَبيد بن ربيعة ، وكان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : نزلت ، يعني قوله : وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بها مَنْ يَشاءُ في أربدَ أخي لبيد بن ربيعة ، لأنه قَدم أربد وعامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال عامر : يا محمد أأُسِلم وأكون الخليفة من بعدك ؟ قال : «لا » قال : فأكون على أهل الوبَر وأنت على أهل المدر ؟ قال : «لا » ، قال : فما ذاك ؟ قال : «أُعْطِيكَ أعِنّةَ الخَيْلِ تُقَاتِلُ عَلَيْها ، فإنّكَ رَجُلٌ فَارِسٌ » قال : أو ليست أعنة الخَيلِ بيدي ؟ أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً من بني عامر وقال لأربد : إما أن تكفينيه وأضربه بالسيف ، وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف . قال أربد : أكَفيكه واضربه فقال عامر بن الطفيل : يا محمد إن لي إليك حاجة ، قال : «ادْنُ » ، فلم يزل يدنو ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ، «ادْنُ » حتى وضع يديه على ركبتيه وحنى عليه ، واستلّ أربد السيف ، فاستلّ منه قليلاً فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم بريقه ، تعوّذ بآية كان يتعوّذ بها ، فيبست يد أربد على السيف ، فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته ، فذلك قول أخيه :
أخْشَى على أرْبَدَ الحُتُوفَ ولا *** أرْهَبُ نَوْءَ السّماك والأسَدِ
فَجّعَنِي البَرْقُ والصّوَاعقُ بالْ *** فارِسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ النّجُدِ
وقد ذكرت قبلُ خبر عبد الرحمن بن زيد بنحو هذه القصة . وقوله : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ يقول : وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خصومتهم في الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم . وقوله : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ يقول تعالى ذكره والله شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه وعَتَا وتمادى في كفره . والمِحال : مصدر من قول القائل : ما حَلتُ فلانا فأنا أما حله مما حلة ومحالاً ، وفَعَلْتُ منه : مَحَلت أَمْحَل مَحْلاً : إذا عَرّض رجل رجلاً لما يهلكه ومنه قوله : «وما حِلٌ مُصَدّق » ومنه قول أعشى بني ثعلبة : فَرْعُ نَبْعٍ يَهْتَزّ فِي غُصُنِ المَجْدِ غزيرُ النّدَى شَدِيدُ المِحالِ
هكذا كان يُنشده معمر بن المثنى فيما حُدثت عن عليّ بن المغيرة عنه . وأما الرواة بعدُ فإنهم ينشدونه :
فَرْعُ فَرْعٍ يَهْتَزّ فِي غُصُنِ المَ *** جْدِ كثيرُ النّدَى عَظِيمُ المِحالِ
وفسّر ذلك معمر بن المثنى ، وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنكال ومنه قول الاَخر :
وَلَبّسَ بينَ أقْوَامٍ فُكُلّ *** أعدّ له الشّغازِبَ والمِحالا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا سيف ، عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ رضي الله عنه : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد الأخذ .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد القوّة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ أي القوّة والحيلة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : شَدِيدُ المِحالِ يعني : الهلاك ، قال : إذا محل فهو شديد . وقال قتادة : شديد الحِيلة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا رجل ، عن عكرمة : وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : المحال : جدال أربَدَ ، وهو شَدِيدُ المِحَالِ قال : ما أصاب أربدَ من الصاعقة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : وَهُوَ شَدِيدُ المِحال قال : قال ابن عباس : شديد الحَوْل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ قال : شديد القوّة . المحال : القوّة .
والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل المحال أنه الحيلة ، والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن : «وَهُوَ شَدِيدُ المَحَال » بفتح الميم ، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها مِحَالاً بكسر الميم ، ولكن قد يأتي على تقدير المَفْعلة منها ، فيكون مَحَالة ، ومن ذلك قولهم : «المرء يعجز لا مَحالة » ، والمحالة في هذا الموضع : المفعلة من الحيلة . فأما بكسر الميم ، فلا تكون إلا مصدرا ، من ما حلت فلانا أما حلهِ محالاً ، والمماحلة بعيدة المعنى من الحيلة ، ولا أعلم أحدا قرأه بفتح الميم . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول .
{ ويسبّح الرعد } ويسبح سامعوه . { بحمده } ملتبسين به فيضجون بسبحان الله والحمد لله ، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته ملتبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته . وعن ابن عباس رضي الله عنهما . سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال : " ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب " . { والملائكة من خيفته } من خوف الله تعالى وإجلاله وقيل الضمير ل { الرعد } . { ويُرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } فيهلكه . { وهم يجادلون في الله } حيث يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم ، والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل ، والواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله ، فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف ، فتنبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة فقتلته ، ورمى عامرا بغدة فمات في بيت سلولية ، وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ، فنزلت . { وهو شديد المِحال } الممالحة المكايدة لأعدائه ، من محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك ، ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة ، ولعل أصله المحل بمعنى القحط . وقيل فعال من المحل بمعنى القوة . وقيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال ، ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا في القوة والقدرة كقولهم : فساعد الله أشد و موساه أحد .
و { الرعد } ملك يزجر { السحاب } بصوته ، وصوته - هذا المسموع - تسبيح - و { الرعد } اسم الملك : وقيل : «الرعد » اسم صوت الملك وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع «الرعد » قال :
«اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك »{[6935]} وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره : أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا : سبحان من سبحت له وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع «الرعد » قال : «سبحان من سبح الرعد بحمده{[6936]} » وقال ابن أبي زكرياء : من قال - إذا سمع الرعد - سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقة .
وقيل في الرعد أيضاً إنه ريح تختنق بين السحاب - روي ذلك عن ابن عباس في غير ما ديوان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي فيه نظر ، لأنها نزعات الطبيعيين وغيرهم .
وروي أيضاً عن ابن عباس : أن الملك إذا غضب وزجر السحاب اصطدمت من خوفه فيكون البرق ، وتحتكّ فتكون الصواعق .
وقوله : { ويرسل الصواعق } الآية - قيل : إنه أدخلها في التنبيه على القدرة بغير سبب ساق ذلك . وقال ابن جريج : كان سبب نزولها قصة أربد أخي لبيد بن ربيعة لأمِّة وعامر بن الطفيل ، وكان من أمرهما - فيما روي - أنهما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه إلى أن يجعل الأمر بعده إلى عامر بن الطفيل ويدخلا في دينه - فأبى ، فقال عامر : فتكون أنت على أهل الوبر{[6937]} ، وأنا على أهل المدر - فأبى ، فقال له عامر : فماذا تعطيني ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أعطيك أعنة الخيل ، فإنك رجل فارس » ؛ فقال له عامر : والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً حتى آخذك ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يأبى الله ذلك وأبناء قيلة »{[6938]} ؛ فخرجا من عنده ، فقال أحدهما لصاحبه : لو قتلناه ما انتطح فيه عنزان ، فتآمر في الرجوع لذلك ، فقال عامر لأربد : أنا أشغله لك بالحديث واضربه أنت بالسيف ؛ فجعل عامر يحدثه وأربد لا يصنع شيئاً ؛ فلما انصرفا قال له عامر : والله يا أربد لا خفتك أبداً ولقد كنت أخافك قبل هذا ، فقال له أربد : والله لقد أردت إخراج السيف فما قدرت على ذلك ، ولقد كنت أراك بيني وبينه أفأضربك ؟ فمضيا للحشد على النبي صلى الله عليه وسلم فأصابت أربد صاعقة فقتلته ، ففي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخوه :
أخشى على أربد الحتوف ولا***أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بال*** فارس يوم الكريهة النجد{[6935]}
وروي عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن جباراً من جبابرة العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فقال : أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أو من ذهب ؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه{[6936]} .
وقال مجاهد : إن بعض اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناظره ، فبينما هو كذلك إذ نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت الآية فيه .
وقوله : { وهم يجادلون في الله } يجوز أن تكون إشارة إلى جدال اليهودي المذكور ، وتكون الواو واو حال ؛ أو إلى جدال الجبار المذكور . ويجوز - إن كانت الآية على غير سبب - أن يكون قوله : { وهم يجادلون في الله } إشارة إلى جميع الكفرة من العرب وغيرهم ، الذين جلبت لهم هذه التنبيهات .
و { المحال } : القوة والإهلاك ، ومنه قول الأعشى : [ الخفيف ]
فرع نبع يهتز في غصن المج *** د عظيم الندى شديد المحال{[6941]}
لا يغلبن صليبهم***ومحالهم عدواً محالك{[6942]}
وقرأ الأعرج والضحاك «المَحال » بفتح الميم بمعنى المحالة ، وهي الحيلة ، ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة ، وهذا كالاستدراج والمكر ونحوه وهذه استعارات في ذكر الله تعالى ، والميم إذا كسرت أصلية ، وإذا فتحت زائدة ، ويقال : محل الرجل بالرجل إذا مكر به وأخذه بسعاية شديدة{[6943]} .